“تنويه: بالأصل، هذا النصّ هو محاضرة ألقيت في كنيسة القديس كيرلس، دمشق 29 آذار 2001، ونُشرت في جريدة السفير اللبنانيّة، ونعيد نشرها الآن بمناسبة الأوضاع المستجدة في سوريا، وخصوصاً الشام”
هذا النصّ: تحية إلى خليل سلّوم الطفل الابن، الذي ربما سيعرف كيف يدافع عن «مهده» سوريا أفضل مما نفعل نحن.
مستقبل المسيحيّة في سوريا
وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب. فذاع خبره في جميع سورية. «متى 4/23 ـ 24»
يقوم البابا يوحنا بولس الثاني بزيارة سوريا في أيار القادم «2001». متوافقاً مع إرادة الرئيس بشار الأسد على أن يكون عنوان هذه الزيارة: «سورية مهد المسيحيّة»، ومن المؤكّد أنَّ هذا العنوان لا يحيل إلى عالم الآثار، كما أن البابا ليس عالماً آثارياً مدفوعاً في زيارته هذه نحو أوابد متقادمة زمنياً وحجارة مبعثرة طوت ملامح عمارتها وشخصياتها أكوام التراب. فالمهد هنا وإن كان يشير بوضوح إلى الأصل، إلّا أنّه لا يحيل، بأي معنى، إلى الأصل الذي كان ولم يعد قائماً، بل إلى المهد الذي ولدت فيه المسيحيّة واكتملت أوصافها كرسالة وتجذّرت كحقيقة قادرة على إشاعة قيمها وأخلاقها التي هي عقيدتها الكبرى والتي وضعت الوجود الإنساني على أساس جديد مازال يحمل هياكل الإنجازات الحضاريّة الكبرى، وإنْ تعرّض في لحظات جهل إلى محاولات نسفٍ وتدمير ليس من قبل أعداء أو بيئات مختلفة وحسب، بل ومن قبل من يُفترض أنّهم حرّاسه وأصحابه وأدعياؤه. على أنَّ عنوان الزيارة هذا، يعيدنا مرة جديدة، إلى استذكار تلك المحاولة التضليلية المتواصلة التي وضعت المسيح على المسار اليهودي تنسيباً ونشأة وبيئة، وبدرجة أكثر خطورة قيماً وأخلاقاً. فوقعت المسيحيّة الغربيّة أسيرة الرواية اليهوديّة التي ما تزال تنتج «مسيحياً» متوافقاً مع أهدافها وغاياتها. وإذا كان من السهولة، راهناً، ترويج فصول هذه الرواية في أكثر من مجتمع غربي، لأسباب كثيرة، إلّا أنَّ سكان «المهد» الذين بنوا حجارته واحدة واحدة، وصاغوا عمارته على مرِّ التاريخ من نصيبين وماردين والرها وأنطاكية إلى حمص وحماة ودمشق وبصرى، ومن شمال العراق إلى بيت لحم والقدس والناصرة والجليل وصور وصيدا… مازالوا، بوجودهم ومعناه، العلامة الفصيحة على زيف الرواية وتضليلها، وعدم قدرتها على إعلان سيادتها الغاشمة على وجدان الناس وضمائرهم.
من هنا، يبدو «المهد» في العنوان، كدعوة لائقة لتحرير الثقافة الغربيّة عموماً من فصول الرواية اليهوديّة ومفرداتها، التي كان من أهم نتائجها الرهيبة، راهناً، إحاطة المسيحيّة في سوريا، وبدرجة أخرى في مصر أيضاً، بمناخ جعلها ملتبسة في وجودها التاريخي كما في آفاقها الراهنة والمستقبليّة.
وعلى ذلك، يستمد السؤال المرتبط بمستقبل المسيحية في سوريا مشروعيته، من ذلك الالتباس المُصطنع نفسه الذي يُمعن في تمويه صورة هذا المستقبل نحو القتامة والظلامة، فيضع المسيحيين في خيار الإفناء الذاتي لوجودهم التاريخي، إما بمحاولة عزلهم وانعزالهم، أو بالهجرة النهائية لهم بعيداً وإلى الخارج. وفي الحالتين تبدو المسيحيّة السوريّة، ها هنا، وكأنها تنقلب ضد ذاتها ووجودها.
منذ أكثر من سنتين، زار دمشق رئيس أساقفة كانتربيري جورج مايكل كابري، وسار في الشارع المستقيم الذي فيه «مهد» بولس الرسول، من كنيسة القديس حنانيا حيث اهتدى شاول الوثني إلى باب كيسان الذي من إحدى نوافذه انطلق بولس مبشّراً الأمم برئاسة المسيح. فاعتبر رئيس الأساقفة أنه بوجوده في هذه الأمكنة المقدسة، نال امتيازاً كبيراً. ولكنه والتزاماً بالمنهج الكلاسيكي العام للثقافة الغربية، لم ينسَ تذكيرنا بالأصول التي يجب أن يقوم عليها التبشير المسيحي، مستنداً في ذلك إلى تجارب تلامذته المبشرين في أصقاع إفريقيا، معززاً دعوته بحجة أن «وضع الكنائس هنا مختلف كل الاختلاف ع وضع الكنائس الأخرى، ورغماً عن أن هذه الكنائس أقدم مما هي عليه في إنكلترا، فهي لازالت تشكل أقلية تواجهها التحديات في إعلان إيمانها في بيئة ثقافية مختلفة»؟! [من محاضرة ألقاها في كنيسة الصليب المقدس بتاريخ 28 كانون الثاني 1999 بعنوان الرسالة المسيحية في عالم متبدل].
يضع الأسقف كايري، وفق منهجه هذا، المسيحيين أمام خيار الإفناء الذاتي، باعتبارهم أقليّة قابلة لتصبح أكثريّة إما بالتبشير، وإما بالالتحاق بمجتمع غربي أكثريته المسيحيّة ساحقة. ها هنا يُفترض الانتباه إلى التغافل المقصود للوجود المسيحي في سوريا ومعناه، كما يفترض الاحتراس من الإغراء الذي يضمره الأسقف في دعوته المرتكزة إلى المنهج التبشيري الكلاسيكي الذي يعتبر من كان غير مسيحي، وربما من كان من غير طائفة ما، وثنيّاً بحاجة للهداية. والمفارقة الساذجة هنا أن الأسقف كايري، في ذلك كله يشابه الوجود السوري التاريخي بالحالة الإفريقية البسيطة المعاني.
لا، لا تقف المسيحيّة في سوريا عند عتبة الدور التبشيري لها، كما أن الوجود المسيحي فيها يتجاوز تصنيفه كأقليّة، أو كمعنى رقمي وفرز عددي لبنيته. ليطاول كون المسيحيين ضرورة وجودية، كما كانوا دائماً منذ أن بدأوا صياغة مهد المسيحية في بلادهم، واستمروا بين ضلوعه شرايين حياة نابضة مدافعين عنه، ليس بإعلاء أسوار الانغلاق التي من شأنها قتل روحه، بل بفتح بوابات التفاعل مع أبناء أمتهم على مصاريعها وفي ذلك سجلوا ظاهرتهم الخاصة التي لم تستطع الثقافة الغربية الكلاسيكية فهمها أو مقاربة روحها. وعلى مدى ألفي عام مضت احتفظت المسيحيّة في سوريا بوجودها كضرورة لذاتها ولغيرها، وتبدو هذه الضرورة، راهناً، وأكثر من أي وقت مضى مرادفة لمستقبلها.
المسيحية ضرورة لذاتها
تبدو المسيحيّة في سوريا ضرورة لذاتها، بكونها امتيازاً لتاريخها وتأكيداً على شرعية مستقبلها. وعلى ذلك فإن مسؤولية استمرار مهد المسيحية حياً نابضاً، إنما تقع على عاتق المسيحيين السوريين أنفسهم بالدرجة الأولى، ذلك لأن إغراء الالتحاق بالمراكز الحضارية العالمية الموسومة بالثقافة المسيحيّة «أوروبا الغربيّة ـ أميركا الشمالية» جعل من المسيحيين السوريين في أغلبهم، في حالة شديدة القلق ومليئة بالشكوك حول وجودهم التاريخي وجدوى استمراره، ومن شأن هذا الإغراء إذا ما استمر مقيماً في خيال الناس اختطافهم من «المهد» على النحو الذي يحيله إلى حقل آثاري ميت. وإذا ما تم ذلك، وأرجو ألّا يتم، فإنَّ المسيحية برمتها تبدو دون أصل حي وقائم، وبتسارع محتوم، حينذاك، سيتآكل المسار التاريخي للمسيحيّة التي لن يبقى منها غير اسمها، الذي لن يعدو كونه وشماً مجرداً يميز جماعة ما أفرزت نفسها في جغرافيا معينة.
ثمة هجرة كبيرة ومتعاظمة ومنظمة للمسيحيين السوريين، من شأنها إذا ما استمرت بهذا التسارع، إحالة «مهد» المسيحية من كونه وجوداً قائماً متنامياً، إلى كونه وجوداً منتهياً صالحاً فقط لأعمال التنقيب الآثاري، التي لا تستطيع في حالاتها كلها من إعادة ضخ الروح في أركان هذا «المهد»، بل من المؤكد أنَّ البعثات الأثرية ستعمد، كما فعلت دائماً، إلى اقتسام أركان هذا «المهد» وتحنيطها في متاحف العالم.
إنَّ تاريخاً سيوزع كغنيمة على المتاحف، هو تاريخ داشر تركه أهلوه تحت وطأة إغراء الهجرة، فذهبوا ليربحوا أنفسهم في المكان ذاته الذي سلبهم إياه فخسروها مرتين.. وربما سيفقدونها إلى الأبد.
إنَّ الشارع المستقيم الذي تباهى بالسير على أرصفته الأسقف جورج مايكل كايري، ليس شارعاً أثرياً، ولا هو مكان ملغّز يحتاج لكاشف أسرار وقارئ كف… بل هو شارع مقدّس فصيح وواضح بأمكنة العبادة التي تضج بابتهالات المؤمنين وتسابيحهم، وتشهد على تمسكهم بوجودهم كضرورة تتجاوز ذاتهم، لتصبح المعنى الوحيد ا لذي يكسب المسار المسيحي شرعية تاريخية. وإلّا فإنَّ المسيحيّة، راهناً، ستكون يتيمة بعد انتهاء وجودها في أمكنتها الأولى، التي شهدت الشهقات الإلهية التأسيسية لرسلها الذين تلمذوا الأمم على اسم المسيح.
المسيحيّة السوريّة بكونها ضرورة للمسيحيّة الكليّة، هي حياة لوجود قائم ومستمر، وليست مكاناً لهواة الآثار ومحترفي البحث عن اللقى والغنائم.. كما أنَّها بكل تأكيد ليست مكاناً مناسباً، بأي معنى، لصائدي الأوثان!
المسيحية ضرورة إسلاميّة
منذ القرن السابع، ومع وصول العرب المسلمين إلى سوريا، وجد الإسلام نفسه متآلفاً مع المسيحية، فلم يستهدف القضاء عليها ولا الحد من حركتها. بل إنَّ المسيحيين السوريين شكلوا البنية العملانية للدولة الأمويّة التي أسست الخريطة الإسلامية في العالم فبدت المسيحية كضرورة لهذه الخريطة في نشوئها واستمرارها، كما في فضائها الثقافي، وإنْ تعرّضت في المسار التاريخي لها إلى اعتبارها «إشكاليّة» وذلك ابتداء من القرن التاسع مع تمرّس العنصر التركي بأركان الدولة أيام المعتصم «833 ـ 842» ومن ثم سيطرة بني بويه عليها «932 ـ 1062» وصولاً إلى السلاجقة «1077 ـ 1307»، الذين ترافقت حقبتهم مع الحروب الأوروبيّة المسماة شيوعاً الحروب الصليبية. على أنَّ هذه الإشكالية المستمرة منذ أكثر من ألف عام لم تدفع الإسلام، على نحو خاص، تجاه إنهائها بالعمل على إقصاء المسيحيين، بالشكل الذي يجعل من المسيحية في سوريا أثراً لوجود كان، بل مازالت الحلول الإسلامية لهذه الإشكالية، حتى المغالية منها، تحت العتبة التي تنظر إلى المسيحيين كوجود ينبغي التآلف معه، باعتباره لا يحمل في ذاته أية عوامل مضادة للإسلام في وجوده وعقيدته عملاً بالآية القرآنية «ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا، الذين قالوا إنّا نصارى» وكذلك الآية ««وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق» [المائدة].
على أن المسيحيّة في سوريا راهناً، فضلاً عن كونها ليست «إشكالية» بالنسبة للإسلام، تبدو كضرورة وجوديّة له، مما يحيل مسألة مستقبلها إلى الحقل الذي يجد فيه الإسلام مستقبله، فيبدو، بهذا المعنى، المستقبل مسؤولية إسلامية.
من هنا، يكتسب كلام محمد حسنين هيكل مشروعية واضحة، في انتباهه إلى طبيعة الخطر الناتج عن هجرة المسيحيين السوريين قائلاً: «وأشعر ـ ولابد أن غيري يشعرون كذلك ـ أن المشهد العربي كله سوف يختلف إنسانياً وحضارياً وسوف يصبح على وجه التأكيد أكثر فقراً وأقل ثراء لو أن ما يجري الآن من هجرة مسيحيي المشرق تُرك أمره للتجاهل أو التغافل ـ أو للمخاوف حتى وإن لم يكن لها أساس». وينتهي هيكل في تحديده لطبيعة هذا الخطر المحدق بالإسلام متسائلاً: «أي خسارة لو أحس مسيحيو المشرق ـ بحق أو بغير حق ـ أنه لا مستقبل لهم أو لأولادهم فيه، ثم بقي الإسلام وحيداً في المشرق لا يؤنس وحدته غير وجود اليهوديّة الصهيونيّة ـ بالتحديد ـ أمامه في إسرائيل؟!» [عن المسلمين والأقباط في مصر ـ وجهات نظر ـ العدد 14 السنة 2 ـ مارس 2000 ص14].
على أنَّ هذا الخطر المحدق بالإسلام، على جسامته، يتجاوز ـ برأينا ـ وقوفه عند الحد الذي يجعل من الإسلام وحيداً في مواجهة اليهوديّة الصهيونيّة في فلسطين، ليطاول المعنى الحقيقي لوجود الإسلام في واقعه ورسالته في آن. ففضلاً عن كون المسيحيّة السوريّة تجنّب الإسلام الوقوع في «وحدة» تصعّب مهماته المباشرة، فإن انتفاءها يؤدي على نحو حاسم إلى فرزه وعزله، لأول مرة، بالشكل الذي يسلب منه البرهان التاريخي الساطع على إمكانية وجوده مع غيره في بوتقة واحدة، حيث شكّلت سوريا على مرّ التاريخ المثال الأكثر حيوية ووضوحاً على قدرة الإسلام على تقبّل «غيره»، والتفاعل معه، وفيما إذا سار هذا المثال نحو نهايته، فإن الإسلام سيخسر برهانه التاريخي ـ الوحيد ـ الذي من خلاله يستطيع التدليل على أن وجوده ليس شرطاً لانتفاء «الوجود الآخري». وفيما عدا ذلك يحيل الإسلام نفسه إلى الشروط التي تحقق المواجهة التي صاغ مستقبلها ووضع حتمياتها، الأميركي صموئيل هينثغتون الموسومة بـ«صدام الحضارات». إذ ذاك يتجه الإسلام ليشكل الحقل المعزول الخاضع لحتمية هذه المواجهة، بالعمل على تحقيق أو مؤازرة الشروط المفضية إلى إنجازها.
بالمقابل يبدو إخفاق هذه النظرية وإبطال شروطها، مستمداً على نحو يكاد يكون حصرياً من المثال التاريخي السوري، كما تبدو مسؤولية استمرار هذا المثال حياً، وبهذا المعنى، مسؤولية إسلامية.
غير أن هذه المسؤولية الراهنة والملحّة، يجب أن تدفع الإسلام بعيداً عن الاستسلام لإغراء استمرار المثال التاريخي السوري بذاته، نحو مواجهة خاصة مع العوامل التي تحاول أن تسلبه هذا المثال وتبطل مستقبله، فإيقاف سيل «الهجرة المسيحية» المرعب عند الحد الذي لا يؤثر على المثال التاريخي فلا يدمر بنيته ومعناه، يفترض تجاوز المعنى الذي يعتبر المسيحيين «أهل ذمة» وصلوا إلى درجة (الجوالي) أيام المماليك، و(ملل) أيام العثمانيين، وهم اليوم (طوائف). بما يفرز لهم دائماً حقوقاً خاصة منقوصة ومختلفة في آن. وبالمقابل يفترض الاتجاه لإلغاء هذه الخصوصية نحو اعتبار الجميع تحت سقف الحق العام، فتنتفي إشكالية اعتبار المسيحيين لأنفسهم «مواطنين من الدرجة الثانية» الذي يجعلهم تحت وطأة تغيير درجتهم عن طريق الإغراءات المبسوطة أمامهم من الخارج.
إن المثال التاريخي السوري، يجعل من الوجود المسيحي، راهناً، ذا وظيفة دفاعية استثنائية عن الإسلام، الأمر الذي يفترض على نحو مباشر العمل على تمكين هذا الوجود من إنجاز مهمته الكبرى، بإبطال أي معنى يعتبره وجوداً أقليّاً طوائفياً ومن «درجة ثانية». ويمكن ذلك كله في إعادة النظر في المنهج الثقافي العام كما في المنهج التشريعي الذي يحدد كيفيات الوجود الاجتماعي وآليات فعله.
المسيحيّة ضرورة سوريّة
إذا كان المسار التاريخي للمسيحيّة يبتدئ على نحو حصري من مهده السوري الذي لا يزال نابضاً بالحياة، بما يجعله المسار الإلهي الأعمر، فإنَّ سوريا ذاتها تكتسب من هذا المهد معنى مميزاً اكتملت أوصافه في سيرورة تاريخية، عملت على إنتاج هذا المعنى دائماً على نحو جعل من سوريا مكاناً مقدساً مشبعاً بالنزوع نحو العالم: رسالة انفتاح عظمى وأسس أخلاق جديدة. استكمالاً لإرثها الخاص الذي أنتج أول ثورة ثقافية كونية بإبداع الأبجدية وتعميمها في العالم.
ومن الثابت أنَّ المسيحيّة المؤسسة في مهدها خاضت صراعها الأول المرير ضد سقف الشريعة اليهوهية الوطيء في سبيل تحرير الإنسان، وفي الوقت الذي استطاعت فيه وضع حدٍّ لهذه الشريعة القاتلة فحاصرتها في «ديموغرافيا» محدودة، ما فتئت منغلقة على ذاتها على مدى التاريخ، فإن هذه «الديموغرافيا» عادت بعد أن جددت نفسها زاحفة رابضة فوق مهد المسيح في محاولة لاكتساحه على النحو الذي يمكّن الشريعة الجامدة من تأكيد سيادتها ورد اعتبارها. وفي سبيل ذلك نجحت اليهوديّة، في كثير من الأوقات، في اختطاف المسيح إلى فضاء روايتها الخرافية، فضللت العقل الغربي عموماً وجعلته قابلاً لمؤازرتها فيما تهدف إليه. على أنَّ اليهوديّة الراهنة تخوض معركته الفاصلة في أحد أركان المهد المسيحي السوري، وهو أمر يفرض على سورية التمتع بجهوزية حضارية تمكنها من مواصلة هذه المعركة على النحو الذي يخلص المهد من بلواه، ويصونه من أعمال التدمير المنهجي اليهودي.
تشكل اليهوديّة الصهيونيّة الراهنة، بوجودها، في جنوب سوريا، الخطر الأكبر على سورية: مصيراً وجودياً ومعنى تاريخياً مستمراً. فهي تعمل على تحويل المصير السوري إلى حالة وجودية هزيلة تابعة لمقتضيات برنامجها، كما تعمل في آن على نسف معنى هذا الوجود بكونه يشكل حالة حضارية ممتدة في التاريخ وقابلة للامتداد في المستقبل.
من هنا يرتبط مصير الوجود السوري بمعناه التاريخي، ومن هنا لا تستطيع سوريا خوض معركتها الفاصلة ضد اليهوديّة الصهيونيّة دون أن يكون معناها حاضراً في هذه المواجهة. وعلى نحو واضح، تشكل المسيحيّة أحد الأطياف الكبرى للوجود السوري منذ ألفي عام، ومن المؤكد أن غياب هذا الطيف سيعكس نفسه في الوجود السوري ضعفاً وفقراً وانخفاضاً كبيراً في جهوزيته وأدائه.
لذلك، تبدو المسيحيّة ضرورة سوريّة حاسمة. على أنَّ ذلك لا يعني، بوجه من الوجوه، أنَّ المواجهة السورية للمشروع الإسرائيلي دينيّة: محمديّة أو مسيحيّة أو الاثنتان سوية مقابل اليهوديّة. فذلك ابتعاد عن المعنى واجتزاء له. بل إنَّ هذه المواجهة قوميّة عامة تفترض جهوزيّة عالية المستوى لا يمكن تحقيقها إلّا باستحضار طيوف المعنى الوجودي السوري كلها. ودون المسيحية، كما المحمدية، تفقد سورية أحد طيوف معناها الكبرى، كما تفقد جهوزيتها العديد من الأوصاف المؤهلة لها للمواجهة.
إنَّ سوريا، تاريخيّاً، كانت مكان التلاقح العظيم للرسالات، وفيها اكتملت هذه الرسالات واتجهت صوب العالم محررة العقل الإنساني من قيوده واختناقاته، كاشفة أمامه مساحات إبداع قصوى… وبالرغم من أن سوريا مرت بأحقاب مظلمة شهدت محاولات متكررة لتدمير قدرتها على مواصلة مسيرتها كمكان تفاعلي مفتوح ونقيض لمشاريع الانغلاق، فإنها ما لبثت متشبثة بمعناها على نحو إعجازي. وفي ذلك سر سوريا وقوتها الاستثنائية.
إنَّ مستقبل المسيحيّة في سوريا مودع بوضوح في مستقبل سوريا: وجوداً ومعنى. ولا يمكن بأية حالة فك هذه العلاقة، لأنها تعني فك أواصر الحياة في الطريق إلى تدميرها. وكما أن المسيحيين السوريين مطالبون بفهم عميق لدورهم ووجودهم تاريخاً ومستقبلاً، بما يضع حداً لتغريبهم عن مهد المسيحية، فإنه أيضاً يقع على عاتق (غيرهم) إبطال الأسباب التي تجعل من هذه المحاولات تحقق نجاحات لها ولو كانت جزئية ومؤقتة.
وإذا كانت جملة من هذه الأسباب تنضوي تحت عنوان الوضع الاقتصادي وأحواله، إلا أن السبب الرئيس ـ برأينا ـ يبدو في اعتبار وجودهم ـ صراحة أو تلميحاً ـ «طوائف» أو «أقلية» في حمى ورعاية الأكثرية.
ويبدو الطريق المختصر لإزالة هذا السبب واضحاً في اعتماد التشريع المدني لا الديني، الذي ينظر إلى الدين كمعطى روحي أخلاقي رسولي ممتد في تاريخ سورية ومستقبلها، ولكنه لا يعمل على مصادرة هذا المستقبل باستلهامات واقتباسات ماضوية قضت مع أسبابها.
لابد من الاتجاه على نحو مباشر نحو فصل الدين عن الدولة عندها تكون الدولة مستقبلاً جامعاً موحداً لأبنائها، كما ينأى الدين بنفسه عن لوثات الدنيا.
تلكم مسألة مصيرية بامتياز.
كلمة جميلة وقيمة. احييك.