الأرض: اللعنة والمستحيل
(إشكاليّة العلاقة بين الأرض والوجود اليهودي)
غاية البحث
يهدف هذا البحث لمقاربة الكيفيّة التي عليها الوجود اليهودي من جهة علاقة هذا الوجود مع الأرض ابتداءً من كونها (مادة خام / مشاع)، ووصولاً لكونها وطناً مخصصاً ومعيناً وتعيش عليه جماعة بشريّة.
ليس لهذه المقاربة أو المحاولة غايات محض فكريّة، بل تستهدف غايات إضافيّة ترتبط مباشرة بحضور الوجود اليهودي ودرجته في الوعي القومي، بعدما أُثقل هذا الوعي بسلسلة من الخيبات التي تم استقراء وقوعها لصالح تأكيد (الصفات الخارقة!) لمشروع الوجود اليهودي في أرضنا، فهو مشروع مرتّب ومُحضّر ودقيق ويتم تنفيذه وفق أوليات وبطرق وظروف مناسبة وملائمة، ويوظف في سبيل ذلك المؤيدين له والعاملين تحت لوائه والمُسخرين لأجل نصرته، فيُرى دائماً كـ (مشروع سوبرمان)… مشروع لا يُقاوم!!
انطلاقاً من هذا الترسيم الصارم والطاغي لمشروع (الوجود اليهودي) يتم دفع الوعي القومي للتسليم له بما يخطط وينفّذ ويستهدف منجزاً مشروعه كاملاً دون نقصان.
وفق هذه الخلفيّة، تحاول هذه المقاربة اكتشاف وكشف (المناطق الرخوة – الضعيفة) في مشروع (الوجود اليهودي)، دون أن تقدم اقتراحات محددة حول طريقة التعامل مع هذه المعطيات. يكتفي البحث باستكشاف المنطقة الرخوة الكبرى، ويحاول أن يشكّل دليلاً واضحاً لاستقراء الطريق الموصل إلى هذه المنطقة والتي تشكل الجزء الأعظم من المحتوى الإيديولوجي لمشروع الوجود اليهودي في أرضنا.
ملاحظات أولّية
أولاً- يعتمد البحث، الرواية الرسميّة التي تصدّرها الحركة الصهيونيّة عن الوجود اليهودي، باعتباره يعود إلى تلك القبيلة التي ظهرت في فلسطين قبل الميلاد، وتوصّلت إلى إقامة مملكة تم تدميرها في العام 70 م، ليتشتت اليهود في مختلف أنحاء الأرض.
الرواية تؤكد على أن يهود العالم أجمع يتحدرون من تلك القبيلة!
ثانياً- بناءً على ما سبق يتجه البحث لمقاربة علاقة الوجود اليهودي بالأرض، كما تظهر هذه العلاقة في الكتاب المؤسس – التوارة، (الديني والتاريخي) للجماعة اليهوديّة.
ثالثاً- ترد مفردات الرب، الإله، الله، في هذا البحث مراراً، ولكنها كلها تعني (يهوه) الإله الخاص باليهود الذي لا يشاركهم بعبادته غيرهم.
رابعاً- اعتمدنا في تصميم المقدمة المنهجيّة اعتماداً كاملاً على كتاب أنطون سعادة (نشوء الأمم).
مقدمة منهجيّة
قد يكون بحث العلاقة بين الأرض والوجود البشري لجهة اعتبار هذه العلاقة «إشكالية» من الأمور المستغربة وربما المستهجنة أيضاً على اعتبار أن مختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية أرّخت لهذه العلاقة وتعرّضت إلى سيرتها وكشفت قوانينها المتعددة ومناحي اتجاهاتها.
غير أن جملة من البديهيات العلمية تواجه هذا البحث ولعلها تفرض نفسها عليه بشكل يضعه أمامها وجهاً لوجه إلى الحدّ الذي يدفعنا إلى الظن أنَّ النظر في هذه البديهيات والانطلاق منها ليس إعادة صياغة جديدة لها في ضوء الإشكالية مطرح البحث فحسب، بل وربما شكّ في وجودها.
تتشكّل هذه (الجملة / النظام) من البديهيات التالية:
الأولى: الأرض شرط أوليّ حتميّ لوجود النوع البشريّ وبقائه، إنها شرط الحياة.
الثانية: طبيعة العلاقة بين الإنسان والأرض مزدوجة أو تفاعلية، وقد ابتدأ هذا التفاعل مسيرته الحاسمة مع اكتشاف الزراعة.
الثالثة: الاستقرار في أرض مخصصة ـ معينة من قبل جماعة معينة هو شرط لقيام العلاقة التفاعليّة بين هذا الجماعة وتلك الأرض.
الرابعة: يرتسم التاريخ الحضاري ـ الثقافي لجماعة معينة انطلاقاً من لحظة التفاعل، فيكون ذلك دلالة على ابتداء مسيرة التاريخ الفعلي لهذه الجماعة.
تشكّل هذه البديهيات الصياغة الأولى لنظام علاقة الجماعة البشرية مع الأرض وتعتبر هذه الصياغة العتبة ـ الركيزة التي يمكن إليها الاستناد في بحث نشوء وتطور هذه العلاقة وما أنتجته على صعيد التكوين الخاص لشخصية جماعة معينة وتطورها في التاريخ ابتداء من تشكيلاتها الابتدائيّة ووصولاً لارتقاء وجودها إلى مرتبة الأمة التي تشكّل ـ الآن ـ الصياغة الأخيرة للوجود الخاص للجماعات البشرية على كوكب الأرض.
ومن هنا فإن الاقتراب أو الابتعاد من / عن مرتبة الأمّة يصح اعتماده كقياس (دليل) لبحث كيفيّة / حالة وجود جماعة معينة وتكّون شخصيتها وميزاتها وسيرتها.
من جهتنا، سنعتمد هذا القياس في بحثنا هذا وذلك وفق التعريف الذي وضعه أنطون سعاده للأمة والذي جاء كما يلي: (الأمّة جماعة من البشر تحيا حياة موحّدة المصالح، موحّدة المصير، موحّدة العوامل النفسيّة ـ الماديّة، في قطر معين يكسبها تفاعلها معه في مجرى التطور، خصائص ومزايا تميزّها عن غيرها من الجماعات – كتاب نشوء الأمم، الفصل السابع، الإثم الكنعاني).
وكإسناد تكميليّ لهذا القياس سنقوم باعتماد قول آخر لأنطون سعاده جاء كما يلي:
(الترابط بين الأمّة والوطن هو المبدأ الوحيد الذي تتم به وحدة الحياة- كتاب المحاضرات العشر- شرح المبدأ الثالث).
تكتمل معنا بذلك هذه المقدّمة المنهجيّة العامة التي تشكّل الأساس الذي سنستند إليه في دراسة وتحليل المسألة الإشكاليّة (موضع البحث) والتي نصوغها صياغة أولى بسؤالين اثنين وتعقيب:
الأول: ما هو وجه الإشكال الحقيقي للوجود اليهودي في علاقته مع الأرض؟
الثاني: أيكمن الإشكال بعدم قدرة هذا الوجود وبكل حالاته على الوصول لصياغة نفسه كأمّة بداعي فقدان الأرض؟
اتسم الوجود اليهودي في التاريخ بالتشتت والضياع فهو لم يتشكّل كجماعة خاصة لها شخصية مميزّة وفق نواميس التطور وعلم الاجتماع من حيث ارتباط هذه الجماعة بأرض مخصصة أو معينة. بل تميّز هذا الوجود بفعل الرابطة الدينيّة (التي لها وجه عرقي) ضمنت له الاستمرار داخل «الجيتو» الخاص به والمعبّر عن صيغة تشكّله وكيفيته عبر التاريخ.
يمكن تحديد إشكاليّة العلاقة بين الوجود اليهودي والأرض بما نسميه تراوح هذا الوجود بين حالتي: اللعنة والمستحيل.
تتحكم هاتان الحالتان بمسار الوجود اليهودي التاريخي في علاقته مع الأرض التي يتطابق معناها في «الوعي الذاتي» لهذا الوجود، مع معنى اللعنة، فلا أرض بلا لعنة. والأرض الملعونة إلهيّاً (الله مصدر اللعنة) تصير مستحيلة إنسانيّاً.
القسم الأول
الأرض: اللعنة
ليس الوجود الإنساني على الأرض سوى تدبير إلهي / لعنة إلهية، فالأرض في سفر التكوين محلّ للقصاص الذي أنزله الله بالإنسان نتيجة عصيانه لأوامره. ورغم أن الله خالقٌ للأرض (في البدء خلق الله السموات والأرض ـ سفر التكوين، الاصحاح1) ومكوّنُ الإنسان من تراب الأرض أيضاً (وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض. سفر التكوين، الاصحاح2)، بالرغم من هذه القيمة التأسيسية، فإن الأرض لم تستطع أن تكون إلاّ وجوداً تالياً أو ملحقاً بالوجود الإنساني، فقد وجد الإنسان أولاً في السموات ثم نزل إلى الأرض (نزولاً) كعقوبة إلهية فكان هذا النزول موازياً أو مكافئاً لحجم الخطأ الذي ارتكبه فوُصِم به فكان بالتالي استمرار الوجود الإنساني على الأرض بأجياله المتعاقبة ورثته المطلقة لخطيئة آدم الأصلية.
(وأوصى الرب الإله آدم قائلاً: من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً، وأما شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها. لأنك يوم تأكل منها تموت موتاً. سفر التكوين. الاصحاح2).
وضعت مخالفة هذه الوصيّة حدّاً للوجود الإنساني في السماء، وحكمت عليه بتغيير (محلّه) فوضعته نهائياً على الأرض، ويأخذ هذا الوضع الجديد معنى «الموت» الوارد كعقوبة إلهية حيث نزول الإنسان إلى الأرض يعني موته في السماء فالأرض من هذه الوجهة ما هي إلاّ مدفن للمطرودين من السماء.
1-النزول إلى الأرض: السبب والمصير:
(وقال لآدم لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلاً لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك ـ سفر التكوين، الاصحاح3).
يسم التوصيف الإلهي الأرض باللعنة فيكون اللقاء الأول بين الأرض والوجود الإنساني «في الوعي اليهودي» مشكّلاً أو متكوّناً / مؤسساً في رحم اللعنة، فالأرض التي هي محل قصاص تدفع بـ «الوجود اليهودي» إلى التصادم الحتمي معها، فيتأسس هذا التصادم بدوره في اللقاء / التماس الأول، ويستمر كصفة ملازمة لحالات التماس الأخرى عبر التاريخ.
من جهة أخرى ليس للأرض «كمادة» أن تشارك أو تقرر أو تنحاز للخيار الإلهي لها كمحلّ للوجود الإنساني (اليهودي) وهي لذلك وجود محايد، خام، لا إرادي، لا واعٍ، غير أن هذا الوجود بحد ذاته أتاح لها أن تكون مكاناً آخر (غير الجنة) أي بديلاً منها فلو لم تكن الأرض موجودة لكان شكل ومعنى ومكان القصاص الذي أنزله الله بالإنسان قد تغيّر تغيّراً حاسماً، أو لربما ضاقت فرصة إمكانية فرض العقوبة الإلهية إلى الحد الذي يجعل من التمرّد الإنساني في الجنّة واقعاً لا بدّ من قبوله إلهياً. وهكذا يكون وجود الأرض بحد ذاته قد تسبب بجعلها محلاً ملعوناً لسكن الإنسان.
بهذا المعنى تكمن أولى العلل الأساسية التي تزيد من عمق الإشكاليّة بين «الوجود اليهودي» والأرض التي شكّلت السبب الضمني (المكبوت) لكنه الواقعي (الحقيقي) المؤدي لحصول حالة / حادثة النزول من الجنّة، وبذلك تكون الأرض هي المسؤولة الكبرى عن حصول هذه النتيجة، والواقع إنها وبوجودها شكّلت الوضع الذي تسبب بافتراق «الوجود اليهودي» افتراقاً نهائياً عن الحالة الالهية. وبالمقابل يتم التقليل من مسؤولية السبب الأساس المؤدي إلى هذه الفرقة والمتمثل بمخالفة «آدم» لوصايا الله.
2 ـ الوجود في الأرض: حالة التيه:
لا تكتفي الأرض بكونها عامل فصل ـ بوجودها ـ بين اليهودي وإلهه، بل هي وفرّت كيفية خاصة لتطبيق العقوبة الإلهية التي لها قوة الاستمرار. وبهذا المعنى تشكّل الأرض محلاً للضياع والغموض والفوضى لا محلاً للاستقرار والوضوح والنظام، هذه الصفات التي تلازم الجنّة السماوية.
من هنا يأتي الخيار الإلهي لها ليتضمن رفضاً لمعنى الاستقرار، ولعلنا نستطيع تقريب هذا الرفض وإيضاحه في النظر إلى الكيفيّة التي تعامل بها الله مع تقدمة كل من قايين وهابيل:
(وحدث من بعد أيام أن قايين قدّم من ثمار الأرض قرباناً للرب، وقدّم هابيل أيضاً من أبكار غنمه ومن سمانها، فنظر الرب إلى هابيل وقربانه. ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر. سفر التكوين، الاصحاح4).
تحدد هذه النظرة الإلهية في معناها الأساس كيفيّة «الوجود اليهودي» على الأرض، حيث «المُنتَج» من حالة الاستقرار (الزراعة): ثمار الأرض، تم رفضه إلهياً، بينما الناتج من الحالة المعاكسة أو اللا استقرار (الرعي): «المُقدّم» – الأغنام، يحظى بالقبول الإلهي.
وفي سبيل صياغة الكيفيّة النهائية «للوجود اليهودي» يقوم قايين بقتل هابيل دون أن ينتصر لحالة الاستقرار التي يفترض أنّه يمثّلها: (فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك، متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها، تائهاً وهارباً تكون في الأرض. سفر التكوين الاصحاح4).
يأخذ هذا الحادث أهمية خاصة لتأثيره الحاسم في زيادة عمق الإشكاليّة بين الأرض والوجود اليهودي ذلك لأن حالة (الاستقرار) المرفوضة إلهياً سببت اقتراف الجريمة الأولى في عمر هذا الوجود. ومن هذه اللحظة بالذات وبمقتل هابيل ينتهي الجانب البريء من الوجود اليهودي بينما استمرار قايين يعني انتصار الجانب الملّوث بالدم المجرم لهذا الوجود الذي سيظل يدفع ضريبة ارتكابه هذه الجريمة هرباً وتيهاً لا ينتهيان (تائهاً وهارباً تكون في الأرض)، فتشكّل حالة «التيه» الكيفيّة المستبّدة بالوجود اليهودي عبر التاريخ بإرادة إلهية ولأسباب لا يمكن إزالتها أو التعويض عن نتائجها.
ووفق مقتضيات حالة «التيه» هذه اتسمت العلاقة بين الأرض والوجود اليهودي بالعقم (متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها). فتتحول الأرض إلى مكان للفعل المجاني، بل إلى محل قادر على امتصاص الجهد والعمل دون مقابل، الأمر الذي يجعل من هذا العمل محرقة دائمة لا نهاية لها.
تؤسس هذه الكيفيّة للمسيرة الخاصة (الطريق الشّاذ) للوجود اليهودي في التاريخ، حيث ترتسم خارطة «التيه» في الأرض بانقلاب الضياع والفوضى إلى الانغلاق والسرّية فيتشكل «الجيتو» كحاضن قادر على احتواء الوجود اليهودي عبر عزله وانعزاله للحدود التي تقرّبه من النفي خارج خريطة علاقات الأرض، أي خارج الأرض! ولذلك يشكّل «الجيتو» أرضاً مصطنعة / مفتعلة في (الأرض الطبيعية) يسوّرها الخوف من خارجها أي الأرض، فتنقلب نتيجة ذلك إلى أرض خاصة بعلاقات خاصة لوجود خاص باستهداف إبعاد هذا الوجود أقصى ما يمكن خارج الأرض الملعونة. ولكن ليس هنالك «جيتو» واحد، بل ثمة «جيتوات» الأمر المؤكد لانعدام قيمة الأرض التي نشأ عليها وذلك لمشابهاتها وتعدديتها وعدم قدرتها أن تكون واحدة موحدة جامعة لا مبعثرة.
بذلك تنتفي فكرة الوطن من «الوعي اليهودي» انتفاء تاماً باعتبار الوطن الأرض الواحدة المعينة والخاصة بشعب أو جماعة بشرية معينة، وكحل استبدالي تعويضي عن غياب الأرض ـ الوطن يبرز مفهوم «شعب الله المختار» الذي بصرامته الدينيّة التي توفر له آلية انغلاقه، يقوم بحماية «الوجود اليهودي» المبعثر في خارطة «التيه» «جيتوات» قابلة للتكاثر.
وكنتيجة مباشرة لهذا التوضّع يأخذ الوطن باعتباره أرضاً خاصة معنى (المستحيل) وتتحول الأرض التي تتشكل عليها أوطان أخرى لجماعات أخرى إلى أمكنة غريبة (لا أمكنة) وتعود آلية «شعب الله المختار» وعبر مسيرتها لتأسيس المرتكز أو لعلّة الأولى لكل ما هو عرقي وعنصري ومنغلق في التاريخ.
القسم الثاني
الأرض: المستحيل
يشير اكتمال تحقيق اللعنة الإلهية إلى تحول الأرض بكيفية الوجود اليهودي عليها عبر حالة التيه، إلى المستحيل، فيبرز الرابط العنصري ليشكّل مستلزماً سلبياً لحكم استحالة قيام علاقة طبيعية مع الأرض التي تغيب عن التأثير في تكوين شخصية الجماعة اليهودية فيحل (المال) محلها كعامل (مادي) كبديل منها في تكوين هذه الشخصية.
يشكّل المال البديل التملّكي من الأصل الغائب (الأرض)، فهو الضمان العملي القادر على الفعل في حالة «التيه» وهو العلامة المميزة والسحرية أيضاً للوجود اليهودي في ظل انتفاء «الملكية» الطبيعية، مما يؤدي إلى تشكل الُملك – الوطن – المال، وأيضاً الإله – المال كما ذهب كارل ماركس في تحليله للمسألة اليهودية، وتغيب الأرض نهائيّاً كمسألة مُلك، بل يتم نسفها من «الوعي اليهودي» مقابل اعتناق هذا الوعي مبادئ حِرفة الجمع اللامتناهي للمال. ليعود هذا (الجمع / الحِرفة) لقيادة المسار الجديد للتيه مغيّراً في خطوطه وفعاليته، حيث المال وبحالته اللانهائية (الشديدة التبعثر، غير القابلة للحصر)، وبإصداره الدائم وقوة استمراره يمثّل الشكل الآخر، لفعالية كيفية «الوجود اليهودي» كما يشكّل (المحل الآخر) لتيه هذا الوجود المتمظهر طموحاً تجارياً رأسمالياً خاصاً.
هكذا وفق هذه العملية الابدالية تم القضاء على الأرض بوصول العلاقة معها إلى «المستحيل» الذي يرتسم في خارطة «الوجود اليهودي» مرتكزاً إلى الحالات التالية:
1 ـ الأرض كوعد إلهي:
شكّل الوعد الإلهي بالأرض حلّاً للخروج من حالة «التيه» فانتقل هذا المحل «الملعون / الأرض» من موقع المتسبب بالضياع والتهلكة إلى موقع الموازي للجنة المفقودة، فيصار إلى إعادة إنتاج الأرض في «الوعي اليهودي» عن طريق الوعد الإلهي: (وكلّم الرب موسى قائلاً أوصِ بني إسرائيل وقل لهم: إنكم داخلون إلى أرض كنعان. هذه الأرض التي تقع لكم نصيباً، أرض كنعان بتخومها. سفر العدد، الإصحاح 34). انطلاقاً من هذه اللحظة تبدأ تسمية الأرض وتخصيصها، أي تنسّيبها وتملّيكها، فالوعد الإلهي يشير صراحة إلى أرض كنعان كمحل «للوجود اليهودي» ولا يشير إلى أية أرض أخرى غير مسماة وخالية من السكان وهي بالتالي غير مخصصة أو مملوكة.
توصلنا هذه النتيجة إلى تأكيد الملاحظات التالية:
أ ـ إنَّ صعوبة (استحالة) إنشاء علاقة تفاعلية بين الأرض والوجود اليهودي دفع بالوعد الإلهي إلى استبعاد الأرض المشاع، الخالية والفارغة.
ب ـ إنَّ الدرجة التي عليها العمران في أرض كنعان أعادت للأرض في «الوعي اليهودي» موقعاً موازياً للجنة كما أنه وبتخصيصها بموجب الوعد الإلهي إنما يتم التأكيد على قيمتها التي تشكل المعنى الحقيقي / العملي لقيمة الوعد الإلهي نفسه.
ج ـ إنَّ الوعد بالأرض قرّبها من معنى «الغنيمة ـ اللُّقيا» الأمر الذي أدى للتعامل معها كشأن خارج عن «شخصية الجماعة» ولذلك سيصار لاقتسامها بواسطة «القرعة» كآية غنيمة مادية محدودة. (فأمر موسى بني إسرائيل قائلاً هذه هي الأرض التي تقتسمونها بالقرعة. سفر العدد ـ الإصحاح 34).
د ـ شكّل الوعد بالأرض التشريع الأول لحالات الاغتصاب والاحتلال، وهو بذلك حدد قناة الوصول بالوجود اليهودي إلى إنشاء علاقة مع الأرض عن طريق هذا الاغتصاب. وستكون «الأرض المغتصبة» مطابقة لصورة «الأرض» في «الوعي اليهودي» دوماً، فلا أرض دون اغتصاب أو احتلال. (ثم قال يشوع بهذا تعلمون أن الله الحيّ في وسطكم، وطرداً يطرد من أمامكم الكنعانيين والحثيين والحوبيين والفرزيين والجرجاشيين والآموريين واليبّوسيين. سفر يشوع، الإصحاح 3).
وهكذا يؤدي المنطق الخاص الذي جاء عليه الوعد الإلهي للتعامل مع الأرض كشبيه (أو بديل) للجنة وليس كأرض (وجود خاص غير مشبه)، ووفق هذه المقاربة يتم استبعاد الرابط الطبيعي (المفترض أن يكون) بين الأرض «والوجود اليهودي» الذي نتيجة لذلك يعيش حالة ارتباك تشكل عنوان الاستحالة المتحكمة بكيفيته وفعاليته.
2 ـ التدمير كمحاولة لقتل الأرض:
يشكّل التدمير التراث الحصري والمتمظهر الأوضح كفعل «الوجود اليهودي» في علاقته مع الأرض، حيث يتم إرجاع هذا الفعل إلى مصدر الهي ـ يهوهّي ليكون من أفعاله (فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه. فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت أني عملتهم ـ سفر التكوين، الإصحاح 6).
يُؤسّسُ هذا النص لتجليات فعل تدمير الأرض بمحو مخلوقاتها ثم بمحو مستلزمات وجود هذه المخلوقات كطريق حتميّ لتحقيق الوعد الإلهيّ بالأرض فيصطدم «الوجود اليهودي» بالأرض المعمّرة / المثقفة اصطداماً يجعله في حالة ارتباك، وكخلاص من هذه الحالة ومحافظةً منه في الوقت نفسه على حالته الأصلية (التيه) يمارس «الوجود اليهودي» فعل تدمير العمران ومظاهر الثقافة المشكّلة لملامح شخصية جماعة أخرى عبر علاقتها التفاعلية مع الأرض، الأمر المفقود دائماً والغائب عن حالة اليهودي.
يستهدف التدمير كفعل إرادي لا كفعلِ مصادفة، إنتاج حالة الضياع عبر نسف وإلغاء التحديدات والملامح الخاصة الواضحة المسماة. ويستهدف استطراداً لذلك إعادة إنتاج أو الوصول مجدداً إلى الحالة الأولى التي جاء عليها «الوجود اليهودي» بأوامر إلهية: التيه والهربْ.
من جهة أخرى يشكّل التدمير الشامل الذي قام به يشوع الأساس الذي يرتكز عليه التوضّع الجديد «للوجود اليهودي» حيث تُعيد هذه الحالة إنتاج نفسها في أحقاب متلاحقة ودائماً بواسطة عمليات التدمير الممنهجة التي يقوم بها «الوجود اليهودي» المعاصر، والذي مارس فعله بأداء لا مثيل له في أرضنا إلى الحدّ الذي دفع بسفير بريطانيا دافيد روبرت للقول مذهولاً إثر زيارته لمدينة القنيطرة بعد حرب عام 1973: (إنه لأمر مثير ذاك الذي قام به الإسرائيليون، إنه يتجاوز في عدم إنسانيته حدود الخيال وقدرته)*.
يؤدي النظر في الفعل التدميري الذي مارسه «الوجود اليهودي» إلى اكتشاف مريع وغاية في الرعب، وهو أنه يستهدف أخيراً قتل الأرض (الملعونة) بقتل تخصيصاتها ومسمياتها. فلا يمكن إحكام السيطرة عليها إلّا وهي خراب لا عمران فيها ولا ثقافة فيتم بذلك إلغاء التحدّي أو العناصرِ المواجهةِ لزحف «الوجود اليهودي» والمتسببة بحالة الارتباك التي يعيشها. ويكون من نتيجة ذلك كله عودة هذا الوجود لتأسيس تراثه التدميري الحاضر في «الوعي» والمذكِّر بصدمة اللقاء الأول / التماس الأول، ليشكّل أحد المظاهر المهمة الدالة على استحالة علاقة هذا الوجود مع الأرض!!
3 ـ الاستيطان كمحاولة لاغتصاب العلاقة مع الأرض:
يشكّل الاستيطان المشروع اليهودي الدائم للخلاص من حالة الأرض – التيه والانتقال إلى حالة الأرض – الوطن. فمنذ إنشاء مستوطنة (بتاح هاتكفا ـ عتبة الأمل) عام 1882 على ساحل فلسطين يتابع العمل الاستيطاني تنفيذ برنامجه المهووس بالسيطرة للوصول إلى تحقيق مرحلة «الملكية» المفقودة في مسار تاريخ «الوجود اليهودي».
وكون الاستيطان يأخذ معنى «إنشاء وطن»، فهو كمشروع يمثل المحاولة العملية لإتمام المعنى الخاص «للوجود اليهودي»، غير أن هذا المشروع بمعناه يخالف مخالفة صريحة وواضحة حقيقة التطور الاجتماعي ونواميسه، بل إنه يعاكسها تماماً بتسبيقه فكرة الوطن على وجود الوطن ذاته، ومن هذه الوجهة يحاول إنجاز وطن أو استحضار تاريخ غير موجود. ولعل ذلك هو العائق الأساسي الذي يقف حائلاً دون إنجاز هذا المشروع بشكل نهائي وتام، وبالتالي يكون باستطاعته مرادفة وموازاة معنى الوطن، فتاريخ انقطاع العلاقة بين الأرض و«الوجود اليهودي» طويل وممتد بشكل يزيح هذه ا لعلاقة ويفصلها عن ناموسها الطبيعي ومسارها الذي في الناحية الأخرى يشكّل ويحكم ناموس وتاريخ علاقات الجماعات البشرية قاطبة. وهذه الإزاحة ستتكفل دائماً بالحفاظ على التباين قائماً بين «الوطن» و«مشروع الوطن».
ولن تقف النتائج عند هذا الحد، بل إن انزياح المعاني عن مسارها سيكسبها معاني أخرى جديدة ومخالفة أيضاً. «فالوطن» ليس فقط «مشروع وطن» إنما يستحيل إلى «معسكر»، و«المجتمع» ليس فقط «مشروع مجتمع» بل يستحيل إلى «تجمع». وتتأكد ملامح هذه الحالات المركّبة / المصنّعة عندما لا يكون المنتمي إلى «الوطن» «مواطناً»، بل هو «مهاجر» الذي بدوره لا يسكن في «وطن» بل «يخيّم» في «معسكر / ثكنة» ليست بكل الحالات مكاناً للحياة الطبيعية، بل هي مكان للتدريب على الحرب ومفرداتها من القتل إلى التدمير.
وفق هذه الرؤيا تتكشف الأسباب الحقيقية للفرضية القائلة بأن «إسرائيل» لا تتحمل وقوع أية هزيمة، فهزيمة واحدة كافية لوضع حد لوجودها وهي لذلك وبالرغم من عناصر قوّتها تعيش على حافة النهاية دائماً، وهو موقع دقيق وخطر يفرض عليها محاولة الابتعاد عن هذه الحافة عن طريق التمدّد في أراض أخرى بواسطة زرع مستوطنات تشكّل ركائز /حلقات شد/ أوتاداً تأخذُ بها فتحميها من السقوط من تلك الحافة إلى الهاوية.
غير أن هذا «الزرع» المتسم بصفات الافتعال والتركيب الصنعي لا يستطيع إنتاج ركائز مسترخية في الأرض قادرة بذاتها على إبعاد الهاوية عن الحافة التي يتوضع عليها «الوجود اليهودي». فلا تخرج هذه الحالات عن كونها اغتصاباً مستمراً للعلاقة مع الأرض، حيث تكتمل غلاظة هذا الاغتصاب باقتلاع أعداد هائلة من اليهود من مناطق مختلفة في بلدان العالم لإعادة «زرعهم» مع «مستوطناتهم» في أرض يتراوح معناها في ذاكرتهم بين اللعنة والمستحيل.
وكعملية مقابلة يتم تدمير «العمارة» الطبيعية المتكوّنة عبر التاريخ باستهداف إزالة (محو) هذا التاريخ، كما يتم إبعاد «المواطن» عن «وطنه» لإحلال «المهاجر» في «ثكنته».
وهكذا ينجح «الوجود اليهودي المعاصر» في استيطان أجزاء كبيرة من أرضنا مفسحاً المجال لمشروعه بالتحقق حينما وحيثما تتوفر له المعطيات، فالصفة السرطانية للمشروع اليهودي تنتج له تأزماً ذاتياً داخلياً حيث يستعصي عليه تحديد الأرض التي ينوي امتلاكها فيعيش في ظل الحدود المفتوحة أو الضائعة التي تؤمن له دائماً مروراً / تسللاً محتملاً، أو اغتصاباً مستجداً يقوم به في محاولته المستمرة للقبض على الأرض وفق آليته الخاصة.
إن هذه الخلفيات دفعت بوايزمن للتصريح أمام لجنة التحقيق الملكية البريطانية التي أتت إلى فلسطين عام 1937 قائلاً:
(إنني أعلم أن الله قد وعد أبناء إسرائيل بفلسطين، ولكني لا أعرف الحدود التي رسمها)**. ولقد مارس قادة الدولة اليهودية هذا النهج الذي تعبّر عنه غولدا مائير تعبيراً واضحاً عندما خاطبت جنود الجيش بتاريخ 11/7/1969:
(لم تُعيَّن حدود ولن تعيّن. نحن الذين نعيّن الحدود، في أي مكان واعلموا جيداً أن أيّ مكان تستوطنونه وتدافعون فيه عن البلد، ذلك المكان سيكون حدودنا)***.
وهكذا يتحكم وجود «شعب الله المختار» بمسمّيات الأمكنة وتخصيصاتها عبر الاستيطان، فحيث هنالك «مشروع وطن» فالحدود ضائعة غير محددة ولا يمكن رسمها، وبالمقابل تكون «الأرض الأخرى» رغم تخصيصها مباحة بشكل يجعل من اغتصابها أمراً جاهزَ الوقوع في أية مناسبة، وفي هذه العملية الشاذة: الاغتصاب يكمن أحد أوجه الاستحالة التي تحكم «الوجود اليهودي» في علاقته مع الأرض.
تشكّل حالات الاستحالة التي عرضناها ركائز المشروع اليهودي في أرضنا، فالوعد الإلهي يؤمّن الفكرة ويشرّعها ويضفي عليها صفات «لا تاريخية» بشكل يحاول حمايتها من التشكيك فيمنع الحوار معها أو فيها، فيقوم بممارسة ردع ضدّ كل المحاولات التي تقصد تعريض هذه الفكرة (الوعد) لعلم التاريخ.
كما تتأسس الكيفية العملية للتعامل مع الأرض وفق الحالتين الأخريتين، فالتدمير كفيل بإعادة الأرض إلى «العماء» بعد (إطفاء عيونها ـ قتل عمرانها)، والاستيطان كفعل مُغتصب للأرض يضمن القبض عليها باستهداف الوصول إلى سجنها وتملّكها وإعادة تنسيبها.
القسم الثالث
الخروج من التيه – مشروع إسرائيل الكبرى
يؤدي الترسيم الذي وضعناه لإشكالية العلاقة بين الأرض والوجود اليهودي، إلى اكتشاف عمق هذه الإشكالية وتسارع حدّتها تسارعاً يجعل إمكانية (مشاريع) حلّها مستعصية إلى الحد الذي يجعلنا نفترض بأن هذه الإشكالية لا حلول لها، وهي لذلك تتمتع بقوة الصفات الدهرية، حيث وبقيامها على اللعنة والمستحيل تجعل خلاصها من نفسها أو انعتاقها من (مسيرتها / ذاتها) غير ممكن بدلالة هذه المساحة التاريخية التي تنوف عن ألفي عام والتي تؤكد رسوخ هذه الإشكالية والتزامها بمكوّنات تأسيسها وبروز روحها ومسارها الخاص في تلك المساحة التاريخية وبجميع فواصلها.
بمعنى آخر، هل الوجود اليهودي في علاقته مع الأرض محكوم دائماً بهذه الإشكالية؟
ألا يمكن له الخروج من التيه المسيطر عليه طوال تاريخه والذي طال في مكوّنات ذاكرته وأيضاً خياله؟
يكمن جواب هذه الأسئلة المعقّدة بعبارة واحدة بسيطة هي نفسها معتمدة من قبل المشروع اليهودي كي تشكّل حلّاً (للإشكالية) وخروجاً نهائياً من حالة التيه.
العبارة البسيطة هي: حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل. ولكن إذا كانت العبارة بهذه البساطة فلا يعني أن أمر تحققها هو كذلك، بالنظر لما في هذا الأمر من تركيب وتعقيد يرسم نفسه كإشكالية أخرى تقف أمام وضوح العبارة وبساطتها ومباشرتها.
يتفق خيار «الخيال اليهودي» لهذا الحل المعقّد المدرج في عبارة بسيطة، مع منطق تحليلنا لإشكالية وجوده في علاقته مع الأرض، فلا يمكن له تخصيص / تنسّيب الأرض إلّا بحصرها بين «مائين» (الفرات ـ النيل) يشكّلان حدودَ / نهايةَ هذه الأرض التي ستكون هي العالم كلَّه، وبهذه العملية يتم وضع نهاية / حدّ لحالة «التيه» والضياع والهروب فيتلاقى «الوجود اليهودي» مع الأرض الواحدة الكاملة العظيمة الموعودة المختارة لشعب مختار.
لماذا هذه الأرض عينُها وليست أخرى غيرها؟
ذلك لأنها الأكثر تعميراً في التاريخ، الأوفر حضوراً، الأبرز وجوداً، هي الأقدم / الأعمر… وهي في المحصّلة الأخيرة الأكثر وصفاً.. أنعود مرّة أخرى لنذكر بأنها توازي الجنّة وفق الوصف التوراتي. سنستعيض عن ذلك بالتذكير بمسألة أخرى، مسألة هي بدورها على غاية من البساطة اختزلها خبر قديم يقول:
تمّ رفض تخصيص أوغندا لليهود من قبل القيّمين على المشروع اليهودي. لماذا تم الرفض؟ ألا توفّر تلك الأرض لهم في ذلك الزمن «العماء» أو ما يشابهه؟ أم أن «الإشكالية» تفرض العماء الناتج من التدمير وليس من الطبيعة؟
وفق التحليل السياسي: إنَّ جملة من المصالح الدولية التقت على قيام المشروع اليهودي الذي تشكل الحركة الصهيونية حامله، والعمل لإنجاحه؟
ولكن ألا يمكن أن تتوفر له عوامل النجاح خارج أرضنا أكثر؟ أليس من السهولة قيامه في بقعة مثل أوغندا أو غيرها أو ما يشابهها؟
مع النظر إلى منطق التحليل السياسي الذي يهمل البحث خارج المعطيات المباشرة والحسابات الملموسة / الواقعية مسقطاً الأفكار التي تبحث أو تقع خلف الحسابات ووراء المعطيات.. فإن المشروع اليهودي لم يكن ليقوم إلّا في أرضنا؟ أليس هذا هو العنوان الصاخب «لإشكالية الوجود اليهودي» المعاصر؟
نعود مرّة أخرى لنطابق العبارة البسيطة (حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل) مع (مرتسمها)، فتكون نتيجة المطابقة خروجنا النهائي والمطلق من هذا (المرتسم) الأرض، ذلك لأنها مرتسم لوجود آخر خاص جاهز كامل الأوصاف.
هكذا يتشكّل «الوطن» وفق «المرتسم التخيلي» إنما الطبوغرافي، ويتم زرعه بالمستوطنات التي ستملأ بأسراب المهاجرين الهابطين من السماء، حيث لا يمكنهم الطيران مجدّداً، ولا الهروب (التسلّل) خارج التشكيل الهندسي المحصور بمائين عملاقين «الفرات» و«النيل».
وفي جميع الحالات تتجهُ عصا موسى إلى الداخل دائماً فتنشق المياه للدخول لا للخروج، وعندما يكتمل الدخول ويتم، تُعلَنُ نهاية التيه فيجد قايين نفسه متوحداً مع إرادة يهواه.. عند ذلك تنتفي الحاجة «للعصا» وربما إلى غيرها…
هوامش
* نقلاً عن روجيه وبلورم ـ إني أتهم ـ ترجمة نخلة كلاس ـ دار الجرمق ـ دمشق 1980، ص205.
** نقلاً عن: جورجي كنعان: سقوط الإمبراطورية الإسرائيلية، ص30.
*** نقلاً عن: جورجي كنعان: سقوط الإمبراطورية الإسرائيلية، ص19.
———————————
تنويه: هذا النص، هو بالأصل محاضرة ألقيت في قاعة المحاضرات بمبنى اتحاد الكتاب العرب في دمشق، وبدعوة منه في العام 1993.
بحث قيم جدآ. أود لفت النظر الى ان أوروبا كانت تمنع اليهود من تملك اراض لذا اتجهوا إلى العمل في التجارة والمصارف وممارسة المهن الحرة كالطب والمحاماة. واستطاعوا مع تطور المجتمعات بعد تطور الراسمالية تشكيل السيطرة على النخبة clericy والتأثير في القرارات السياسية. ولربط اليهود بالأرض اتجحت الحركة الصهيونية إلى انشاء الكوبونات الزراعية، حتى قبل اعلان دولتهم. وما نشاهده من هروب المستوطنين سوى فشل مشروع الارتباط بالأرض.