يتم التداول بمصطلح الميليشيا، عشوائياً، إلى الوقت الذي أصبح هذا الاسم يثير حساسيّة خاصة لدى بعض الفصائل العسكرية العاملة وفق نظام الميليشيا، الذين يظنون أنها تعني (عصابة)!
أستعيد هنا، فقرة من مقالة كنت قد كتبتها سابقاً وتتعلق بالجيش السويسري القائم على أسس التنظيم المليشياوي كما يقول دستورهم، مع بعض الإضافات الجديدة.
تقول المادة 58 من الدستور السويسري النافذ: “الجيـــش: لسويسرا جيش، وهذا الجيش منظم طبقاً لنظام الميليشيا”. * يمكن التذكير هنا بما يتفوه به بعض السياسيين العراقيين الجهلة والذين يعتبرون كلمة “ميليشيا” سُبة وشتيمة مقذعة بحقهم وبحق مليشياتهم، وها هو الدستور السويسري يعلن دون وجل، وبما يقرب من الفخر، أن جيش دولته الاتحادية التي عمرها سبعة قرون والتي يعتبر دخل الفرد فيها من الأوائل عالمياً، هو جيش قائم على أساس نظام الميليشيا، أي إنه من حيث الجوهر ميليشيا. وبموجب هذا النظام يتدرب المواطن السويسري متى بلغ الثامنة عشرة من العمر لبضعة أشهر، ويختار نوع السلاح الذي يفضله ثم يستلم بندقيته الشخصية وعتاده وملابسة العسكرية ليحتفظ بها في بيته، ويُستدعى مرة في كل سنة لأداء الخدمة العسكرية لثلاثة أسابيع وحين يبلغ الخمسين من العمر يعتبر قد انتهى من أداء خدمة العلم.
كما نفهم من مادة أخرى هي “60”، أن هناك جيشاً وطنياً رسمياً اتحادياً قائماً على أساس التنظيم المليشياوي، ويكون تنظيمه وتدريبه وتسليحه أمر خاص بيد السلطات الاتحادية، هذا ما تؤكده الفقرة الأولى من المادة، ولكن الفقرة الثانية تسمح للمقاطعات أو المحافظات بتشكيل وحدات عسكرية قائمة على أساس الجيش المليشياوي أيضاً، ولها الحق في تعيين وترقية الضباط. وهكذا يكون لدينا الجيش الاتحادي من جهة والوحدات المحلية إلى جانبه من جهة أخرى.
يبلغ عدد أفراد الجيش السويسري 147,075 جندياً حسب إحصائيات عام 2013م، ويبلغ عدد جنود الاحتياط 31,169 جندياً، أما عدد سكان سويسرا فيزيد قليلاً على ثمانية ملايين نسمة فقط.
كلمة “مليشيا” إذن ليست شتيمة ولا هي سُبة إلاّ عند من يجهل معناها، بل هي مصطلح سياسي عسكري ليس له مقابل في اللغة العربية ويعني كما تقول
الموسوعة الحرة باللغة الفرنسية/ ترجمة شخصية:
1-“قوة عسكرية يتم تشكيلها من السكان المدنيين في حالات الطوارئ”، أو هي “جماعة مدنية مسلحة منظمة”. وتترجم كلمة (militia) بلفظها الأجنبي إلى (الميليشيا، أو التنظيم المسلح، أو الجماعة المسلحة، وتعني قوة عسكرية تشكلها عادة قوات غير نظامية من مواطنين، يعملون عادة بأسلوب حرب العصابات، بعكس مقاتلي الجيوش النظامية والجنود المحترفين).
2-“في الولايات المتحدة، تعني كلمة مليشيا جميع المدنيين الأصحاء المؤهلين بموجب القانون لأداء الخدمة العسكرية”.
3-وكانت كلمة مليشيا في الاتحاد السوفيتي والصين والدول الاشتراكية الأخرى تعني: “المنظمة المسؤولة عن الحفاظ على النظام العام، أي ما يعادل الشرطة”. وأطلقت على قوات الأنصار السوفيتية التي قاتلت خلف خطوط العدو النازي خلال الحرب العالمية الثانية.
في العراق هناك حساسية خاصة ذات محتوى عاطفي وأيديولوجي وحتى طائفي من هذه الكلمة، وخصوصاً لدى الساسة الكرد الذين يرفضون تسمية البيشمركة التابعة لهم بالمليشيا، وأيضاً لدى الحزبيين في الأحزاب والمليشيات الشيعية، لسبب سنذكره بعد قليل، ولكن المصطلحات السياسية لا تغير أو تستبدل لأن البعض لديه حساسية عاطفية منها ويجهل معناها. وحين يقفز البعض على كلمة مليشيا ويستبدلها باسم فصائل أو بيشمركة فهذا مجرد التفاف اصطلاحي خاطئ؛ فالفصائل جمع فصيل، وهو مكون عسكري في الجيوش النظامية شأنه شأن الكتيبة والسرية…إلخ، أما البيشمركة فهو اسم محلي باللغة الكردية والفارسية يعني تقريباً في اللغة العربية “الفدائيين”، وتعني حرفياً: المُقْدِم على الموت أو أمام الموت، وعليه، يمكن أن نقول مليشيا البيشمركة أو مليشيا بدر أو مليشيا العصائب أو مليشيا سرايا السلام…إلخ، دون أن يقلل ذلك من قيمتها أو يعتبر هجاء لها أو انتقاصاً منها.
أعتقد أن الحساسية العاطفية، وهي بالتالي ذات جذور وبواعث طائفية أو عرقية، من هذه الكلمة ولدت خلال سنوات الاقتتال الطائفي في العراق بعد سنة 2006، وتركت أثارها على الوضع وحتى على اللغة السياسية في العراق؛ فأنصار الأحزاب والمليشيات الشيعية دأبوا على أن يسموا خصومهم في المليشيات السُّنية “الجماعات المسلحة”، واعتاد أنصار الأحزاب والمليشيات السُّنية على أن يطلقوا على المليشيات الشيعية “المليشيات”! أما مليشيات البيشمركة فلا يريد أصحابها أن يقال عنها مليشيات لأنهم يعتقدون أن المليشيات أقل رسمية وربما غير رسمية أو تنتقص من طابعها “القومي”، وهذه كلها أوهام وحساسيات محلية لا تغير شيئاً من اللغة والمصطلحات السياسية ولا يصح الخضوع لهذا الابتزاز المليشياوي بفرض أو رفض اصطلاحات سياسية وعسكرية على الناس وخاصة الكتاب والباحثين منهم.
—————————————————
*رابط يحيل إلى النص الكامل للمقالة التي تطرقت فيها الى الدستور السويسري الذي يشير إلى أن جيش هذه الدولة العريقة يقوم على نظام الميليشيا.