مسار جلجامش

الإيزيدية: أسئلة في الجذور التاريخيّة

قراءة نقديّة

كتاب جديد صدر حديثاً للباحث العراقي صباح كنجي، يحمل عنوان “الإيزيدية: محاولة البحث عن الجذور.. رحلة في أعماق التاريخ”. يقع الكتاب في 400 صفحة، توزعت على تسعة فصول وعدد من الملاحق إضافة إلى المقدمة. وقبل أن أبدأ بقراءتي النقدية لهذا الكتاب، أودّ أن أسجل شكري وامتناني للأستاذ المؤلف الذي أرسل لي نسخة ورقية من كتابه على كرمه وانفتاحه على التواصل والتفاعل بين أبناء الوطن الواحد من كتّاب وباحثين ومواطنين بعامة؛ كما وأغتنم الفرصة للتعبير عن تعاطفي وتضامني العميق مع الطائفة الإيزيدية الكريمة في كل ما تعرضت له من مظالم ومذابح وأفعال دموية وحشية يندى لها جبين الإنسان الحق. لقد تركت تلك الجرائم الشنيعة وخصوصاً التي ارتكبتها العصابات التكفيرية الداعشية الظلامية جرحاً غائراً في الذاكرة الوطنية العراقية خصوصاً والإنسانية عموماً؛ فلكل ضحايا تلك العصابات وفي مقدمتهم أهلنا في سنجار ومقترباتها وسهل نينوى والعراق كله كل المحبة والتضامن والوفاء والتعاطف الإنساني الصادق.

I

هل من علاقة بين الإيزيدين والسومريين؟

يمكن تصنيف هذا الكتاب ضمن كتب الأبحاث التأريخية والإناسية “الأنثروبولوجية” المدعوم بعلوم أخرى مقاربة أو متفرعة كالآثاريات “الأركيولوجيا” وعلوم اللغة والديانات القديمة. ولعل أول ما يلفت النظر في هذا البحث الشامل أسلوبه التوثيقي، وطريقته التحليلية المبسطة والسلسة وجِدة المعطيات ذات العلاقة بعناوينه التي يطرحها.

يقدم الكتاب أفكاراً مختلفة وبعضها جديد لتعريف الإيزيدية كطائفة وديانة وقراءة سرديتها التأريخية ضمن سياقهما الرافداني الممتد – كما يرى المؤلف – إلى العصر السومري والعصور التالية له، على اعتبارٍ مفاده أن أتباع هذه الديانة “لم يكونوا محددين بقوم أو جماعة قبلية معينة واحدة، فهو دين مفتوح يعتمد على تأليه الشمس كتجلي للإله الأكبر أو العظيم، وهو الإله الذي جرت عبادته من قبل شعوب العالم كافة تقريباً… ص369”. ومعلوم أن هذه المعلومة أو الاستنتاج يتناقض مع ما هو معروف عن الإيزيدية على اعتبارها من الطوائف المغلقة، أي التي لا تقبل مهتدين جدد إليها من خارجها، ولكن المؤلف ربما لا يقصد الإيزدية كما هي اليوم، بل في بداياتها القديمة.

يذهب المؤلف أبعد من ذلك فيطبق فرضيته هذه على طائفة وديانة عراقية أخرى هي الكاكائية “اليارسانية” -التي يعتبرها البعض فرعاً من الإيزيدية- والتي يقطن مجتمعُها في الجغرافيا نفسها التي يقطن فيها الإيزيديون، ويعتبرهم امتداداً للعمق الانثروبولوجي الرافداني السومري ويأتي بأدلة على ذلك من السردية المثيولوجية الكاكائية المعاصرة ومنها؛ اتفاق الكاكائية مع السومريين والإيزديين في اسم “باتيسي/ باتيشاه/ بادشاه” أي الملك الكاهن جامع السلطتين الزمنية والدينية، وهي الصفة التي أطلقت مثلاً على كوديا حاكم لكش 2600 ق.م، وهو كما يعتقد “شيء مهم يربط هذه الأطراف الثلاثة رغم البعد الجغرافي والزمني ويعكس أصالة انتماء لتاريخ سحيق يغوص عميقاً في التربة العراقية، ويثبت أننا نسير في الاتجاه والطريق الصحيح للبحث/ ص183”.

الإيزيدية والسومريون وغيرهم:

إنَّ فكرة إرجاع الديانة الإيزيدية إلى جذور رافدانية سومرية وأكدية وآشورية، كما نفهم من صفحات هذا الكتاب، كان قد طرحها الباحث العراقي الراحل جورج حبيب – الذي يهدي المؤلف كتابه إليه بكلمات مؤثرة – وإلى درجة ما الباحث حسو أمريكو، وقد لخَّصها حبيب – كما يقتبس كنجي – بالكلمات التالية “إن الدين اليزيدي منحدر من جذور بعيدة جداً، تبلغ العهود السومرية، على أن هذا الدين لم يُعرف بهذا الاسم إلا في فترة متأخرة نسبياً، فهو قد نال معتنقوه من الاضطهاد والعنف ما جعلهم يلقون من جراء تمسكهم به شرَّ صنوف الاضطهاد فيهاجرون من وطنهم، وبخاصة منذ أن وقعت بلاد الرافدين تحت الحكم الساساني/ ص32”. ثم يحاول الباحث أن يقيم الدليل التأريخي واللغوي والمادي الأركيولوجي على صحة هذه الفكرة فيحشد خلاصات وافرة من المكتشفات والمعلومات التاريخية المفيدة والمعززة بالصور ذات العلاقة بما يخدم سياق البحث.

ورغم أن المؤلف ينفي الأصل العربي لهذه المجموعة السكانية الدينية مثلما ينفي أية علاقة لها بالأمويين العرب ويزيد بن معاوية أو يزيد بن أنيسة الخارجي على جهة التخصيص، مع أنه يرجح في مواضع أخرى من كتابه وجود علاقة دينية تعبدية قوية للأموي أبي سفيان صخر بن حرب وابنه معاوية وحفيده يزيد بالطاووس ملك الذي يقدسه الإيزيديين، قبل الإسلام وبعد قيام الدولة الأموية في الشام، ويؤكد أن الإيزيديين يتكلمون اليوم إحدى اللهجات الكردية “الكرمانجية البهدينانية” و “لا توجد لهم لغة أخرى لهم باستثناء ما سميناه بلغة بعشيقة وبحزاني والتي هي خليط من الكردية الغالبة والعربية وعدة لغات قديمة وحديثة… ص189”. والحقيقة أن القول بعروبة اليزيديين أو الإيزيديين، وأنهم يتكملون اللغة الكردية كلهجة مكتسبة اعتادوا عليها بحكم الواقع التاريخي والجغرافي، هي وجهة نظر بين وجهات نظر أخرى لم يقل بها باحثون من خارج هذه الطائفة فقط، بل قال بها أحد أمرائها وهو أنور معاوية الأموي في كتاب له بعنوان “اليزيدية: تاريخ عقيدة مجتمع”، ولكن الحكم الأخير في أمور كهذه يبقى للعلم والأدلة الملموسة والمقروءة بمنهجية علمية وللمزيد من البحث المنهجي. وكنت قد كتبت قراءة نقدية لمحتويات كتاب أنور الأموي في يومية “الأخبار – عدد 20 آب 2008″، ولكن كتاب الباحث كنجي الجديد قد صحح وقوم وتناقضَ مع العديد من المعلومات التي وردت في الكتاب الآخر حول أصول وجذور اليزيدية ديانة ومجتمعاً بالأدلة التأريخية والآثارية واللغوية التي قدمها، وهذا أمر طبيعي في مجالات البحث المنهجي العلمي.

إن إشكالية لغة الإيزيديين، حتى إذا اتفقنا مع ما يذهب إليه كنجي من أنها الكرمانجية الكردية المختلطة بلغات أخرى في عصرنا، تبقى دون حسم نهائي؛ فلا نعرف بالدليل الأركيولوجي الموَّثق والذي قد يبرز ذات يوم، هل كان للإيزيديين لغة أخرى قبل الكردية، أم أن الكردية هي لغتهم الأصلية التي اختلطت بلغات أخرى؟ وستترتب على الإجابة على هذا السؤال بالإجاب أو السلب أسئلة وتساؤلات أخرى. وهناك إشكالية أخرى لم يتطرق إليها المؤلف، فهو لم يفسر لنا سبب وجود أسماء من قبيل معاوية ويزيد وحتى لقب الأموي بين صفوف هذه الطائفة في عصرنا، صحيح أنه قدم حججاً مدعومة بالأركيولوجيا والفيلولوجيا لتأكيد الارتباط الجذوري بين الإيزدية والديانات والحضارات الرافدانية القديمة بدءاً من السومرية، ومنها وجود عدة معابد أيزيد/ أيزيدا” في جنوب بلاد الرافدين، وأيضاً في منطقة سنجار التي تقطنها الإيزيديين شمالاً منذ عدة قرون، ولكنه لم يفسر لنا ظاهرة وجود الأسماء الأموية بين الإيزيديين المعاصرين، ربما باستثناء اسم عدي الذي يقول أنه آت من مفردة “آدي” ذات العلاقة بتصور خلق الإنسان الأول آدم في المثيولوجيا الرافدانية القديمة، الذي دخل جذره ليشكل مع الزمن آدي، أو هدد أو أدد نيراري وما بعدها بعد تحولات “…” وهذا هو الحال مع آدي الذي أصبح عادي ومن ثم عدي بالرغم من عدم وجود حرف العين في اللغة الكردية/ ص189″.

إن انعدام وجود حرف العين في اللغة الكردية / الإيزيدية، ووجوده في كلمات مهمة في السردية الإيزيدية وكون لغة الإيزيديين خليط من لغات إحداها العربية، كما يقول الباحث يخالف ما أراد إثباته كما نعتقد ويثير التحفظ. فكاحتمال بين احتمالات، كوجود هذه الأسماء العربية ذات الشخصيات التأريخية “الحقيقية”، أليس من الممكن أن يكون بعض الأفراد والأمراء من الأسرة الأموية بعد سقوط دولتها في بلاد الشام المجاورة، وتحت ضغط المجازر المرعبة التي ارتكبها العباسيون بحقهم ولم تُستَثْنَ منها حتى قبور موتاهم، نجحوا في الفرار إلى مناطق سنجار الجبلية في شمالي العراق واستقروا واندمجوا بالإيزيديين الأصليين أو ذوي الجذور الحضارية الأقدم والأعمق مثلما نجح عبد الرحمن الداخل في النجاة والهروب غرباً وتأسيس دولة أموية في الأندلس بدعم أخواله من قبائل البربر؟

جذور الإيزيدية:

معروف أن نظريات وفرضيات كثيرة أطلقت في العقود الأخيرة وماتزال تطلق حول أصول الشعوب الرافدانية القديمة وقد راجت مؤخراً كتابات صحافية حول أصل السومريين الكردي، أو أنها تجعل بلاد الرافدين كلها بدولها المركزية الإمبراطورية المتعاقبة ولغاتها ملحقاً وتابعا لبلد أو دولة أخرى مجاورة كسوريا المشتق اسمها من إحدى الدول الرافدانية “آشوريا”، أو تعتبر السومريين من سكان الفضاء الخارجي والكواكب البعيدة، في تكرار كاريكاتوري لآراء وحيثيات وردت في كتاب أو أكثر صدر في الغرب لأشخاص باحثين عن الشهرة عبر “الصرعة الإعلامية” وليسوا من ذوي التخصص أو ممن لا يقيمون اعتباراً للمنهجية العلمية في الكتابة التحليلية المدعومة بالأدلة الملموسة الأركيولوجية واللغوية …وغيرها. ولكن الكتاب الذي بين أيدينا للسيد صباح كنجي يختلف عن هذه النماذج في أنه يصدر عن شخص عاش البيئة الاجتماعية موضوع البحث لأنه من أفراد هذه الطائفة العراقية الكريمة، وثانياً لأنه يعتمد الأساليب والطرائق العلمية غالباً في الفحص والتحري والتحليل وجمع الأدلة، ويحفل كتابه بالعديد من المعطيات الجديدة والتي قد تفاجئ القارئ، لعل من أبرزها:

معبد لالش

*ما ورد في الفصل الأول بخصوص اسم ” الإيزيدية والإيزيديين” حيث يعيدنا المؤلف إلى جذور الاسم القديمة، بعد أن يستعرض تلك التفسيرات التقليدية في كتب التراث من باب العلم بها أو تخطئتها وقراءتها من جديد بطريقة مختلفة، ثم يتوغل عميقا في تاريخ بلاد الرافدين “بيث نهرين” بالآرامية، في الفصل الثاني من كتابه، ليربط الاسم التراث الرافداني القديم وخصوصاً السومري والأكدي، كما سجله الباحث العراقي الراحل جورج حبيب في كتابه “الإيزيدية بقايا دين قديم”، حيث يعود هذا الأخير بالاسم معتمداً على ما قدمه علم الآثار من أدلة ومعطيات ليؤكد إلى أن “الدين اليزيدي منحدر من جذور بعيدة جدا تبلغ العهود السومرية/ص 9-10” وهذا الدين أو الاعتقاد القديم كان قد اتخذ من “معبد إيزيد أو إزيدا” الذي اكتشف في بورسيبا جنوبي العراق – 17 كم جنوب بابل – كما اكتشفت ثماني معابد أخرى بالتسمية ذاتها، خمسة منها في محافظة نينوى العراقية التي تتبع لها مناطق الإيزيديين اليوم. مضاف إلى ذلك يسجل المؤلف علاقة هذا الدين بعبادة الإله نابو البابلي، وهو في المثيولوجيا العراقية القديمة ابن كبير الآلهة السومرية مردوخ، إله الكتابة والحكمة، وعدَّه البابليون حفيد إله إيا. فيقتبس المؤلف نصاً مترجماً لدعاء طلب الغفران عن “لوح شوربو ص 145” ينتهي بعبارة “ليغفر نابو ونانايا في الإيزيد”.

*يذكر الباحث إشارات وأدلة علائقية مهمة أخرى بين الديانة الإيزيدية وجذورها السومرية الرافدانية منها تقديس يوم الأربعاء الذي هو يوم الإله نابو البابلي، ورمز هذا الإله على شكل شاب يركب طاووساً، وبيمنه حية والطاووس، والحية من رموز “طاووس ملك” في الديانة الإيزيدية، ورمز الحية التي نجدها على مدخل المعبد الإيزيدي في لالش في عصرنا. وهناك أيضاً التشابه القوي في تفاصيل عيد أكيتو السومري ثم البابلي للاحتفال برأس السنة البابلية مع بدء الاعتدال الربيعي في الأول من شهر نيسان وهو التاريخ نفسه الذي يحتفل فيه الإيزيديون برأس السنة في ديانتهم ويجرون المسيرة الاحتفالية المعهودة فيه والتي يعتبرها المؤلف امتداداً لمسيرة العيد السنوي في شارع الموكب ببابل العاصمة القديمة! إضافة إلى التشابهات المضمونية الملفتة بين أسطورة كلكامش الشهيرة ورواية مير مح الشعبية الإيزيدية/ص257

II

هل جاء العرب من بلاد القوقاز إلى الجزيرة العربية؟

التوثيق والاقتباسات:

من الواضح أن المؤلف بذل جهداً كبيراً في توثيق كتابه، ورغم وفرة الاقتباسات الضرورية غالباً فيه، فلم يتحول الكتاب إلى كشكول منوعات مبعثرة لا يجمع بينها جامع. وهذا للأسف ما نجده في بعض كتب المؤلفين المعاصرين في الميدان التاريخي والآثاري والإناسي والمثيولوجي والثيولوجي، حيث يعمد هذا البعض إلى إيراد المئات من الاقتباسات وبطريقة يشوبها الخلط بين كلام المؤلف والمقتبسات عن كتب الآخرين، فلا يفهم القارئ منها حدود النص الأساسي والاقتباسات إلا بجهد جهيد. ولكن طريقة كنجي في توثيق هذا الكتاب، وإنْ كانت واضحة الحدود، من خلال حصر المقتبسات دائماً بين أقواس، لكنها لم تكن موَّثقة وفق الطريقة الأكاديمية المعهودة والتي تعتمد الترتيب التالي داخل هوامش خاصة بالتوثيق؛ “اسم مؤلف المرجع أو المصدر – بذكر اللقب ثم الاسم الأول غالباً- ثم عنوان الكتاب، فرقم الطبعة أو الجزء، فدار النشر، فعاصمة النشر، فسنة النشر، وفي النهاية رقم الصفحة” مع بعض التقديم والتأخير في التفاصيل، فمؤلف هذا الكتاب يذكر غالباً اسم الكتاب المُقْتَبَس منه ومؤلفه ورقم الصفحة في نص الفصل وليس في الهوامش المخصصة للتوثيق والتعليق، فغالبية فصول الكتاب تخلو تماماً من الهوامش، وفي بعضها الآخر نجد الهوامش مختصرة وغير مرتبة، أما في نهاية الكتاب فثمة قائمة بـ “المصادر” تحتوي على 117 عنواناً غير مرتبة بالشكل الأكاديمي سالف الذكر. وفي حالات أخرى يورد المؤلف مراجع لا يعتد بها منهجياً من قبيل عبارات “كما وردت معلومة من مصدر في الانترنيت/ ص49″، أو “والمثبت في كتب التاريخ يروي…/ص105 “. إن هذه الطريقة في التوثيق، رغم قلة الأمثلة عليها، والتي قد تكون مبررة في المقالات الخفيفة والسريعة ومواقع التواصل الاجتماعي، ولكنها لا تنسجم مع كتاب ضخم وتخصصي كهذا، لأنها تفقده جزءاً من رصانته البحثية وقد تجعل إمكانية استفادة الباحثين وطلبة العلم الجامعيين منه صعبة في متابعة التوثيقات.

من أين جاء العرب واللغة العربية؟ 

خصص المؤلف الفصل السابع من كتابه لما سمّاه “أبعاد ودلالات لغة بعشيقة وبحزاني”. وفيه يؤكد أن لغة هاتين المدينتين هي لغة قائمة بذاتها وليست لهجة، ويعلل ذلك ببعض الأسباب التي لا تحسم الموضوع بما يؤدي إلى الخروج بهذا الحكم القاطع المناقض لقول المؤلف نفسه أن هذه “اللغة” هي خليط من اللغات الكردية والعربية، والفارسية والتركية وغيرها. وفي نقاشه للموضوع يتطرق كنجي ومن باب التبني والتأييد الحماسي إلى ما طرحه الباحث المصري د. لويس عوض من آراء وافتراضات في مجال فقه اللغة سنة 1980.

إن عوض الذي عُرف بدعوته إلى اعتماد اللهجات العربية المحلية بديلا للغة العربية الوسيطة “التي تسمى الفصحى”، وهو صاحب فرضية – كما يصفها هو نفسه- خلاصتها أن العرب لم يهاجروا من الجزيرة العربية إلى شمالها، وأن التكوّن السكاني لشبه الجزيرة لم يكن فيضاً سكانياً من داخل الجزيرة إلى داخلها أو حوافها المحيطة بها، ولكنه كان فيضاً سكانياً من خارج شبه الجزيرة إلى داخلها؛ وخاصة من أقوام بادية لا تزال في مرحلة الرعي آثرت حياة البداوة على حياة الاستقرار في وديان الأنهار أو حيل بينهما وبين الاستقرار- ص 328″، وهذه الفرضية تخالف كل ما هو معروف وعقلاني عن الهجرات البشرية التي تنطلق من المناطق الجافة إلى المناطق الفيضية الرطبة الوافرة المياه وليس العكس!

وفي موضع آخر ينقل كنجي عن عوض فرضيته، وقد تحولت إلى نظرية مصوغة هذه المرة بمنتهى الجزم، وتقول “فالعرب موجة متأخرة جداً من الموجات التي نزلت على شبه الجزيرة العربية من القوقاز والمنطقة المحيطة ببحر قزوين والبحر الأسود نحو ألف ق.م، نفذت إلى الفراغ الكبير في شبه الجزيرة من طريق بادية الشام، حاملة معها لغتها القوقازية المتفرعة عن المجموعة الهندية الأوروبية – م.س”. وتبقى وجهة نظر عوض والتي طرحها قبل عدة عقود مجرد وجهة نظر أو فرضية ترجيحية نقضتها العلوم الحديثة كما سأبين في الأسطر التالية:

وقفة مع فرضيات لويس عوض:

إنَّ الفرضيات المناخية التي طرحت قبل نصف قرن تقريباً تم تعديلها بشكل جذري نتيجة التطور المذهل الذي طرأ على “علم مناخ العالم القديم” حيث أصبح من الميسور تحديد مناخ أية بقعة من العالم بدقة عالية، وقد ثبت مثلاً أن فترة الجدب والتصحر وتسمى “الفترة المظلمة” سادت في الجزيرة العربية في هذه الفترة بالتحديد “الألف الثالث والرابع ق.م” ، إذ أكدت دراسة تخصصية نشرت ترجمتها في موقع (scientificamerican.com)  وكانت بإشراف معهد ماكس بلانك لعلم التاريخ البشري في ألمانيا، “أن سكان المناطق الشمالية في شبه الجزيرة العربية تعايشوا مع فترات الجفاف بشكل يدعو إلى الإعجاب، وهو ما يُرجعه إلى أن المنطقة كان لديها نظام هطول أمطار مختلف، مقارنةً بجنوب شرق شبه الجزيرة العربية، وكان الناس قادرين على التجمع في مناطق تتسم بوجود بحيرات قديمة ضحلة، مثل واحة “جبة” في شمال شرق السعودية حاليّاً. وتصف هذه الدراسة الفترة بين 5900 إلى 5300 سنة (أي بين 3900 إلى 3300 ق.م) بـ”الألفية المظلمة”؛ إذ سادت القحولة – الجدب – معظم المنطقة، ما دفع العلماء إلى اعتقاد أنها لم تكن صالحةً للسكن”، وأثبتت الدراسة بالأدلة الإركيولوجية وتحليل بقاياً المواقد والبحيرات القديمة أن الإنسان الجزيري تكيف وتعود على ظروف الجفاف الجديدة، وتصدى لها بمختلف الأساليب ومنها كما تقول الدراسة “التحول من الصيد والزراعة إلى الرعي، نتيجة نقص الأمطار والغطاء النباتي، وبالتالي تَحوَّلَ كثيرٌ من المجتمعات من حالة الاستقرار والاستيطان إلى حالة التنقل والترحال. وهاجرت تجمعات من السكان من قلب الجزيرة العربية إلى البيئات الفيضية المرتبطة بوجود الأنهار، كبلاد الشام والعراق. م.س”!

لويس عوض

أما الفيلم الوثائقي العلمي بأجزائه الخمسة “رحلة إنسانية لا تصدق” (incredible human journey )، والذي اعتمد منفذوه على ما يسمى “الحاسوب المناخي” والذي يسمح لنا بمعرفة الحالة المناخية التي كانت عليها أفريقيا والجزيرة العربية الجافتين في العصور السحيقة، ولكن وقبل 125 ألف سنة حدث تغيير جذري في المناخ وصار رطباً مطيراً وبدأت صحاري أفريقيا والجزيرة العربية تخضر وتزدهر بالحياة، ثم بدأت مرحلة جفاف أخرى قبل 90 ألف سنة وهي مستمرة حتى اليوم. ويخلص هذا الفيلم الوثائقي إلى تأكيد حدوث هجرة بشرية انطلقت من أفريقيا عبر مضيق باب المندب الذي تناقص عرضه بسبب حقبة الجفاف الثاني وتناقص مياه عند المضيق الى كيلومتر واحد وصار بإمكان الإنسان عبوره بسهولة، وتواصل خط الهجرات من داخل أفريقيا إلى أسيا حتى الهند والصين، ورغم أن هذه النظرية عن أصل البشرية الأفريقي تعرضت إلى بعض النقود العلمية في تفاصيلها، ولكنها تبقى على صعيد تفسير الهجرات البشرية أكثر معقولية من فرضية لويس عوض حول هجرة أجداد العرب من القوقاز وبحر قزوين.

وفي السياق ذاته دحضت دراسات جديدة أخرى في علم مناخ العالم القديم حدوث هجرات معينة كهجرة الكنعانيين من الجزيرة العربية إلى هضاب فلسطين الوسطى إذ أن هذه الهضاب كانت تعاني في الألف الثالث قبل الميلاد من تغير مناخي جاف شديد وانحباس مطري طويل، ولا يصح بالتالي حدوث هجرات بشرية واسعة النطاق إليها لانعدام الجاذب والمسوغ الزراعي، وقد حلَّ بعض الباحثين الفلسطينيين الأركيولوجيون والجيولوجيون هذا الإشكال بأن أكدوا على أن الكنعانيين هم سكان فلسطين الأصليون منذ البداية، فتكاثروا ثم تناقصوا سكانياً في فترة الجدب ثم عادوا إلى الانتشار والتكاثر مع تحسن الظروف المناخية والاعتماد على المياه الجوفية وهناك أدلة جيولوجية وأركيولوجية ذكروها تدعم هذا التفسير، ومن القائلين بهذا التفسير الباحثان الآثاريان الفلسطينيان د. عيسى الصريع ود. هاني نور الدين، وقد توقفنا عند آرائهما في مقالة سابقة.

أعتقد أن الخطأ في التعامل مع أفكار لويس عوض يتأتى من الخلط بين المنهج الذي اعتمده وبين القضايا التي عالجها وفق ذلك المنهج، فهو قال ذلك صراحة في حوار معه اقتبسه نسيم مجلي في كتابه “لويس عوض ومعاركه الأدبية”، والذي طُبع فصل منه كمقدمة لكتاب عوض المذكور، حيث قال عوض في ذلك الحوار مع نبيل فرج “هناك في الكتاب منهج وهناك قضايا. أما المنهج فهو امتحان اللغة العربية بتطبيق كافة قوانين الفونوطيقيا (علم الصوتيات) والمورفولوجيا (علم الصرف أو علم صور الكلمات) وقوانين الإيتمولوجيا (علم قوانين الاشتقاق)، “…” حيث أرى أن أي دارس للفيلولوجيا أي فقه اللغة، يجب أن يكون مسلحاً منذ البداية بهذه العلوم، وأنا لا أطالب إلا بتطبيق هذه القوانين بعقل مفتوح حتى نستطيع أن نهتدي إلى ما بين لهجاتها من صلات وما بين مفرداتها ومفردات اللغات الأخرى من صلات. أما القضايا فهناك جملة قضايا أهمها أن اللغة العربية كغيرها من لغات العالم مكونة من طبقات شبيهة بالطبقات الجيولوجية التي اندمجت وتكاملت مع نفسها، وانصهرت في هذه البوتقة، وخرجت منها هذه اللغة العربية/ ص 8-9 من “مقدمة في فقه اللغة العربية – لويس عوض” -ط1 سنة 2006 – دار رؤية للنشر والتوزيع”. فالاعتراض ليس على المنهج العلمي الذي زعم عوض أنه يأخذ به ويعتمده، وهو منهج علمي فعلاً ولكنه يبقى ذا أساليب أدبية غير تجريبية حاسمة النتائج كالفيزياء والرياضيات والكيمياء إلا في جانب ضئيل منه يتعلق بالجانب الكيميائي والفيزيائي المتمم لعمل الإركيولوجيا والجيولوجيا، بل الاعتراض على كيفية تطبيق هذا المنهج على القضايا موضوع البحث والاستنتاجات والفرضيات والنظريات التي خلص إليها الباحث حول “الطبقات الشبيهة بالجيولوجية في اللغة العربية” والقضايا المتفرعة عنها كأصل العرب ولغتهم التي اعتبرها فرعاً من “هندوآرية” ومن أين جاءوا كما يقتبس مؤلف الكتاب الذي بين أيدينا.

سأركز الآن قراءتي النقدية على بعض الأفكار التي وردت في هذا الفصل من كتاب الأستاذ صباح كنجي بخصوص العرب ولغتهم وتاريخهم:

الجزيريون “الساميون” والعرب، الكل والجزء:

يخلط المؤلف بين العرب والجزيريين “الساميين”، وهو بذلك يكرر – دون أن يقصد طبعا-  خطأ بعض القوميين العرب الذين يعتبرون جميع الشعوب الجزيرية عرباً، أو أن العرب هم أصل جميع الجزيريين، فمن المعروف أن الشعوب الجزيرية هم من أصول إناسية متقاربة، وربما يرجعون إلى أصل إناسي وعرقي واحد، تفرع لاحقاً، ولكننا لا نعلم عنه شيئاً محدداً وواضحاً ومؤكداً حتى الآن، والعرب هم فرع أو شعب من هذه الشعوب، وليسوا أصلاً إثنولوجيا “عرقياً” لغيرهم من الشعوب الجزيرية، فالعرب هم حقاً أحدث وآخر الشعوب الجزيرية السامية التي ظهرت على مسرح التاريخ في المشرق.

إنَّ الموثق بالأدلة الآثارية لأول حضور منظم للعرب كان في العصر الآشوري، حيث ساهمت قوة عربية في القتال وكانت بقيادة جندب العربي “جندبو آريبي” وتعدادها ألف مقاتل على الجمال حصراً، ضمن جيوش تحالف دويلات المدن في معركة قرقرة “كركرا” التي دَارَتْ رَحَاها عام 853 ق.م، شمال غرب سوريا، بين هذا التحالف وجيش الإمبراطورية الآشورية الحديثة بقيادة الإمبراطور شلمنصر الثالث، وكان جيش التحالف بقيادة الملك بن حدد الثاني ملك دمشق الآرامي وضم التحالف أثني عشر ملكاً وجيوشهم.

راجع الشرح في الهامش

أما النقش الذي يشير إليه كنجي ويسميه “نقش امرئ القيس” والمعروف أركيولوجيا باسم “نقش النمارة”، فيرجع تأريخه إلى سنة 328م، وقد كتب بالخط النَّبطي. وشكك الباحث العراقي سعد الدين أبو الحب بترجمة وتعريف هذا النقش سنة 2009، وقال – في دراسة له بعنوان “قراءة نقشي النمارة وأم الجمال النبطيين” ما معناه، إنه ليس شاهدة قبر لمرئ القيس ولا علاقة مباشرة له بهذا الملك وقدم قراءة وترجمة جديدة ومختلفة له تذهب إلى أن كاتب النقش يقسم في السطر الأول منه بروح الملك امرئ القيس ليس إلا، ثم يتحدث في سطوره التالية “عن تفاصيل انتصار أحد القادة العرب المتحالفين مع الروم، واسمه عكدي، على قبيلة مذحج وذلك بعد معركة في شعاب نجران”. ومع هذا وذاك، وبغض النظر عن محتوى نقش “النمارة”، فإن هذا النقش متأخر زمنياً على ما ورد في نصب شلمانصر الثالث حول معركة قرقر بأكثر من ألف ومائة وخمسين سنة.

ترى، ألا يشكل هذا الدليل الآشوري دحضاً نهائياً لنظرية لويس عوض عن هجرة الأقوام البدائية من القوقاز إلى الجزيرة العربية عبر بلاد الشام والعراق قبل الميلاد بألف سنة؟ أم أن هذه الأقوام البدائية جاءت من القوقاز مكتملة العروبة لغة وتكوينا؟

إن هذا الخلط الخاطئ بين العرب والجزيريين، أو اعتبار العرب هم أصل الجزيريين، أو أنهم أقدم الشعوب الجزيرية وليس جزءاً متأخر منهم، هو ما أوقع المؤلف في العديد من الاستنتاجات غير الدقيقة والمتسرعة، ودخل في عملية تفنيد لما ليس ثمة حاجة لتفنيده أصلاً كما يعرف المتخصصون والمهتمون بالشأن الإناسي والتأريخي. بل وقاده ذلك إلى ترجيح ومناقشة فرضية هامشية حول أصل السومريين والشعوب الجزيرية الأخرى تقول بأن أصلهم من منطقة القوقاز والتي يصفها بأنها “كانت منبع الهجرات المتعاقبة وهذا ما تؤكده المكتشفات الآثارية التي تكشف شعوب وقبائل هذه المنطقة بالتعاقب ابتداء من السومريين وما أعقبهم من قبائل وأجناس رعوية…ص 322″، دون أن يذكر مثالا واحدا من هذه المكتشفات الآثارية.

III

هل المصريون عرب، وما علاقة العرب بالجزيريين “الساميين”؟

نستمر في هذا الجزء الأخير من المقالة بمناقشة فرضيات لويس عوض حول أصل العرب القوقازي وطبيعة لغتهم ونتساءل: لماذا لم نجد نسبة مهمة عند تحليل المورثات الجينية “الجينات” لسكان الجزيرة العربية ذوي الأصول القوقازية، بل وجدنا جينات لا تختلف عن جينات الرافدانيين واليمنيين والشاميين كثيراً ضمن دائرة الجينوم ج1 وج2؟

هل المصريون عرب؟

وبالمناسبة، فلويس عوض يقول في كتابه “إن المسح الإثنولوجي لمصر والمصرين الناطقين بالعربية أثبت أنهم ينتمون إلى مجموعات إثنولوجية مختلفة عن المجموعات العربية بالإضافة إلى اختلافهم عن العرب. ص 10 م.س”، وقد فندت الدراسات الجينولوجية الحديثة هذا الرأي، وأثبتت أن المصرين لا يختلفون عن غيرهم من الناطقين باللغة العربية بين المحيط والخليج بانتمائهم إلى الجينومين ج1 وج2، وقد تطرقتُ لهذا الموضوع في مقالة سابقة اقتبست فيها ما قاله أحد مؤسسي علم الجينولوجيا، العالم  الروسي – الأميركي أناتولي كليوسوف، الذي قال حرفياً “إن من الخطأ تسمية المجموعة الجينية “ج1” بالمجموعة الفردانية الكوهينية “اليهودية”، لأنها موجودة عند العرب أيضاً، وهي عند العرب أقدم من وجودها عند اليهود بكثير، فهي موجودة عند العرب الذين يتكلمون العربية ويعيشون في تسع عشرة دولة تنسبها الموسوعات إلى العالم العربي، بدءاً من المغرب العربي حتى سوريا والعراق”.

وفي أحدث التحليلات الجينية التي أجريت من سنة 2017 وحتى 2020 نجد أن نسبة الجينومين “العربيين” ج1 وج2 هي أعلى من غيرها من شبكة الجينات لدى المصرين، ويخلص هذا التقرير العلمي الموثق بالأرقام والتفاصيل والذي يحمل عنوان (Genetic history of the Middle East) وتحت عنوان فرعي هو (DNA history of Egypt) إلى الخلاصة الحاسمة التالية: “يكشف التحليل الجيني للمصريين المعاصرين أن لديهم سلالات أبوية مشتركة بين السكان الأصليين الناطقين باللغة الأفروآسيوية في المغرب العربي والقرن الأفريقي ولدى شعوب الشرق الأوسط؛ كانت هذه السلالات الجينية قد انتشرت خلال العصر الحجري الحديث وتم الحفاظ عليها طوال عصر ما قبل الأسرات” أي بحدود 3100 ق.م.

أما الهابلوغروب أو السلالة (E) وتفرعاتها المختلفة والموجودة في مصر “فلايزال العلماء مختلفين حول منشئها وهل ولدت في افريقيا أو في الشرق الأدنى “الأوسط”، ومن يقول انها ولدت في الشرق الادنى يقول انها هاجرت هجره عكسيه لإفريقيا، والسبب هو انها بنت السلالة CT”، وسأكتفي بهذا القدر من الشواهد الجينية لأنني لست ملماً بهذا العلم إلا بشكل بسيط وكمعلومات عامة.

أما لغوياً، فنحن نتساءل: ألم يأتِ “أجداد العرب من القوقاز” معهم بلغتهم أم أنها زالت من الوجود كلغة وكسردية ولم تترك إلا بعض الألفاظ القليلة التي يشهرها لويس عوض في كتابه دليلاً على أن اللغة العربية هي لغة هندوآرية وليست جزيرية “سامية”؟ وهل تخلو أي لغة في العالم المعاصر من مفردات – قلَّت أو كثُرت – قادمة من لغات أخرى؟ وبالمناسبة، فهناك فرضية قديمة يقول أصحابها إن المجموعتين اللغويتين “السامية الحامية” و”الهندوآرية” ربما كانتا مجموعة واحدة وانشطرت لاحقاً إلى عدة مجموعات، ولكن جمهور الباحثين لا يقر هذه الفرضية لانعدام الأدلة الحاسمة التي تؤيدها، كما قال العلامة طه باقر قبل حوالي ثلاثة أرباع القرن في كتابه “مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة” ج1 ص 94، الصادر سنة 1951.

الفتيان والفتيات يؤدون الصلاة

أما الباحث العراقي عامر سليمان فقد أكد في كتابه “التراث اللغوي – الوارد في حضارات العراق”- ج1 ص312، الصادر سنة 1985، أن البحث اللغوي المقارن والذي يأخذ بنظر الاعتبار التزمين والتدرج من الأقدم إلى الأحدث، أكد الأصول الرافدانية الأقدم للعديد من المفردات التي دخلت في اللغة الإنكليزية وبعض اللغات الأوروبية عن طريق اللغة اليونانية، يورد قائمة بمفردات بعضها أساسي ومهم.

ومع كل ما تقدم، فإن هذا الرأي للويس عوض ومن يؤيده يبقى فرضية ترجيحية لا أكثر، وكان مؤسفاً وتعسفياً القرار الحكومي المصري بحظر توزيع وتداول كتابه في مصر منذ صدوره في الثمانينات، مع أنه كان مطبوعاً ومتداولاً خارج مصر.

قبل فرضيات عوض طُرحت فرضيات عديدة في إطار ما سمي “المعضلة السومرية” الباحثة عن أصول إلى هذا الشعب ولغته؛ منها ما يذهب إلى إنهم قَدِموا من شمال الهند وبلاد السند، ومنهم من يقول أنهم قدموا من شبه الجزيرة العربية ومنهم من يقول إنهم قدموا من شمال بيث نهرين “الرافدين” أو من جبل أرارات وبلاد أرمينيا، أو من وسط إيران، أو من جنوب الخليج العربي، وهناك مَن يقول إنهم لم يأتوا مهاجرين من أي مكان آخر، بل وجدوا في بلادهم في جنوب العراق القديم وفيه اندمجوا بالجزيريين الذين عاشوا إلى جوارهم حتى غطى حضورهم السكاني على الحضور السومري، وأنا أميلُ شخصياً الى هذه الفرضية، وهناك فرضية مثيرة أخرى قال بها الباحث العراقي د. نائل حنون قبل سنوات قليلة، تقترب من هذه الأخيرة، وتذهب إلى عدم وجود شعب سومري أصلاً، وكل ما وجد هو لغة اسمها السومرية ابتكرها سكان المنطقة الجنوبية من العراق القديم واستعملتها شعوب عديدة متعاقبة، فاللغة كما يقول حنون “ليست دائماً دليلاً على وجود شعب تكلم بها” ويضرب على ذلك مثال اللغة السنسكريتية وكنت قد ناقشت رأيه هذا في مناسبة سابقة من باب الاختلاف البحثي معه. ووجهة نظر حنون قريبة من وجهة نظر جورج رو التي “تضع حلاً وسطاً مفاده أن السومريين كانوا نتاج تمازج عدد من الأجناس التي توطنت المنطقة على مراحل مختلفة”. وهذه كلها فرضيات قابلة للنقاش.

الاستناد إلى التوراة:

يستند المؤلف – صباح كنجي – في بعض مواضع الكتاب إلى التوراة التي يقول عنها إنها ” تؤرخ للكثير من تسميات هذه الشعوب والقبائل، وإن لم يكن ما ورد في التوراة من باب المسلمات التاريخية المطلقة والعلمية، ولكنها تترادف مع المكتشفات الآثارية ولا تبتعد عنها في الكثير من التسميات أحياناً. ص 323″. وهذا كلام متناقض، فكيف يمكن الاستناد علمياً لوثيقة غير علمية وغير مُسَلَّم بها كالتوراة؟ وكيف تترادف تسميات التوراة غير العلمية مع المكتشفات الآثارية ولا تبتعد عنها كثيراً؟ وأين هي تلك المكتشفات الآثارية التي لا تبتعد عما ذهبت إليه التوراة؟

إنَّ الدراسات الحديثة حول التوراة انتهت إلى الجدار في ما يخص الميدان العرقي الإثنولوجي والتأريخي وقد لخص ذلك أحسن تلخيص البروفيسور “الإسرائيلي” زئيف هرتسوغ، رئيس قسم الآثار في جامعة تل أبيب بدراسته الآثارية المثيرة والتي تقول كل شيء في عنوانها وهو: “التوراة: لا إثباتات على الأرض” بمعنى لا توجد أدلة آثارية “أركيولوجية” على الأرض تؤيد الروايات التوراتية.

إنَّ التوراة فيها من الأخطاء الانثروبولوجية والإثنية والتأريخية ما يشب لهوله الوِلْدان؛ فهي مثلاً تعتبر العيلاميين من الجنس السامي وهم الأقرب إلى الشعوب الآرية، وقد هاجروا إلى جنوب إيران من شمالها وتطبعوا لاحقاً بطابع الثقافات والديانات واللغات الرافدانية، فيما تعتبر الكنعانيين الذين هم سكان فلسطين الأصلين من غير الساميين أي من الحاميين الذين حكم عليهم “رب التوراة” بأن يكونوا عبيداً لأبناء سام، رغم أن الكنعانيين كما كررنا هم الأقرب لغة وحضارة إلى الشعوب الجزيرية الأخرى، وهم أصحاب اللغة التي تفرعت عنها لغات عديدة أخرى كالفينيقية الشرقية والفينيقية الغربية في قرطاجنة والعمونية والمؤابية والإدومية والعبرية والآرامية. ويمكن أن نسرد هنا قائمة طويلة بالآثار المكتشفة التي تؤكد أخطاء الرواية التوراة بما فيها “نقش سلوان” الذي حاول التوراتيون توظيفه بشكل احتيالي لتأكيد روايتهم وقد فشلوا فشلا ذريعاً، كما بيتُ في مقالة نشرتها قبل أيام قليلة. (للاطلاع افتح الرابط: نقد الترجمات التوراتية لـ (نقش سلوان) في القدس)

جدالات قومية خارج سياق البحث العلمي:

كنت أتمنى أن لا ينزل المؤلف بسوية كتابة وتحليلاته إلى اعتماد بعض الآراء التي يكررها بعض كتبة مواقع التواصل وصانعي النكات والطرائف من قبيل أن “تسمية العرب جاءت من اللغة السريانية وتطلق على البدو الرحل المتنقلين تسمية “آربايا” وقد اشتقت منها العربة التي هي وسيلة التنقل والحركة. ص 324″، ومعلوم لدى عدد من الباحثين أن اسم “السريان” واللغة السريانية هو ذو حمولة طائفية دينية للغة الآرامية التي جُعلت حكراً على الشعب الآرامي الوثني فيما اختار المسيحيون تسمية السريان لينأوا بأنفسهم عن الوثنية، ومعلوم أيضاً اسم السريان مشتق من اسم “سوريا” وكلاهما مشتق من آشوريا أي بلاد آشور لولاية سلوقية ثم رومانية لاحقا؟ ثم هل يمكن أن نأتي بديل مشتق من لفظة معينة بعد قرون عديدة لتأكيد فرضية قبله فنقول إن اسم العرب اشتق منه اسم ” العربة للتنقل” على اعتبار العرب بدو رحل؟ وهل يتنقل البدو العرب في رحلاتهم الطويلة بالعربات أم على الجمال؟

العرب ليسوا أصل الجزيريين بل شعب منهم:

إنَّ العرب ليسوا هم البدو، بل إنَّ البدو ” الأَعراب” جزء من العرب الذين سكنوا المدن وبعضهم اختار حياة الرعاة الرحل كسائر الشعوب القديمة ومنها النوميديين وغيرهم. وهم – بالمعنى الإناسي كما أسلفنا – شعب جزيري “سامي” حديث وفتي وليس هو أصل الجزيريين، دخل هذا الشعب تاريخ الشرق وقلبه رأساً على عقب في القرن السابع الميلادي، وأسس دولاً وإمبراطوريات بلغت ذروتها مع الحضارة العربية الإسلامية في العهد العباسي والفاطمي بمصر والأموي في الأندلس وكانت مثالاً بارزاً على المشاركة الفعالة من قبل شعوب المنطقة من الشرق والغرب في صنع تلك الحضارات البائدة المتقدمة معيارياً وتقنياً في زمانها، ولم يقل أحد بأنهم أصل الشعوب الجزيرية القديمة إلا بعض البسطاء وغير المتخصصين بالعلوم الحديثية كالذين لا يفرقون بن العرب والأعراب البدو، فالفرع لن يكون أصلاً والأصل لن يعتبر فرعاً.

ومن هذ الخلل المنهجي والافتراض غير الدقيق نتجت سلسلة استنتاجات وأحكام متسرعة وغير دقيقة من  قبيل “العرب يدعون أنهم أقدم سكان المنطقة في الجزيرة العربية ومنها هاجروا إلى بقية المناطق في العراق والشام/ 325” فالهجرات القديمة التي يفترضها بعض الباحثين قبل الإسلام كانت تخص شعوباً جزيرية أخرى كالأكديين وغيرهم وهجرة العرب كانت قبل الإسلام بقرون قليلة ولكنهم بنوا ممالكهم على حواف الرافدين غربا كمملكة المناذرة ذوي الأصول اليمنية والغساسنة والكنعانيين والآراميين والأموريين في ما يسميها العرب بلاد الشام والأنباط والعمونيين وغيرهم في حواف الشام الصحراوية الغربية وتحديداً في الأردن اليوم، وبعض الباحثين يذهب إلى أنَّ هذه الهجرات وصلت إلى مصر وشمال أفريقيا. أما الهجرات العربية الواسعة النطاق فقد جاءت في القرن الثامن الميلادي خلال حروب الفتح العربي الإسلامي.

وعلى هذا، فإن قول المؤلف مثلاً إن علم العروض هو علم انتحله العرب من غيرهم ونسبوه لأنفسهم، هو قول صحيح تأريخياً، ولكنه موظَف بشكل خاطئ يهدف إلى الانتقاص والرد على مبالغات النثر السياسي القومي المتطرف، فالعرب لم يعرفوا قط علم العروض، ولم يكن لبحور الشعر العربي وجود لدى العرب في عصر “الجاهلية”، بل كانوا يقولون الشعر على سليقتهم، وأول من أسس وكتب في العروض الشعري العربي واستخرجه من الشعر العربي القديم هو الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري في القرن الثامن الميلادي، أكثر من ذلك يمكنني القول إن العرب لم يعرفوا علم النحو العربي ولم يكونوا يعرفون قواعد النحو بل كانوا يستعملونها تلقائياً ويتكلمون الفصحى على السليقة والفطرة وقد تأسس النحو العربي لاحقاً بعد شيوع اللحن والغلط في اللغة نتيجة اختلاط المسلمين من غير العرب بالعرب ودخول شعوب وبلدان أخرى في إطار الحضارة العربية الإسلامية لتسهيل اللغة عليهم، وأول علماء ومؤسسي النحو العربي هم من غير العرب غالباً من أمثال سيبويه في نهايات القرن الثامن الميلادي،  ونفطويه في منتصف التاسع الميلادي، أما واضع أسس النحو البدائية البسيطة فهو أبو الأسود الدؤلي الكناني في القرن السابع الميلادي، أي بعد اكتمال فتح العراق والشام ومصر، فأوجد الدؤلي قاعدة بسيطة لتمييز الفاعل والمفعول والمضاف، وحرف الرفع والنصب والجر والجزم. وفي القرون التالية تطور النحو العربي ونشأت مدارسه المعروفة في العراق “البصرية والكوفية والبغدادية المتوسطة بينهما”. وعلى هذا، فلم يكن لعرب الجزيرة علاقة لا بعلم العروض ولا بالنحو العربي ولا بالتنقيط الذي ينسبه بعض الباحثين إلى الدؤلي وبعضهم الآخر إلى نصر بن عاصم الليثي، ويحيى بن يعمر العدواني في عهد عبد الملك بن مروان الأموي.

أما وجود كلمة شعر في اللغات القديمة كالسومرية والأكدية والآشورية وفي العربية أيضا لا يعني إلا تواشج وتمازج هذه الشعوب الجزيرية الشقيقة والمتجاورة إناسياً ورجوعها إلى أصل إناسي مشترك قيد الأبحاث، أما وجودها في لغات غير جزيرية كالفارسية والتركية فهو يمكن أن يكون من باب التفاعل والاستعارة الحضارية لتلك الشعوب من السومريين والجزيريين لأنهم الأقدم.

الحضارة العربية الإسلامية التعددية:

 إن الدفاع عن مبدأ وقاعدة مشاركة شعوب المنطقة في الحضارة العربية الإسلامية ليس مِنَّةً من أحد وليس نظرية جديدة ملهمة بل هو واقع تاريخي موثق يدخل في عداد البديهيات الشائعة وهو مما ينبغي أن يفتخر به العربي التقدمي وغير العربي المنصف لكون العرب المسلمين هم مَن قدموا وقادوا عملية تأسيس وبناء حضارة تعددية لغوية وثقافية، ساهمت في صنع أمجادها كل شعوب الشرق التي انضوت في حدود تلك الحضارة، وبالتالي لا يمكن أخذ بعض مزاعم القوميين والعرقيين المتطرفين من العرب في بعض الشوارد ضمن الخطاب السياسي مأخذ الجد في الدراسات الإناسية والتاريخية التي تتوخى العلم مثلما لا يمكن بالمقابل أخذ ردود الأفعال العرقية المتطرفة المضادة والمعادية للعرب والعروبة مأخذ الجد في هذا النوع من الدراسات، وعموما فكلام الطرفين لا يعول عليه عليما وليس مفيدا زج البحث العلمي الرصين في الجدالات والمكايدات السياسية ذات المنحى القومي والقومي المضاد لأن ذلك سيكون على حساب رصانة البحث الإناسي الرصين والذي لا علاقة له بهذا النوع من الجدالات.

إيجابيات منهجية:

رغم الهنات الفنية والمضمونية التي تقدم ذكرها، فالمرجَح هو أن كتاب الباحث صباح كنجي سيحتل مكاناً مفيداً في المكتبة العراقية والعربية كمرجع غني في ميدان البحث الإناسي والمثيولوجي والتأريخي عموماً، وحول الطائفة الأيزيدية خصوصاً، وقد يُنَشِّطُ عملية البحث والتأليف في هذه الميادين باتجاهات جديدة واعدة.

إنَّ من الجدير بالملاحظة الإيجابية هو أن الباحث لم يبالغ في التعويل على تحليلاته واستنتاجاته التأثيلية “الإيتمولوجية” لما أورده من حيثيات في أغلب فصول الكتاب، ولم يزعم – كما يفعل بعض الباحثين المتسرعين- الذين يعلنون عن تحليلاتهم واستنتاجاتهم الشخصية وكأنها فتوح نظرية واختراعات عجيبة ونظريات قاطعة ثابتة لم يسبقهم إليها أحد ولا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها، في حين أنها لا تعدو كونها احتمالات وفرضيات وترجيحات؛ على العكس من هؤلاء نجد المؤلف – كنجي –  يختم بعض تحليلاته كما في مثل “رابعة العدوية وعلاقتها بالإزيدية” بالقول المتواضع، إن هذا الموضوع “يحتاج إلى المزيد من البحث والتقصي وسيكون موضع اهتمام من يسعى للكشف عن حقائق التاريخ المغيبة. ص197”. وفي مناقشته لأصول التشكيل اللغوي بين العربية والفارسية حيث ينتهي إلى خلاصة متواضعة يعتقد بموجبها أن هذا الموضوع “يتطلب البحث والاستقصاء من لدن الباحثين والمتخصصين وعدم التسرع في طرح الاستنتاجات. ص 317″، أو أنه يكتفي بالتساؤل بعد تقديم وجهة نظره حول علاقة القوالين في الفرق الموسيقية الغنائية الدينية الإيزيديين بفرق الكهنة ورجال الدين في العهد السومري واسمهم (كالا GALA) أو عند الأكديين (كالو KALU) بالقول “فهل هناك ثمة ربط بين الطرفين، أم أنها مجرد مصادفة لغوية وترادف لكلمات وألفاظ متقاربة؟”؛ ومن الواضح أن الكاتب يقصد حرف القاف الحميرية أو القاف القاهرية والتي تكتب في العراق “گ” وليس حرف الكاف في كلمة (كالا GALA).

أختم بالتنويه والإشادة بوفاء الباحث كنجي لهويته الطبقية ومهنته وشهادته الدراسية، ففي بادرة شجاعة، ندر أن نقرأ مثيلاً لها في المشهد الثقافي والعلمي العراقي والعربي، عَرَّفَ المؤلف بنفسه في آخر صفحة من كتابه بالكلمات التالية؛ المهنة: عامل، أكمل الإعدادية حين كان عاملا في مخبز الربيع. فكم هو رائع هذا الصدق مع الذات والآخر والتواضع الملحوظ من باحث مجتهد!

——————————————————-

*الشرق الأدنى: هو ذاته الشرق الأوسط وكلا الاصطلاحين أورومركزيين يصفان هذه المنطقة من حيث موقعها الى أوروبا الغربية، وفي بعض الاستعمالات تضاف إيران وقبرص إلى الشرق الأوسط الذي يضم العراق وبلاد الشام وشبه الجزيرة العربية، ومصر تركيا.

*النصب أحادي الوجه للملك شلمانصر الثالث وردت فيه تفاصيل معركة قرقرة ومشاركة قوة عربية بقيادة جندب ملك العرب (أرسل الملك جندبو ملك العرب 1000 فارس “جمال”) إلى جانب تحالف دويلات المدن في بلاد آرام “بلاد الشام” حالياً.

علاء اللامي

باحث وكاتب من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق