في مثل هذه الأيام من عام 1960، نفّذ الجيش التركي انقلاباً عسكرياً ضد رئيس الوزراء عدنان مندريس (سلف آردوغان وأستاذه) وعلّق مشنقته بعد محاكمة طويلة استمرت عاماً كاملاً، فمن هو مندريس، الذي كرّس له آردوغان في ذكرى إعدامه، جزيرة الديمقراطية والحرية، وقال في المؤتمر الرابع لحزبه إنه يمضي على خطاه وخطى تورغوت أوزال (رجل أمريكا الآخر الذي كان يغطي طورانيته العنصرية ضد العرب بالإسلام السياسي).
تخرّج مندريس الذي ينحدر من عائلة إقطاعية، من المعهد الأمريكي في إزمير قبل أن يحصل على شهادة في الحقوق من جامعة أنقرة. انضم إلى حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك، وترشح عنه أكثر من مرة، قبل أن يقود التيار اليميني في الحزب إلى انشقاق باسم (الحزب الديمقراطي). ومن اللافت للانتباه أن هذا الانشقاق ترافق مع تكيف في السياسة التركية وفق النصائح الأمريكية (تعددية حزبية تحت السيطرة)، وعن تشكيل لجنة مهمتها وفق دالاس، (مؤسس المخابرات الأمريكية)، مواجهة موسكو واقترابها من المياه الدافئة في الشرق الأوسط.
وبحسب المؤرخ الأمريكي اليهودي برنار لويس، مهندس الانبعاث العثماني مع بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي، فمن شأن تركيا في ضوء نتائج الحرب العالمية الثانية وصعود الاتحاد السوفييتي وموجة التحرر العربي حول آبار النفط، أن تشكل حجر الزاوية للاستراتيجية الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي يستدعي إطلاق موجات من الإسلام الأمريكي مركزه إسطنبول.
للغاية السابقة برعاية المخابرات الأمريكية والبريطانية تم تجميع تيارات اليمين في حزب الشعب الجمهوري داخل الحزب الديمقراطي برئاسة مندريس ودعمه للفوز بالأكثرية النيابية وتشكيل الحكومات التركية طيلة العقد الأخطر من عقود الحرب البادرة (1950 – 1960).
وقد تميزت حكومات مندريس خلال العقد المذكور بالسياسات التالية:
1-الاعتراف بإسرائيل (1950) لتشكل مع تركيا فكّي كماشة حول مناطق تحالف حركة التحرر العربية مع موسكو.
2– الانضمام إلى حلف الناتو ومنح تسهيلات عسكرية واستخباراتية للبنتاغون الأمريكي، منها بناء القاعدة العسكرية الأمريكية الكبيرة، أنجر ليك، بالإضافة لعشرين قاعدة أخرى.
3- اشتراك وحدات عسكرية تركية ضمن حلف الناتو (الأطلسي) العدواني، في الحرب الكورية، وتمت إبادة معظم هذه الوحدات وكانت مشاهد نعوشهم في كل مرة من أسباب تراكم النقمة العسكرية على مندريس.
4– تشكيل ذراع عسكري لحلف الأطلسي باسم حلف بغداد – أنقرة (1955) وجرت محاولات لضم الأردن له، أسقطتها المظاهرات الشعبية في الضفتين، والتي سقط فيها عشرات الشهداء بينهم الشهيدة رجاء أبو عماشة.
وكانت الضربة التي قصمت ظهر الحلف هي التي تلقاها إثر الوحدة المصرية السورية (1958) برئاسة عبد الناصر، حيث ردعت هذه الوحدة المحاولات التركية – العراقية المشتركة لإسقاط الحكم الوطني في سوريا عبر نسج المؤامرات من قبل نوري السعيد في العراق، أو عبر احتلال أراضي شمال سوريا وتدبير انشقاق صغير في الجيش السوري باسم (الجيش الحر) وإعلان حكومة من العملاء باسم حكومة الائتلاف في فندق تركي. ومما يذكره أكرم زعيتر (سفير ووزير أردني سابق) في مذكراته / الجزء الأول، الصادر عن المركز العربي الممول من الدوحة، أنه التقى في اسطنبول مع مندريس وبقايا رجالات نوري السعيد وميخائيل إليان من المعارضة السورية وناقشوا وضع خطط لاستعادة الحكم الملكي في العراق وفصل سوريا عن مصر.
وقد توجت مقاومة كل هذه المحاولات، بالإضافة للوحدة المصرية – السورية بسقوط عناوين الحلف المذكور، وتنفيذ حكم الإعدام فيهما، مندريس في تركيا، ونوري السعيد في العراق.
5- وفي السياق السابق يشار إلى التحالف الوثيق الذي أقامته حكومة مندريس مع حكومات العدو الصهيوني (كما حكومات آردوغان) وعبرت عنه في محطات عديدة مثل: المشاركة (التركية – الإسرائيلية) في مداولات سيفر (1956) التي سبقت العدوان الثلاثي (البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي) على مصر بعد تأميم عبد الناصر لشركة قناة السويس التي كانت تخضع للحكومة البريطانية، وبعد دعم عبد الناصر للثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي. ومثل توقيع اتفاق استخباراتي (تركي – إسرائيلي) ضد عبد الناصر خلال استقبال مندريس لرئيس وزراء العدو الصهيوني، بن غورين، في أنقرة عام 1958
6- إلى جانب الذراع العسكري للأطلسي الجنوبي (حلف بغداد – أنقرة) انخرط مندريس في لعبة الأحلاف والمؤتمرات الإسلامية الأمريكية، وفق نصائح المؤرخ اليهودي الأمريكي برنار لويس، وسعى إلى تمرير الدور السياسي الأطلسي لهذه الأحلاف والمؤتمرات الإسلاموية، بغطاء إسلامي مزعوم وبإعادته نمط مبرمج للتربية الإسلامية إلى المناهج المدرسية (يذكرنا بفرض كتاب للمودودي على المناهج الأردنية خلال عقد آخر من عقود الحرب الباردة: 1970 – 1980).
إضافة للأبعاد والوظائف الأمريكية العسكرية السابقة لحكومة مندريس، لم تكن الأبعاد الاجتماعية الاقتصادية أقل خطورة على الشعب التركي والعرب والشعوب الأخرى في المنطقة. فبعد سنوات من توسيع القطاع العام ورأسمالية الدولة خلال عهد أتاتورك، قام مندريس بإخضاع الاقتصاد التركي لسيطرة البنك وصندوق النقد الدوليين وسياساته باسم الخصخصة وإعادة الهيكلة، وكما حدث في أكثر من بلد من محيط الرأسمالية العالمية، دفعت تركيا ثمن الأوهام الناجمة عن تدوير الاقتصادات في المتروبولات الرأسمالية نحو المحيط التابع، فمع كل تقدم في الثورة المعلوماتية والتقنية تتخلص المتروبولات من خطوط إنتاج بأكملها وتدفعها نحو المحيط، مع الحفاظ على الدور الاقتصادي للإمبريالية في مجملها.
وكان الأخطر في كل ذلك حكاية التسهيلات الائتمانية برعاية نادي روما، والتي تظهر بعد سنوات كديون هائلة قاتلة بحسب اعترافات بيركنز من البنك الدولي في كتابه (اعترافات قاتل اقتصادي). فترافقت المظاهر الاقتصادية الجديدة في القطاعات المختلفة مع تفسخ الطبقة الوسطى التي ازدهرت في عهد أتاتورك، ومع الانقسامات الطبقية الحادة واندلاع موجات كبيرة من المظاهرات العمالية والطلابية وإحياء النزعات الإثنية.
——————————————————-
تنويه: ينشر سيرجيل هذا المقال باتفاق خاص مع الكاتب، وهو منشور على صفحته على الفيسبوك.