العالم الآن

أوروبا واحدة أم أوروبات متعددة…؟

يوليسيس ورحلة التيه

[لا أعتقد أن عضوية الاتحاد الأوروبي تمنعنا من بناء دولة ليبرالية مؤسسة على ثقافتنا القومية – فيكتور أوربان: رئيس وزراء المجر]

[كل شخص يؤمن الآن أن الاتحاد الأوروبي هو كارثة، لم يستطع التصدي إلى أي من وعوده، النمو والأمن والأسوأ من هذا أنه وضعنا تحت الحراسة والمراقبة.

بريكسيت كسر المحرم. الانكليز أرونا أننا نستطيع أن نغادر هذا الاتحاد ونصبح أحسن حالا ً- ماري لوبان: رئيسة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي]

كان حلماً راود المستشار الألماني الأول بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وكارثتها كونراد أديناور والأباء المؤسسون (جوزيف تك من اللوكسمبورغ، جون بيين وسيكو مانشولت من هولندا، السيدي دي كاسبيري والتييرو سبينيلي من إيطاليا، جان مونيه وروبرت شومان من فرنسا، كونراد اديناور ووالتر هولستاين من

كونراد أديناور

المانيا وبول هنري سباك من بلجيكا) لما يعرف اليوم بالاتحاد الأوروبي عندما وقعوا تلك الاتفاقية التي سميت بـ (اتفاقية الحديد والصلب) عام 1951 بين الدول السبع التي شكلت النواة الأولى لما يعرف الآن باسم الاتحاد الأوروبي.

الاتحاد الذي ربما كان في أحد أوجهه استجابة لذلك النداء التاريخي لفيكتور هوغو في القرن التاسع عشر الذي حلم بولايات متحدة أوروبية تستقي مبادئها المؤسسة من مبادئ دولة ولدت منذ ما يقرب من قرن مضى اسمها الولايات المتحدة الأميركية.

كان حلماً قديماً ولد من رحم الحاملين المؤسسين للهوية الأوروبية المعاصرة: الفلسفة اليونانية / الرومانية والمسيحية الغربية. ورغم أنه في عمق هذه الهوية تتجذر تلك التناقضات التي عرفتها أوروبا عبر انقسام كنيستها في القرن الخامس للميلاد والتي أنتجت ثقافتين متمايزتين تم إلحاقهما بالكنيسة المسيطرة في مناطق النفوذ الملحقة بكل كنيسة…الأرثوذكسية التي تضم دول البلقان ورومانيا والتي تجلس روسيا في أعلى قمتها كثقافة متمايزة والتي لم تلحق نفسها كدول البلقان الأخرى بالاتحاد الأوروبي، والكنيسة الغربية التي ساهمت إلى جوار الفلسفة اليونانية / الرومانية بصناعة الثقافة والهوية الغربية المعاصرة ،ولم تكن صدفة أبداً أن صمويل هاتنغتون في ترسيمته الشهيرة للثقافات الثمان الكبرى قد مايز بين الثقافة الأرثوذكسية والثقافة الغربية ورسم حدوداً دقيقة ملحقة بحافات الصدام ما بين هاتين الحضارتين أسماها حافات الدم بالرغم من أن كلا من هاتين الحضارتين ولدتا من رحم حضارة واحدة مهّد صراع النفوذ بين أباطرتها إلى انقسامها على نفسها إلى اثنتين. هنا، كان الاتحاد الأوروبي في ضمه لدول البلقان ورومانيا والدول الارثوذكسية الأخرى محاوله للاحتيال على التاريخ عبر إنهاء ذلك الانقسام الثقافي الذي مايز الوجود الاوروبي طيلة الحقب الماضية، إلا أنه لم يستمر في لعبه الخداع إلى آخرها بحفاظه على حافات الصدام أو حافات الدم مع الدولة التي تمثل الارثوذكسية وثقافتها في شكلها الأتم، روسيا.

كانت الوحدة الأوروبية بمعنى ما، محاولة في الصميم لإنهاء صراع تلك الحضارتين، الأوروبية الشرقية الأرثوذكسية والأوروبية الغربية وبناء ما يمكن تخيله بصرح أوروبي واحد يؤمّن التفاعل بين هاتين الثقافتين، لكن هذه المحاولة لم تأخذ بعين الاعتبار أن تلك الثقافتين غير متعادلتين في امتلاك شروط القوة نفسها، إذ أن إحداها تطغى على الأخرى وتهيمن عليها لأنها تتمكن بقوتها المادية والعسكرية وحضورها السياسي من أن تملي على الثقافة الأخرى شروط عيشها عبر التاريخ.

في هذا التاريخ نفسه، ثمة ما يشير إلى حلم دائم ما ببناء أوروبا واحدة. كان ذلك مع شارلمان ودولته أو الامبراطورية الرومانية المقدسة، أو حتى مع الحروب النابوليونية، وهناك من يشير إلى أدولف هتلر وحلمه الأوروبي، إلا أننا نعرف أنه ومن خلال كتابه (كفاحي) لم يلتفت كثيراً إلى البناء الأوروبي، بل كان ما يسعى إليه هو تأمين مجال حيوي في الشرق للأمة الألمانية تتمدد فيه ويضاعف من قوتها.

الآن، هل ثمّة ما يستلفت الانتباه في أوروبا بصدد اتحادها؟

بلى، فثمة ما يشير إلى ظواهر مرافقة لتصاعد حركات اليمين الأوروبي المؤسسة في عمقها على هوية متمايزة عن الأوروبية، هي الهوية القومية العميقة والتي

فيكتور أوربان

تستمد نسغها من ثقافة محلية تاريخيّة ومتعارضة مع الهوية الأوروبية الحداثية التي ترفض كل استدارة ذات عمق قومي. فيكتور اوربان رئيس وزراء المجر وأحد أهم منظري اليمين الأوروبي الرؤيويين، قال إنه يرفض بالعمق ومعه شعبه كل املاءات الاتحاد لأن ما يرتبط بالثقافة والعائلة والدين والهوية المحليين هو شيء أهم بكثير من أوروبا وسياسييها. بولندا وتشيكيا وسلوفاكيا تقف معه على حافة الاتحاد، وبالرغم من التصريحات المتكررة للولاء الأوروبي إلا أن هذه الدول تتطلع إلى صناعة اتحاد خاص بها لأنها تتشارك أكثر في الرؤية المحافظة لهويتها من تلك التي يملكها أقطاب الاتحاد الأوروبي الليبراليون.

في الجنوب، ابتدأ التمايز الثقافي بأخذ حيزه عبر التحديات التي أملاها تدفق المهاجرين في إطار صراع جيوسياسي يطاول النسيج الديمغرافي ويهدده، والتحفز التركي الدائم والاقتصاد المنهار والهجرة العابرة للحدود التي تهدد القوة العاملة المحلية. ابتدأ هذا التمايز بأخذ حيزه برؤية في عمقها استعاده لما شكل قطعاً مع الماضي عبر انقلاب دول البلقان على حيزها الثقافي وإحلال حيز آخر للحلول محله لم يستطع ترميم الجرح الذي سببه انقذاف هذه الدول خارج مدارها. كل هذه الدول تحاول ترميم علاقاتها البينية وعلاقاتها مع روسيا الممثل الأعلى للثقافة الارثوذكسية.

أوروبا المعاصرة قارة جريحة لا تملك القدرة على الاستمرار في ظل اقتصادات وثقافات محلية مسيطرة وأخرى فقيرة ومنهارة. خروج بريطانيا من الاتحاد، في أحد معانيه كان تبشيراً رؤيوياً بالمسارات والمآلات الأخيرة لها لكي تغير توضعها. يجب على أوروبا أن تقسم نفسها إلى وحدات متماثلة اقتصادياً وأكثر انسجاماً في الثقافة، وربما يعود الجذر اللغوي ليلعب دوراً مؤسساً لنشوء أوروبات متعددة صغيرة أقل تناقضاً فيما بينها.

البلقان مثلاً ودوله تشكل وحدة ثقافية اقتصادية سياسية أكثر انسجاماً. دول الجنوب ذات الجذر اللغوي اللاتيني إيطاليا، اسبانيا، البرتغال، فرنسا وربما ايرلندا معها تشكل كتلة منسجمة أكثر ثقافياً واقتصادياً وسياسياً. دول وسط أوروبا تشيكيا وسلوفينيا وبولندا وهنغاريا تشكل كتلة منسجمة. دول المانيا والنمسا واللكسمبرغ وبلجيكا وهولندا والدانمرك، تشكل اتحاداً أكثر انسجاماً ومشتركاً في آن واحد بجذر لغوي ثقافي مؤسس هو الجذر اللغوي الجرماني. في الشمال فنلندا وليتوانيا ولاتفيا واستونيا والسويد والنرويج تشكل أوروبا أخرى منسجمة في عمقها أكثر. بريطانيا هي خارج هذه الحسابات كلها لأنها تنظر إلى نفسها كقارة وترى امتداداتها في الأخوات الخمس كندا، نيو زيلاندا، اوستراليا والولايات المتحدة الأميركية اللواتي يتشاركن جذرها الثقافي الأنكلو سكسوني وهويتها الثقافية، ولا ترى فيهم إلا انعكاساً لهويتها الذاتية في مرآة اسمها: العالم الجديد.

في رحله تيهه…عاد يوليسيس أخيراً إلى إيتاكا مملكته.

حان لأوروبا الخلاص من رحله تيهها… ومن المؤكد أنها تعرف أن أوروبات صغيرة هي أكثر انسجاماً بما لا يقاس، من أوروبا واحدة منقسمة بقوة في كل شبر منها وليس ما يشير إلى وحدتها سوى اليورو…!

حان لأوروبا إنهاء هذا التيه والعودة إلى إيتاكا.

————————————–

هامش: يوليسيس بطل ملحمة هوميروس، الأوديسة. التي تصوّر رحلة عودته إلى مملكته في جزيرة إيتاكا، بعد نهاية الحرب في طروادة.

حيدر كاتبة

كاتب سوري

‫6 تعليقات

  1. شكرا ابو عادل بحث متميز وكما انت وكتاباتك ،
    اعتقد اوربا لن تبلغ الفطام بعد وما زالت قراراتها مرهونة بقرار الإدارة الأمريكية ، بالرغم من سوء اليمين الأوربي لكن أجد أن اليمين قد يقود الدول الاوربية للخروج من العباءة الامريكية إن تسنى له النجاح

    1. شكرا لهذا التنويه ياصديقي ، ارى معك ماتراه ،، اذا صنعت مراجعه لليمين الاوروبي لايمكن الا ان تتفق مع خطوطه او بعضها على الأقل ،راقب اليمين الهنغاري والبولندي لأنه اليمين الأكثر استقلاليه في الحركه في اوروبا ،وهو يمين اصبح ملهما لليمين الاوروبي عبر القيم الذي قدمها وعبر تبريد رأس اليمين الساخن والمتطرف الى حد ما في هولندا والنمسا واعادته الى اعتدال مطلوب في هذا الوقت

  2. رؤية تحليلية عميقة اعتمدت البعد التاريخي والثقافي للشعوب الأوروبية
    مال المقل والواقع هل ينتصر الاقتصاد بمرونته وسيطرته على الثقافة والتاريخ
    هذا ما نراه مستقبلا تبقى حالة المملكة المتحدة وخروجها مثالا يدغدغ أحلام ذوو النزعات القومية المدعومة من تطرف يمينها

    1. هناك مايشي بأمكانيه حدوث هذا ،اي خروج بعض الدول من الاتحاد اذا لم يتم تعديل صيغته الحاليه ،هنغاريا وبولندا مثالا ، لفتره وقفت اليونان على عتبه الانسحاب ،التهديد الالماني منعها ،نتيجه اقتصاد اليونان الهش ،امتنعت عن المجازفه ،حصل نفس الشيء مع البرتغال ،التي رأت القبضه الألمانيه ترتفع في وجهها فتراجعت ،بريطانيا تمتعت بأقتصاد قوي ساعدها واذا اضفت اليه مسانده الأخوات الأربعه لها جعل البريكسيت ممكنا ،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق