من قبل أن يبدأ التاريخ الواضح و الجلي – ومع وضع نظرية الهجرات السامية في الإطار الافتراضي نظراً للعيوب المنهجية وتلك العائدة لعلم الآثار التي شابتها – وسوريا تستقبل الهجرات السكانية الواحدة تلو الأخرى، من اليمن و شبه الجزيرة العربية وعبر بلاد فارس وهضبة الأناضول، كذلك ممن أطلقت عليهم اللغة الآرامية اسم شعوب البحر، ومنهم المهاجرين ( البلست ) الذين ترى الفرضية التاريخية أنهم هاجروا إلينا من جزيرة كريت اليونانية قرابة القرن الثاني عشر قبل الميلاد، هذه الهجرات كانت سرعان ما تلتهمها دورة الحياة السورية فتذوب في المزيج السلالي و تزيد من عدد السوريين، و تتعلم منهم و تنهل من ثقافتهم و حضارتهم، وتضيف إليهم مما عندها.
سكن البلست أو الفلست في المنطقة الواقعة من جنوب يافا حتى غزة، وسرعان ما أخذوا الآرامية لغة لهم و( الديانة الإيلية ) السورية معتقداً روحياً وانخرطوا في دورة الحياة، و اشتبكوا مع القبائل الرعوية العبرانية الطارئة والرافضة للانصهار والتفاعل في الدورة الاجتماعية السورية، حيث أخذت المناطق التي حلوا بها اسمهم فعرفت على أنها ارض البلست والتي أصبحت تعرف لاحقاً باسم فلسطين .
في المسار التاريخي الذي تعاقبت فيه الدول السورية مع الامبراطوريات التي احتلتها وألحقتها بها، انتظمت كامل الأراضي السورية ضمن ولايات أو ايالات وأحيانا إقطاعيات، إلى أن جاء الإسلام فأقام في مطلع تواجده نظام الأجناد، وهو مزيج من الإدارة العسكرية والمدنية، وبموجبه تم تقسيم الجنوب السوري إلى وحدتين شمالية وجنوبية و بشكل عرضي، في الشمال جند الأردن وهو الممتد من بحيرة طبريا حتى البحر الميت (تقريبا)، ومن البحر الأبيض المتوسط غرباً حتى الصحراء شرقاً، يعبره نهر الأردن، وفي الجنوب جند فلسطين الممتد جنوباً حتى السويس ومن البحر الأبيض المتوسط غرباً حتى الصحراء شرقاً. يقول المؤرخ الطبري في تاريخه: إن الكرك أطيب ارض في فلسطين . في التاريخ الأقرب كانت فلسطين الحالية جزءاً من ولاية عثمانية تتبع ولاية عكا حيناً وولايات صيدا ودمشق وبيروت في أحيان أخرى، فيما منحت الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر خصوصية لجبل لبنان والقدس التي أصبحت سنجقاً خاصاً يتبع السلطان العثماني مباشرة دون أن يكون لأي والي من الولاة أية سلطة عليه.
فلسطين الحالية هي الجنوب السوري وهي جزء لا يتجزأ من الوطن السوري، لم تكن عبر التاريخ وطناً مستقلاً خارجاً عن إطار الوطن الأم و ذلك حتى عام 1916، عند توقيع الاتفاقية الأنجلو- فرنسية المشؤومة والمعروفة باسم اتفاق سايكس – بيكو، والتي سرعان ما تم استكمالها بالعام التالي بوعد بلفور الذي ( نظر بعين العطف لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ) !!. هكذا تجب رؤية فلسطين على أنها ليست إلا كياناً مصطنعاً و هوية منقوصة، أراد لها الاتفاق الانجلو-فرنسي أن تصبح أوطاناً انتدابية رسمت حدودها جهات معادية، و بقلم رصاص، كما يقول كاتب سيرة السير مارك سايكس . وللتأكيد فان فلسطين التاريخية كانت مكان سكن البلست الأوائل أما فلسطين التي نعرفها اليوم بخرائطها فهي فلسطين الانتدابية فلسطين السايكس – بيكوية.
في عام 1964 تم إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، بقرار من القمة العربية المنعقدة آنذاك في القاهرة وبدعوة من الرئيس جمال عبد الناصر. كان من بين الأهداف وراء تأسيسها إظهار الشخصية الفلسطينية في خدمة الناصرية وفي مناكفة خصومها وخصوصاً الأردن والسعودية في حينه، ولو أدى ذلك إلى استقلالها وانفصالها عن الشخصية ( الهوية ) القومية الجامعه، و حملت منظمة التحرير مهمة تحرير ما تم احتلاله عام 1948. قاد التطور الطبيعي لأداء القيادة الفلسطينية المتنفذة والتي هي جزء لا يتجزأ من النظام العربي البائس، إلى توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، لتصبح الشخصية الفلسطينية في مواجهه مع الشخصية القومية وعلى حساب من وقعت معهم القيادة الفلسطينية الاتفاقيات و الملاحق و ما بها من التزامات أمنية و سياسية و معرفية، وصلت إلى ان تقر السلطة – بناء على الاتفاقيات – مناهج تربوية منسجمة مع المشروع المعادي والذي يطالب القيادة الآن بنفي الرواية التاريخية و القبول بالرواية التوراتية.
يرى اليمين الحاكم في ( إسرائيل) أن وعد بلفور 1917 قد ارفقت به خارطة تحدد حدود فلسطين – الوطن القومي اليهودي – وإن حدها الشمالي كان يصل إلى منابع الليطاني والجنوبي يصل إلى مدينه العقبة ( ايلات )، فيما حدها الغربي البحر الأبيض المتوسط، أما الحد الشرقي فيصل إلى الانبار العراقية، فيما حدد صك الانتداب الصادر عن عصبة الأمم عام 1919 فلسطين بأنها من رأس الناقورة حتى العقبة ومن الحدود الأردنية –العراقية شرقا حتى البحر الأبيض المتوسط غربا، وقد عين مندوباً سامياً انجليزياً لتلك البقعة الجغرافية والتي كان لها عملة نقدية و طوابع بريد وغير ذلك من مظاهر مشتركة، وهذا هو المنطق الذي أسس له و جادل به الأب الروحي للصهيونية التنقيحية فلاديمير جابوتنسكي منذ عام 1921 . ويعتمده بن يامين نتنياهو في سياساته اليوم، بأن فلسطين هذه تشمل الأردن الحالي والذي من الممكن أن يكون دولة فلسطينية، فيما يبقى غرب نهر الأردن دولة يهودية خالصة.
هذه هي الرؤية ( الإسرائيلية ) للدولة الفلسطينية، التي يمكن أن تقوم خارج فلسطين المعروفة – أو كما يحب البعض أن يطلق عليها اسم فلسطين التاريخية – وما مشروع ضم الأغوار وشمال البحر الميت كما المستوطنات وبرية الخليل المطروح تنفيذه بالجملة أو بالتقسيط في الأيام القادمة، إلاّ مقدمة لضم كامل الضفة الغربية طالما استمرت حالة الضعف والهوان التي نحن عليها.