مسار جلجامش

الجيوبوليتيك السوري

ميزة تفاضلية أم لعنة تاريخية ؟

نقدّم هذا البحث لسببين رئيسين مباشرين : أولاً، لأنه يشكّل رؤية عامة محكمة للجيوبوليتيك السوري تعريفاً وكشفاً وتأريخاً وميزات وإشكاليات. ثانياً، لأنه يشكّل ( مثالاً منهجياً ) للأبحاث

والدراسات والمقاربات التي تندرج في مسار جلجامش.

الإطار العام

لم يكن شين ئيقي ئونيني الذي يشير اسمه المحفور على اللوح الثاني عشر والأخير من ملحمة جلجامش، إلى أنه كاتب أعظم عمل أدبي إنساني في التاريخ القديم، لم يكن هذا الكاتب الكلداني يعرف أنه ومن خلال وصفه لرحلة جلجامش، وخصوصاً تحديده لمسارها الذي ابتدأ في أوروك شرقاً ووصل الأرز غرباً ثم قفل عائداً إلى أوروك, أنه وضع الارتسامَ الدائري الأول المؤسِّس لرحلة الجيوبوليتيك السوري في التاريخ.

وإذا كانت الملحمة الكلدانية الموضوعة في بدايات الألف الثاني قبل الميلاد، تسرد وقائع رحلة ملك سومري (سواء أكان تخيلياً أو واقعياً) يعود وجوده زمنياً إلى بدايات الألف الثالث قبل الميلاد، فإنّ ما هو مؤكد أنّ سارجون الأكادي الكبير (2334 ــ 2279) ق.م كان وضع الارتسام السياسي الأول لهذا الجيوبوليتيك عندما عبر نهر الفرات غرباً ووسّع مملكته لتطابق جغرافية سورية الطبيعية وتزيد عليها أحياناً. وضع سارجون الكبير حداً نهائياً لمعنى الفرات كعائق طبيعي فاصل ما بين بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام, فكان أن استحال الفرات إلى نهر داخلي منذ ذلك الوقت، وتكرَّسَ الارتسامُ السياسي الموحّد للجيوبوليتيك السوري في المجال الجغرافي الذي يشير إليه مصطلح سورية الطبيعية.

 منذ تأسيسها كمجال واحد، بدأت سورية الطبيعية تكتسب صفات جيو ــ استراتجية فريدة، فشهدت نزاعات وحروباً وحركات سكانية كبرى و تفاعلات استثنائية بين إتنيات مختلفة، وذلك على التوازي مع الإنجازات والإختراقات الحضارية التي كانت تحصل على أرضها، في مختلف المجالات، التي وضعت المغامرةَ الإنسانية على مسار التطور والتقدم وتجاوزِ الذات مرّةً تلوَ الأخرى في خطٍّ تصاعديّ تاريخي مستمر.

وإذا كانت الصراعات الداخلية فيها، التي شهدتها مختلف الحقب من السومرية والأكادية والبابلية والآشورية والكنعانية ــ الفينيقية، والكلدانية والآرامية .. وصولاً للعربية الإسلامية وغيرها، هي نوع من «البسماركية القديمة» التي نحت نحو توحيدها بالقوة، فإن الصراعات الخارجية فيها وعليها, التي لم تغب في يوم عن تاريخها، والتي نشهد راهناً واحداً من أكثر فصولها تعقيداً, تؤكد, بمعنى ما، أن هذا المجال التاريخي يُنظَر إليه استراتيجياً, كلزوم دائم للإمبراطوريات القديمة والحديثة، التي ترى أيّةُ واحدة منها في سورية الخصائصَ الاستثنائية اللازمة والضرورية لها كي يكتمل المعنى المؤكد بكونها إمبراطورية .

وعلى ذلك بدا الجيوبوليتيك السوري كميزة تفاضلية خاصة بأرض تأسست عليها خطوات الإنسان التاريخية الأولى، وارتسمت آفاقه الحضارية. فبدت «الأرض السورية» كمنصّة مرتفعة وسيكون ارتفاعها سبباً في التمكن من رؤيتها من قريب ومن بعيد, وستكون مشتهاة دائماً, وستظل مرئية بوضوح في مسار التاريخ, حيث ستتزايد الجهات المحدّقة بها والراغبة بالوصول إليها اضطراداً إلى الوقت الذي شهدت فيه ازدحامات خانقة, لعل من أكثرها حدّة ذلك الازدحام الراهن الذي يشير إلى صراع عميق وواسع بين مختلف الإرادات والاستراتجيات الاقليمية والدولية على «المنصّة» ومن أجلها.

بهذا المعنى يمكن قراءة الصراعات الامبراطورية التاريخية التي شهدتها سورية و اشتركت فيها مثلاً الإمبراطوريات: الفارسية، والمقدونية /السلوقية، والرومانية/البيزنطية، والعربية الإسلامية، والإسلامية غير العربية، والأوروبية (الصليبية) القديمة، والمغولية، والعثمانية، والأوروبية الحديثة الفرنسية والبريطانية والروسية, فضلاً عن الأميركية.

منذ سقوط الدولة الأكادية، ومن ثم فشلُ المحاولة الآشورية المتجددة في النصف الأول من الألف الأولى قبل الميلاد  (934 ــ 609 ق.م )… «لم نأت على إدراج المحاولة القرطاجية خلال المؤية الثالثة وصولاً للثانية قبل الميلاد، في الإطار الذي نتناوله، باعتبارها في المقتضى والمكان، وقعت في المدى الاستراتيجي المتنازع عليه بين روما وقرطاجة، ولم تقع في المجال السوري المباشر، ونظن أن افتقادها لـ (المركز السوري) كان من الأسباب الحاسمة التي أوصلتها إلى نهايتها على النحو التراجيدي الذي انتهت إليه» …منذ سقوط الدولة الأكادية بدا أن المجال السوري يتعرّض لضغط متواصل, أدى في الحقب التاريخية الأولى إلى تهديد سورية دائماً من قبل مركز إمبراطوريتين متصارعتين: شرقية (فارسية ــ تأسست في العام 559 ق.م) وغربية (مكدونيّة بدأت مع فتوحات الاسكندر في العام 326 ق.م، ثم ورثتها السلوقية) ومن ثم رومانيّة/ بيزنطية. وسيؤدي هذا الضغط إلى نوع من قسمة سورية بالمعنى الاستراتيجي, قسمة ستضع شرقها بلاد ما بين النهرين في مواجهة غربها بلاد الشام. وهي مواجهة ستنتج في النهاية, ليس فقط ابتعاداً بالموقف والموقع بين الجهتين، بل ستحاول تأكيد هذا التباعد جغرافياً مع نشوء الجوف السوري الذي سيحيل سورية الطبيعية إلى (الهلال خصيب) بعد أن كانت «البدر التام».

في هذا المجال تماماً, يستلفت الانتباهَ «المشروعُ التدمري» في القرن الثالث الميلادي, ولا تنبع أهمية المشروع من الموقف البطولي الذي اتخذته الملكة زنوبيا في مواجهة الإمبراطورية الرومانية, بل تحديداً من كون المشروع التدمري هو المحاولة المركزية الأكثر جدية التي كان من شأن نجاحها إسقاط واقعِ «الجوف السوري» وفعله، ونشوء الهلال الخصيب واستمرار البدر السوري التام.

مع سقوط المشروع التدمري, فقدت سورية فرصةً استثنائية لإنتاج مجالها الموحّد, وأصيبت بالمقابل بمرض الجوف المزمن, الذي سيبقى مباعِداً ما بين شرقها وغربها حتى مع الإمبراطورية الاسلامية التي أُمويّتُها أخضعت عباسيّتَها, ثم عادت عباسيّتُها لتُخضِع أمويّتَها, وفي الحالتين استمر الجوف بالتصاعد والاتساع ولا يزال. منذ ذلك الوقت المبكّر جداً, بدأت الرحلة التراجيدية. ومثلما بدا الجيوبوليتيك السوري دائماً أنه غير قابل للتجزئة النهائية, فإنه يبدو غير قادر على التوحد. لكأنّ الأمر ينطوي على أسباب غامضة غير مفهومة, غير قابلة للحصر والتحديد والإحاطة؛ فما هو ميزة تفاضلية يكاد يتحول إلى عاهة تاريخية!

مع بداية القرن العاشر, سيتأسَّس ارتسام عالمي جديد, سيرسي فارقَ قوة ما بين غرب أوروبي تحديداً, بدأ يتلمس طريق نهوضه, وشرق عربي ــ  إسلامي خصوصاً, بما فيه سورية الطبيعية, بدأت خطواته تتسارع هبوطاً, حيث كان من شأن دخول بني بَويه نسيجَ الدولة الإسلامية أن أدّى  إلى تغيير هذا النسيج وإقصاء السوريين منه. وسيؤدي هذا الأمر إلى نوع من  (العولمة الإسلامية) التي سيتم استغلالها من فئات خارجية ستعمل على إحكام سيطرتها على سورية وغيرها من بلدان الإمبراطورية الإسلامية تحت يافطة (الخلافة ), كما سيعبّر عن ذلك توالي الحقب اللاحقة التي استمرت قرابة 1000 عام والتي بدأت مع السلاجقة ومن ثم المماليك والمغول والتتار ومن ثم العثمانيين الذي بقوا رازحين فوق الخلافة أربعة قرون كاملة.

بالمقابل سيتجدد الحضور الأوروبي في سورية عبر حروب الفرنجة  (1096 ــ 1291) أولاً، وسيتواصل هذا الحضور لاحقاً في أكثر من مناسبة وبأكثر من طريقة «الامتيازات الأوروبية في الإمبراطورية العثمانية» إلى أن يَظهر على نحو مباشر مع الحرب العالمية الأولى وما تخلَّلهامن اتفاقيات سريّة خاصة بسورية الطبيعية وغيرها, وما تمخضت عنها الحرب من قرارات أممية سترسم خريطة تجزيئية لسورية وتضعها تحت الوصاية والانتداب وتؤسس البيئة المثالية لتنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين.

خضعت (المنصّة السورية), مع نهاية الحرب العالمية الأولى  (1914 ــ 1918) لرؤية استراتيجية جديدة, تبدو مرجعياتها النظرية ممتدة إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر, وتتمثل في البعثات الأوروبية ودراساتها الاستشراقية كما تقاريرها الدبلوماسية السرية. بدت بريطانيا وفرنسا في سباق خاص وواضح لاعتلاء المنصّة والاستيلاء عليها, وسيترافق ذلك مع بروز عنوانين سيشكلان لاحقاً عاملين رئيسين في ترتيب الخرائط المستقبلية, كما في الأحداث والنزاعات التي ستشهدها سورية ولا تزال منذ ذلك الوقت. هذان العاملان ليسا سوى: المشروع الصهيوني في فلسطين, والنفط. وإزاء وضع قريب من التوازن اتجهت فرنسا وبريطانيا لاقتسام (المنصّة) بإعادة تشكيلها تأسيساً إلى اتفاقية سايكس بيكو1916.

خريطة سايكس بيكو
خريطة سايكس بيكو

منذ ذلك الوقت الذي تعرّضت سورية فيه إلى تلك الجراحة التشويهية التبشيعية، حَكمها نظام سايكس بيكو بتنويعاته وتعديلاته ولا يزال. تبدَّل النظام العالمي غير مرة خلال قرن مضى، تبدلت الأنظمة الإقليمية وتغيرت الحدود غير مرة في خريطة العالم، وبقي نظام سايكس بيكو ثابتاً راسخاً لا يتزحزح. بل إن منهجه وآلياته ومفاعيله تستمر بالازدهار والتقدم والتطور؟!

هل سورية محكومة على نحو مؤبّد  بهذا النظام؟ أم أن الخلاص منه هو مسألة شاقة بالغة التعقيد؟ أم أنّ هذا النظام اخترق «نقيَّ العظام» السوريّة وبدّل دماءها فوضعها على سكة أزمات تتوالد ذاتياً في طريق «الإفناء الذاتي»؟!

مما لا شك فيه أن الميزة التفاضلية السورية الناتجة من موقعها عادت مع سايكس بيكو لتحيل سورية إلى مسرح عمليات جيوبوليتيكية مستمرة في عروضها، ومحكومة بمسار تراجيدي، هو نتاج إعادة تشكيل المنصّة السورية وسط شبكة جيوبوليتكية إقليمية ودولية تحيط بها من كل صوب وتختلف في قوتها عما كانته سابقاً وفي أي وقت.

كيف تبدو سورية في وسط هذه الشبكة؟

 (إطار وصفي مجرد)

يمكن وضع توصيف مجرد ساكن للدوائر المشكّلة لهذه الشبكة في سبيل مقاربتها ومعاينة وضع سورية فيها.

أولاً ــ المجال المركزي: سورية الطبيعية:

أ ــ الدوائر المزدحمة:

آلَ نظام سايكس بيكو في مختلف تعديلاته إلى إنتاج كيانات سياسية متعددة ذات حدود تفصلها الواحدة عن الاخرى. وإذا كانت الأمة في إحدى توصيفاتها، حسب أنطون سعاده، تخضع لنظام دورة اجتماعية اقتصادية واحدة، فالحال أنّ هذه الدورة تم تدميرها وإقامة عدد من الدورات المصطنعة بديلاً  منها. دورات وجدت نفسها في حالة ازدحام شديد على «منصّة» ليس من المفترض أن تتوضع عليها سوى دورة واحدة.

سنجدعلى المسرح السوري دورات:

العراق:       (435الف كم² ــ 31 مليون نسمة)

الشام: (185الف كم ² ــ 22مليون نسمة)

لبنان: (10452 كم² ــ 5 مليون نسمة)

الاردن:       (92000كم² ــ 6 مليون نسمة)

فلسطين:      (27000 كم ² ــ 6,5 مليون نسمة)

الكويت:      (18000 كم² ــ  3 مليون نسمة)

قبرص:       (9000كم² ــ اقل من مليون نسمة)

ب ــ الزنار المسلوب:

لم تكتف عملية إنتاج سورية الطبيعية على هيئة كيانات متعددة بفعل التجزئة وحسب، بل وعلى التوازي مع ذلك أدّت إلى تعريض الهلال الخصيب لعمليات قضم أحالته إلى هلال منقوص ومشوّه، فبدا «زنار سورية» مسلوباً في معظمه لإرادات خارجية.

يمكننا وصفياً ملاحظة المناطق التالية ابتداءً من الجنوب الغربي:

سيناء ــ  فلسطين ــ الجولان ــ لواء اسكندرون ــ  مرسين ــ طرسوس ــ كيليكيا ــ وأضنه ــ عينتاب ــ وكلّس ومرعثس وأورفه وحرّان ودياربكر وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر (الأقاليم التي تقع تحت الاحتلال التركي شرّعت دولياً بعاهدة سيفر عام 1920 ومن ثم في معاهدة لوزان عام 1923 باستثناء لواء اسكندرون الذي تنازلت عنه فرنسا ووهبته لتركيا في العام1939)، الأحواز في الجنوب الشرقي.

تبلغ المساحة الإجمالية لهذه المناطق كلها قرابة 600 ألف كم2، وهي أقل بقليل من نصف مساحة سورية الطبيعية كلّها.

ج ــ فلسطين/إسرائيل:

في فلسطين، تمَّت عملية إزاحة واستبدال، حيث أزيح سكان فلسطين وتم استبدالهم بسكان قادمين من مختلف أنحاء العالم خاضعين لمقتضيات برنامج معقد، سيصِم التاريخَ العالمي ابتداءً وخصوصاً من نهاية الحرب العالمية الثانية 1945.

لم تَبق فلسطين دائرةً تزاحم أخواتها على «المنصّة» بل اقتحمت المنصّة «دائرة إسرائيل» فتغيرت قواعد اللعبة الجيوبوليتيكية على المسرح السوري، حيث سيبدو «الحضور الإسرائيلي» بمثابة عامل شديد الاستثنائية باستهدافه ليس السيطرة وحسب بل نقل الملكيّة التاريخية للمنصة السورية، ليس فقط عبر اكتسابها بالقوة، بل وفق رؤية استراتيجية مرافقة لعقيدة دينية تعيد تدمير التاريخ وتأسيسه ابتداءً من مسيرة قبيلة تائهة في الصحراء.

 ــ ثانياً ــ الدائرة الإقليمية :

تشكلت الخريطة الإقليمية المرافقة لسايكس بيكو وتكوّنت في دائرتها الأولى المحيطة بسورية الطبيعية من أربع كتل كبرى:

تركيا (800 الف كم ² ــ 80 مليون نسمة): ماضٍ إمبراطوري عثماني قريب وحاضر في الذاكرة السياسية التركية الراهنة، قوة اقتصادية كبيرة، موقع استثنائي ما بين روسيا وأوروبة وآسيا.

إيران (1،650،000كم² 75 ــ مليون نسمة): ماضٍ إمبراطوري فارسي قديم، قوة اقتصادية كبيرة، دخول في عالم الصناعة النووية، مرجعية إسلامية مؤثرة.

ــ مصر (مليون كم² ــ 91 مليون نسمة): ماضٍ حضاري عميق ومؤثر في التاريخ، ثقل واضح في المجال العربي.

السعودية (2 مليون كم ² ــ 30 مليون نسمة ): ثروات بترولية هائلة،امكنة الاسلام التأسيسية المقدسة والمرجعية.

ثالثاً ــ الدائرة الدولية:

مرّ النظام الدولي بمراحل متعددة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى:

 نظام عصبة الأمم «ما بين الحربين»، وتميزت بالتوسع الفرنسي البريطاني, واستعادة ألمانيا لقوتها وتفوقها, وتأسيس الاتحاد السوفيتي، وخروج الولايات المتحدة من عزلتها.

النظام الثنائي القطب  (1945 ــ 1990) الذي بدا محكوماً من الاتحاد السوفييتي الشيوعي والولايات المتحدة الرأسمالية. قطبان تدور في فلكهما دول تتباين في أوزانها وأحجامها وأدوارها. حروب العالم وتسوياته ستخضع لمقتضيات هذا النظام في تلك الحقبة.

ج ــ النظام الأحادي القطب  (1990←…) الذي بدأ مع سقوط الاتحاد السوفييتي وتسيّد الولايات المتحدة التي أخضعت الخريطة العالمية لمقتضياتها الاستراتجية. يبدو هذا النظام في أكثر لخظاته ضعفاً, ما يجعله معرضاً للتغيير لصالح نظام آخر تعددي, تبدو ملامحه واضعة في الصعود الروسي الملفت , كما في نهضة الصين والهند ودول البريكس مجتمعة.

قراءة في الإطار الوصفي:

ليست الكيانات السياسية المؤسَّسة بناءً على اتفاقية سايكس بيكو سوى دوائر مغلقة, أَنشأت في سياق مسارها ثقافتَها الخاصة ومارست سياستها الخاصة, وارتبطت جيوسياسياً بمرجعيات خارجية إقليمية من الدائرة الأولى، وتبعت مرجعياتٍ دولية في مختلف أحقاب النظام الدولي وتنويعاته. وكل هذه الأسباب جعلتها في حالة من التصادم المستمر. ولماّ كانت الدائرة الواحدة, في التجريد الرياضي, لا تساوي دوائر متعددة في الحجم والمساحة, فإن التعدد هنا أدى إلى أخطاء حسابية كبرى؛ فجعل الازدحام الشديد الحالة المرافقة والمؤدية للتدافع والتصادم الذي سيصِم علاقات الكيانات /الدوائر فيما بينها. استطراداً لذلك لن تتمكن على نحو تام من إنجاز استقلالها ولا تحقيق معنى السيادة, مع الأخذ بعين الإعتبار تفاوت درجة الإنجاز فيما بينها, الأمر الذي أدى إلى إنتاج بيئة غير متوازنة «فوارق في درجات القوة العسكرية والإقتصادية والسياسية» كان من المفترض أن تقود إلى «بسماركية متجددة» أي إلى اتحادات مفروضة. إلّا أن ذلك لم يحصل بسبب من الحضور الطاغي للمرجعيات الإقليمية ــ الدولية, ما حافظ على حالة غير قادرة على التوحد او إنجاز وحدة مفقودة, وهو وصف سياسي لوضع دوائر دائمةِ التصادم وفقة درجة معينة لا يجب تغيرها. ذلك إنّ أيّ تغيير في مستوى الدرجة قد يقود التصادم إلى حالة الالتحام , وأيّ اختراق متبادل للدوائر مهما كان صغيراً سيؤدي تلقائياً الى توحيدها وهو أمر بدا من الصعوبة إنجازه وخصوصاً مع تشكيل نُدَبٍ عملاقة (ثقافية ــ إجتماعية ــ سياسية ــ اقتصادية). نُدَب سترتفع عائقاً متيناً لفعل التجزئة الذي يحمي حالة الدوائر المزدحمة المتصادمة.

ب ــ إنّ نجاح المشروع الصهيوني في فلسطين، عبر إحلاله إسرائيل مكانها، أدى إلى نشوء أزمة غير قابلة للتسوية السياسية بأي معنى، وإذا كانت إسرائيل الكبرى هي المعادل الصهيوني الافتراضي لسورية الطبيعية، فإن المصارعة الرومانية الحرة هي المنهج النهائي لطبيعة المواجهة بين الطرفين. أي لا يمكن أن يتصارع هذان المشروعان ويظلان معاً على الحلبة أحياء، لا بدّ من مشروع مقتول.

 بهذا المعنى، سيؤدي توضّع المشروع الصهيوني على المنصّة السورية، إلى حالة من الاختناق المتزايد للدوائر المتصادمة، فيما إسرائيل قادرة على الاسترخاء في حقل الاستراتيجية الأميركية العليا عبر انضوائها فيها كضرورة حتمية.

ج ــ تشكِّل الدائرة الإقليمية الأولى المحيطة بسوريا (إيران، تركيا، مصر، السعودية) قلاعاً جيوبوليتيكية، أنتجت وتنتج وضعاً لا متوازناً مع سورية الطبيعية. ويعود الخلل في أصله إلى التفتيت الذي أصاب الكتلة السورية وشظّاها، مقابل محافظة الكتل المحيطة بها على نظامها الوحدوي وقوتها.

بحساب رياضي مجرَّد نجد:

إن المساحة الكليّة للكيانات السورية السياسية تقارب 800 ألف كم²، موزعة على 7 كيانات أكبرها العراق فإذا أضفنا مساحة الزنار المسلوب التي تقارب 600 ألف كم²، تكون المساحة الكليّة لسورية الطبيعية مقاربة 1400.000 كم² فيما يتجاوز عدد السكان الإجمالي 78 مليون نسمة.

وعلى ذلك تبدو سورية الطبيعية كمجال واحد في حالة توازن مع الكتل المجاورة، وهو أمر لم يحصل بسبب نظام سايكس ــ بيكو، الذي يمنع أيضاً أي كيان من التوازن مع الكتلة المجاورة له، فلا العراق قادر على التوازن مع إيران أو تركيا، ولا الشام قادرة على التوازن مع تركيا مثلاً. فبدت الكتل الإقليمية كجدار غليظ ضاغط على الدوائر المزدحمة والمتصادمة على المنصّة السورية.

خلاصة رئيسية

إن ألف عام، كالتي مرّت على سورية ابتداءً من منتصف القرن العاشر، كانت كافية في النهاية كي يتم النظر إليها وفق القاموس الإمبراطوري ــ الأوروبي في مطلع القرن العشرين باعتبارها «تركة» الرجل العثماني المريض الذي قارب على نهايته. ولمّا كان «الشيوع» هو الصفة الرئيسية لـ «تركة» رجل ميت لا وريث له، أوكلت فرنسا وبريطانيا لرسّامَيها الماهرَين سايكس وبيكو مهمة دراسة هذا «المشاع» وتلوينه ورسم حصص المالكين الجدد وإخضاعه لنظام ملكية جديد. وقد ظلّت سورية الطبيعية خاضعة لنظام الانتداب  الفرنسي ــ البريطاني إلى أن استقلّت كياناتها في مناسبات  متعددة، وأعلن المشروع الصهيوني قيام دولة اسرائيل على أرض فلسطين في أيار 1947، فكان أن استقرّت سورية في خريطة «الشرق  الأوسط» المصطلح الذي ابتكره أحد الضباط الانكليز عام 1905, وظلّ في إطار التداول النخبوي– الاستراتيجي إلى أن فرض نفسه على نحو عام مع الحرب العالمية الثانية.

منذ دخولها في إطار «الشرق الاوسط» تبعثرّت الكيانات السورية وتوزعت على مرجعيات إقليمية ودولية سائدة. ففي حين تقاسم النظام الثنائي القطب السيطرة الاستراتجية على هذه الكيانات مع غلبة للقطب الأميركي، بدا في لحظةٍ ما أنّ النظام الأحادي القطب قاب قوسين أو ادنى من إحكام سيطرته على المجال السوري برمته «2005 ــ 2006 ــ 2007 .. مشروع الشرق الاوسط الكبير».  لكن ذلك لم يحصل. وإذا كان تنسيب سورية إلى الشرق الاوسط كمجال جيوبوليتيكي قد حصل كي يتم التعامل معها وفق أوصاف هذا المجال الذي تبدو فيه «إسرائيل» وصفاً فارقاً جداً، فإنه من الصعوبة الاكتفاء بتنسيب سورية إلى شبكة جيوبوليتيكية بدت محدودة المعنى إزاء أحداث كبرى عصفت وتعصف بالنظام العالمي  برمّته. فإنْ كان العراق قد شكّل  المكانَ والمناسبة «1990 ـــ 2003» التي شهدت ولادة القطب الأوحد، ومن ثم تكريسه كحاكم عالمي مطلق، فإن الشام، راهناً، تشكِّل المكانَ والمناسبة التي يبدو فيها أنّ عمر هذا القطب قد انتهى، وأنّ ثمة نظاماً عالمياً تعددياً هو طور التشكل.

وإذا كانت الدائرة الإقليمية تمارس ضغطاً متواصلاً على الكتلة السورية المفتتة، فإن أي طرف في هذه الدائرة، دون سورية، سيخسر قوته الإقليمية وبالتالي مستوى حضوره الدولي، و سيتحول من قلعه جيوبوليتكية إلى «مخفر حراسة» متواضع:

تركيا دون سورية ستبقى في قاعة الانتظار الأوروبية تقرع باب الإتحاد الأوروبي الموصود بوجهها بإحكام، فيما طريقها نحو العالمين العربي والإسلامي سيبدو مغلقاً أيضاً.

إيران دون سورية ستعود إلى حدودها السياسية كدولة عادية حبيسة الإرث الفارسي غير القابل للتجدد إمبراطورياً.

مصر دون سورية ستفقد /فقدت/ دورها في المجال العربي، وسيتدنى حضورها الإقليمي، كما ستجد في شرقها إسرائيل قوية متفردة.

السعودية دون سورية ستخسر المجال التاريخي المؤسس مع رحلة الإسلام الأولى، وتعود إلى سجن الصحراء العربية الذي لن تكون فيه سوى إحدى قبائلها.

تاريخياً: المنصّة السورية مغرية بمواصفاتها، ولذلك كانت ولا تزال مرئية ومشاهَدة ومراقبة ومشتهاة.

الإمبراطوريات الاوروبية قديمها وحديثها رأتها واقتحمتها.

الإمبراطوريات الآسيوية رأتها واقتحمتها.

الإمبراطورية الاميركية  رأتها واقتحمتها.

الإمبراطورية الصهيونية رأتها واستوطنت إحدى جنباتها.

العرب رأوها واقتحموها، والعثمانيون رأوها ورزحوا فوق أرضها وانتهت إمبراطوريتهم مع الخروج منها.

هي الآن مرئية ويتم التحديق بها أكثر من أي وقت مضى: فهي مرئية من أقاصي الشرق.. من اليابان والصين إلى أقاصي الغرب.. من أوروبا والقارة الأميركية.. من أستراليا إلى الهند إلى روسيا..

أثمة ما يسبب كل هذا التحديق ؟! بلى:

إنها الميزة التفاضلية للجيوبوليتيك السوري الذي يؤكد كون سورية عقدةَ تقاطع استثنائية للاستراتيجيات، عقدةً تجمع بين عوامل الثروات وطرق المواصلات والممرات وإنشاء الشبكات العالمية الجيوبوليتكية.

عقدة هي ميزة تتوزعها القوى الإقليمية والعالمية وتتصارع من أجلها، فيما سورية أسيرة دوائرها المغلقة المتوضّعة على مسار تراجيدي يكاد يخنق آفاقها.

وفق التعريف الأرسطي: التراجيديا لا تشير إلى تشوّه خلقي، بل إلى خطأ ما وقع.. خطأ ارتكبه البطل.. فأركعه.

إذاً، أين الخطأ؟

بالتأكيد سورية ليست مشوّهة خلقياً (بل ذات قوام رشيق و وجه حسن)، وبالتأكيد أيضاً سورية ضائعة:عن هويتها وتاريخها. ومستقبلها، وتعتبر في خانة السقوط الاستراتيجي بفعل عوامل: التجزئة ــ الزنار المسلوب ــ الإنسان القديم. إذاً ما العمل؟

لم يخطئ شين ئيقي ئونيني , عندما جعل جلجامش ينسى نبتة الخلود بعيداً عنه, لتتلقفها الأفعى وتلتهمها, فتتسبب تلك النبتة بذلك التجديد المستمر لجلد الأفعى أو لقشرها.. فيما عاد جلجامش إلى أوروك, وقد زالت غشاوة الوهم عن بصره ومن بصيرته. عاد إنساناً جديداً إلى أوروك الجديدة.

الخطأ أن سورية لا زالت تبحث عن نبتة التهمتها الأفعى فقشرت جلدها ولم تُجدّدها. تبحث دون جدوى.

السوريون تائهون, فيما الأفعى تتلوى أمامهم وأوروك لا تزال بعيدة.

كل شيء بقي على حاله: السوري ــ الإنسان ظلّ عتيقاً، أوروك المدينة ظلت عتيقة!

ألذلك شهدت المنصة السورية وتشهد راهناً ذلك الصراع الدامي بين عتيق وأعتقَ منه؟!

لا يمكن لسورية أن تستعيد ميزتها الجيوبوليتيكية, بعمل جيوبوليتيكي؟

تلك مفارقة مذهلة.. ولكنها حقيقة.

الرحلة السورية للخروج من التراجيديا تبدأ بالإنسان ــ المجتمع، بالإنسان الجديد والمجتمع الجديد الذي يرفع بصره وبصيرته عن جلد الأفعى.. ليرى أوروك الجديدة.

ملاحظة: هذا البحث تم نشره سابقاً في مجلة فكر ( العدد 119 ) ويشكّل جانباً من كتاب سيصدر قريباً .

تعليق واحد

  1. يجب ان تنشر هكذا دراسات على نطاق واسع و على كافة المستويات الفكرية بحث اكثر من رائع و متكامل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق