-1-
كان قرار مجلس الأمن القومي التركي، برئاسة رئيسه رجب إردوغان، في أواخر نوفمبر 2011، بالتدخّل الميداني ضدّ سوريا ونظامها الحاكم، عبر تسليح وتدريب عشرات الألوف من: مهاجرين سوريين (منهم من شجّعتهم تركيا على الهجرة ونصبت لهم مسبقاً معسكرات خيام منذ نيسان 2011، أم فضّلوا الخروج سعياً إلى فرص حياة أفضل بعيداً عن بؤر التوتر المتّسعة في الداخل)، ومهجّرين سوريين، سواء إلى تركيا أم إلى مناطق نفوذها الشمالية (مَن فرّوا بأنفسهم من سعير القتال المحتدم في مناطقهم، ومَن أوذي بنيران الجيش وميليشياته، أو مَن آذاه سلوك «محرّريه»؛ فآثر السلامة بنفسه في الأناضول عنها حولهم)، كما ومن غير سوريين وفدوا من شتّى القارات، بتيسير سافر، وبأعداد كبيرة، ليؤذّنوا على «الجهاد» في سوريا. كان ذلك القرار نذير حرب سورية طاحنة بامتياز. وقتها، قدّرتُ أن أوارها لن يخمد قبل انقضاء عقد، وأن توقّعي المكتوب، في آب من ذات العام، عن فاتورة مليون ضحية، بين قتيل ومعطوب، قد تثبّت يقيناً بذلك القرار.
ما الذي دفع إردوغان إلى ارتكاب فعلةٍ، لا بدّ أن ندم عليها مع الوقت؟
لازمةٌ هنا العودة إلى عقود 1918-1957 كي نربط خيوط الماضي بالحاضر، لا سيما أن النقلة إلى المستقبل مُشارفة.
بدءاً، كلا الكيانين التركي والسوري إفرازٌ وليدٌ من رحم سقوط الإمبراطورية العثمانية، وليسا من طبيعة ضاربة في التاريخ. مصطفى كمال وصحبه تكيّفوا مع المستجدّ بأن صارت أسمى أمانيهم النجاة بالأناضول من قبضة الاحتلالات الغربية العدة (اليوناني والإيطالي والفرنسي، بل والبريطاني)، ثم توسعته كي يشمل كيليكيا وإسكندرون، اللتين ضمّتهما الأقاليم الشامية في الإمبراطورية، وذلك بمقايضة فرنسا أن تسحب قواتها من الأولى لقاء توقّف كمال عن مساندة التمرّد السوري المسلّح في الشمال والساحل، أوائل العشرينيات، ثم مقايضتها، بتيسير استيلائه على الثانية لقاء حياده في الحرب العالمية الثانية، عشيّتها (ما نال سوريا الجغرافية من تركيا فاض عمّا أصاب العراق منها؛ فقد اقتصر الأمر معه على مطالبةٍ لفظية بولاية الموصل، منذ معاهدة لوزان في 1923، دون محاولة إنفاذها مادّياً).
تبنّى مصطفى كمال، ومن بعده عصمت اينونو، في المدة ما بين 1923 و 1950، نهجاً حثّياً مفاده أن تركيا هي الأناضول الموسّع وحسب، وأن الطورانية عبءٌ وجب إنكاره، والعثمانية تخلّف حسُن نكرانه، والأوربة موئلٌ تحتّم ركونه. وعليه، فمن بعد وضع اليد على إسكندرون، في 1939، سلِمت سوريا من أيّ تدخّل تركي حتى عام 1954.
ما الذي غيّر النهج حينها ولحين؟
انزياح تركيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية نحو الغرب الجماعي كلّياً، في وجه خصمها التاريخي روسيا، رغم دعم الأخيرة لاستقلالها في العشرينيات.
كانت حماسة الجناح اليميني من الأتاتوركية، والذي انشطر عن حزب أتاتورك الواحد: الشعب الجمهوري، عشيّة الخمسينات، تحت عنوان: الحزب الديموقراطي، بزعامة عدنان مندريس؛ كانت بالغةً، سواء لانضمام قوّات تركية إلى القوّات الأميركية المحاربة في كوريا، أم لعضوية حلف «الناتو». لم يكتفِ مندريس بذلك بل راح، منذ أوائل 1954، ينسج حلفاً غربي الولاء، عابراً للبطن الرخو للاتحاد السوفياتي، بدأه مع باكستان، وبعزمِ ضمّ إيران (كانت مسألة وقت حتى يستوي أمر بهلوي، العائد من منفاه على الحراب الأنغلو-أميركية) والعراق، ثمّ «الشام»، بسرعة قياسية.
كان أوّل الغيث عنده لهفة نوري السعيد، المفتون بالإنكليز، على الانضمام للحلف الجديد، الأمر الذي تمّ مطلع عام 1955، وسرعان ما أتت في إثْره دعوة المحيط للانضمام إليه، سلماً أم بالقوّة.
لكن ما وضع العصي في دواليب الحليفين، وخلفهما الراعيَين الأميركي والبريطاني، كان بزوغ قيادة استقلالية معادية للاستعمار في القاهرة، رأت في حلفٍ تابع للغرب طامّة كبرى على مصر والعرب، وارتأت في بديل عربي مشترك عنه غبّ الطلب لها ولهم.
ما بين مطلعي عامي 55 و58، دار على «الشام» صراع صفري بين حلف «بغداد» ورعاته الغربيين، وبين عبد الناصر وحليفه الشارع «الشامي»، بل والعراقي معه. وقف الجيش السوري مع شارعه، مع ما كلّفه ذلك من صدام عنيف مع الحزب السوري القومي الاجتماعي، والذي خلطت قيادته ما بين هدف الاتحاد السوري-العراقي –وكان خير مرام– وبين حلف «بغداد» الغربي التبعية، بل وذهبت إلى حدّ اغتيال خصمها الألدّ، العقيد عدنان المالكي، فكان أن واجهت وكادرها، العسكري والحزبي، مآلاً امتدّت آثاره لعقدين ويزيد.
أحرق الصراع أيضاً شرائح واسعة من رموز اليمين السوري، سيما من الحزب الوطني (كانت مفارقة أن حزب الشعب، الداعي التاريخيّ للاتحاد السوري – العراقي، قد نجا من التلوّث بالخلط بين دعوته ومسعاه، قبل عام 54، وبين الانضمام للحلف بعده، فيما غطس «الوطني» في مستنقع الحلف بين صريح قاده ميخائيل اليان، ومستتر تزعّمه صبري العسلي). كانت أولى ضحايا منع انضمام سوريا إلى الحلف فارس الخوري وحكومته، والذي فضّل اعتزال السياسة بالمطلق عن أن تُسحب الثقة البرلمانية بحكومته لتأييدها الخجول للحلف. ثم اكتملت هزيمة مشايعيه، من نخب سورية، بتطهير اليمين العسكري من صفوف الجيش، صيف عام 57.
إبّان تلك الفترة، اضطر الملك حسين إلى النأي عن الحلف، بل وطرد الضباط البريطانيين من جيشه، وواجه كميل شمعون معارضة كاسحة منعته من ضمّ لبنان إليه. وقفت السعودية مع عبد الناصر ضد الحلف لعامين، لكن خشيتها المستجدّة منه، بعد انتصاره السياسي في «السويس»، دفعتها إلى تناءٍ متدرّج عنه، وتقارب محسوب مع خصومها الهاشميين ضدّه، وإن لم يكن شاملاً لكلّ كبار الأسرة المالكة. عزّز المجهود العربي ضدّ الحلف دعم الاتحاد السوفياتي الكامل له.
ما الذي فعلته تركيا نحو سوريا في 1957؟ كان قرار حلفي «الناتو» و«بغداد»، أي المتبوع والتابع، منذ مطلعه: عزل السعودية عن مصر، وإبعاد مصر عن «الشام»، وبكلّ السبل. تحيّر المتبوع بين غزو سوريا بالجيش العراقي أم بالجيش التركي، وتردّد في المفاضلة حتى بتّ الأمر، أوائل خريفه، باعتماد التركي غازياً.
مَن وما الذي منع مندريس، وخلفه أيزنهاور، عن المضيّ بخطّة الغزو المنتواة، في أكتوبر 57؟ هما عبد الناصر وخروتشيف.
بعد هزيمة مقاصد السياسة التركية حينها، انكفأت أنقرة عن التدخّل في الشأن الداخلي السوري، باستثناء طيرها فرحاً بالانفصال السوري، ومسارعتها للاعتراف بسلطته في مساء اليوم الأوّل لانقلابه. لكنها مكثت بعده لابدةً لقرابة عقدين، عادت بعدهما، ومنذ انقلاب كنعان ايفرين العسكري صيف 1980، سيرتها الأولى وفقاً لتكليف ناتوي بدعم التمرّد الأصولي المسلّح في سوريا لوجستياً.
ردّ حافظ الأسد، رفقة جورج حبش ونايف حواتمة، ومنذ 1984، بدعم تمرّد كردستاني مسلّح شرق الأناضول، خاضه حزب العمّال الكردستاني الماركسي العقيدة، لأكثر من دزّينة أعوام. كان موقف الأسد ذاك أوسع من مجرّد معاملةٍ بالمثل؛ لقد هدف إلى أمرين: الأوّل، أنه وباعتبار سوريا على حدود «الناتو»، فقد اقتضى ذلك مشاغلة عضوه الجار كي لا يعيد كرّة فعلته عام 80. والثاني، إرساء تبادلية وقف دعمه المتمرّدين الكرد لقاء التزام تركيا بمنسوبٍ مواتٍ من مياه نهر الفرات، يزيل ضيم السدود التركية المبنيّة على أعاليه. تمرجحت التبادلية، ما بين عامي 84 و98، مدّاً وجزراً دون رسوٍ على سويّة مستقرّة فضّت النزاع.
لحَظ الأسد كذلك بانتباه شديد تصريحات الرئيس التركي، تورغوت أوزال، خلال أزمة الكويت 90/91، المُطالبة بضمّ «ولاية» الموصل (محافظات نينوى وكركوك ودهوك وأربيل والسليمانية) إلى تركيا، رابطاً إياها بخلفية لابثة في الذهن الجمعي التركي مفادها أنّ الشام (تحديداً سوريا الداخلية، وبالأخصّ شمالها) امتداد طبيعي لتركيا في كلّ الميادين.
زاد الطين بِلّة اندفاع العسكريتاريا الحاكمة في تركيا إلى توقيع اتفاق تعاون عسكري وجوّي مع إسرائيل، في شباط 96، فهِمه الأسد نيّة عدوان مشترك على بلاده.
رطّب الأجواء نسبياً، ويا للمفارقة، وصول الزعيم الإخواني، نجم الدين أربكان، إلى رئاسة الحكومة، في حزيران من ذات العام، سيّما أنه قد سارع إلى محاولة إغلاق ملفّ الصدام البعثي-الإخواني في سوريا. لكن الوقت لم يسعفه إذ داهمته العسكريتاريا بانقلاب هادئ، ولمّا مضى بعدُ عامٌ على حكومته.
على خلفية ذلك كلّه، حفلت فترة صيف 97 – خريف 98 بمتلازمة اشتداد وتيرة عمليات الكردستانيين المسلّحة ضدّ الجيش التركي مع تقتير تركيا في تمرير مياه الفرات لسوريا. بلغ الأمر حدّه حين وقف رئيس الحكومة التركية، وصنيعة العسكريتاريا، مسعود يلماظ، في برلمان بلاده لينذر الأسد بالمليان أنْ أوقف دعمك لعبد الله أوجلان، زعيم التمرّد الكردستاني، واطرده من لدنك (سوريا ولبنان) من توّك، وإلّا فالجيش التركي آتٍ إلى دمشق غازياً؛ لا بل وأضاف إلى التهديد ألفاظاً سوقيّة بحقّ مَن هاجم.
قلّب الأسد الأمر على كل وجوهه فأدرك أنّ التهديد جدّي هذه المرّة، سيما أن الولايات المتحدة منشغلة بالتحضير لحملة «ثعلب الصحراء» ضد العراق، وروسيا في حالة احتضار، فما كان من سبيل سوى الإنصات إلى وساطتين، مصرية وإيرانية، تدرآن احتمال الحرب؛ وقد كان.
تمخّض عن فضّ الاشتباك توقيع اتّفاق أضنة، في أكتوبر 98، والذي نصّ على حق المطاردة الساخنة للقوّات التركية بعمق 5 أميال داخل الأراضي السورية، مع التزام دمشق بوقف تامّ وفوري لكلّ أشكال الدعم لأوجلان وطرده من البلاد.
وفعلاً، فقد شهدت الفترة الفاصلة ما بين «أضنة» ورحيل الأسد طيّ صفحة الحرب بالواسطة بين البلدين، وإرساء هدوء تامّ على طرفي الحدود؛ بل وتوّج حضور الرئيس التركي، نجدت قيصر، جنازة الأسد، مناخ تطبيع جدّي لعلاقات البلدين، ولعقدٍ بعد.
-2-
صحيحٌ بروز دورَي الرئيس التركي نجدت قيصر، ووزير خارجيته إسماعيل شيم، في إصلاح ذات الشأن بين البلدين منذ التوصّل إلى صيغة «أضنة» التوافقية، لكنه كان برضى، بل وباسم، المؤسسة العسكرية – الأمنية المتنفّذة. ولعامين ونصف عام بعد رحيل الأسد، رست تلك العلاقة على مرسىً آمن، لم يؤثّر به سلباً فوز حزب «العدالة والتنمية» في انتخابات نوفمبر 2002 البرلمانية، رغم شبه إسلاميته. مبعث ذلك جملة دواعٍ: أن العسكريتاريا شريكة حكم ضامن، ثم إن إردوغان وصحبه سليلو نجم الدين أربكان، وهو مَن احتفظ له الأسد بوافر احترام، وبرغم عِلمه برضى واشنطن الحارّ بفوزهم. ثمّ ما لبثت العلاقة أن تعزّزت في ضوء موقف العسكريتاريا التركية المعارض لغزو العراق، والمانع لاستخدام أراضي وأجواء بلادها من قبل الغازي الأميركي، معزّزاً برفض نواب وقاعدة الحزب الحاكم المشاركة في الغزو. شعر الأسد (القصد هو الرئيس بشار منذ الآن) بأهمّية ذلك المشترك مع الحكم التركي، بجناحَيه؛ والعسكري بالأخصّ، سيّما وقد شاهد نائب وزير الدفاع الأميركي، بول وولفويتز، يتوعّد الجنرالات الترك بسوء العاقبة على فعلتهم، ومن على شاشة “سي ان ان تورك”.
لم يطل الوقت حتى تمّ ترتيب زيارة رسمية للأسد إلى أنقرة، مطلع 2004. في أولها، جلسا بمفردهما، هو ورئيس الأركان التركي، الفريق حلمي أوزكوك، لساعات أربع متصلة، في مسعىً لتنسيق خطوات درء مفاسد الاحتلال الأميركي للعراق، وأخطرها رعايته نشوء كيان انفصالي كردستاني في شماله. في المقابل، كان للحديث مع إردوغان وصحبه طابع استشفاف كنهه والاطمئنان من جانبه، توطئةً لعلاقات صحيّة معه؛ وذلك ما حصل.
ردّ إردوغان الزيارة للأسد بعدها بعام، وفي وقت كان فيه الأخير قد دخل في طور صراع مع الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة وفرنسا، إثر قمّتين متلاحقتين جمعتا رئيسيهما، جورج بوش وجاك شيراك، في حزيران 2004، واتّفقا فيهما على إخراج القوات السورية من لبنان، وفق قراءة شيراك التي ابتاعها بوش، بإفضاء ذلك بالضرورة إلى إسقاط النظام في دمشق على يد جيشه المنسحب قسراً. كان إسقاط النظام قد غدا، آنذاك، غبّ الطلب لديهما: الأميركي، لدوره في تغذية المقاومة المسلحة ضد احتلاله العراق؛ والفرنسي، لعظيم وقديم التياعه لاستعادة «الشام»، بدءاً بلبنانه.
وعليه، فقد بدا القصد من الزيارة شدّ عضد الأسد وهو يخوض مواجهة القرار الدولي «1559» بقضّه وقضيضه. مذّاك، اعتبر الأسد أن تركيا الحكم المزدوج مشروع حليف استحقّ التعويل عليه شيئاً فشيئاً؛ فهو جار، وناتوي يؤمّن نافذة ولو صغيرة صوب الغرب ابتغاء، أقلّه، «فض الاشتباك»، وذو نزوع استقلالي؛ ثمّ إنه يوفّر ثقلاً سنّياً يمتصّ حساسيات مجتمعية من مدى العلاقة مع إيران الشيعية، وإنْ بعلم أن الصلة بالأخيرة ثابتٌ من نوع استراتيجي وأمني مميّز.
ورغم أن عام 2005 قد خلا من زيارات متبادلة، إلّا أن شدّ العضد لبث راسخاً خلاله، وقد امتدّ عبر عام 2006. بتحديد أدقّ، لا أزمة اغتيال الحريري ولا حرب تموز فتّتتا من شدّ العضد ذاك، ما رفع منسوب ثقة الأسد بأن مشروع الحليف بات حليفاً، وبامتياز.
لكن الحليف لم يعد ثنائي الطابع، فقد خاض إردوغان، بعونٍ فارق من جماعة فتح الله غولن المتنفّذة في القضاء والشرطة، وعلى مدار عامَي 2007-2008، معركة متدرّجة ولكن مصممة على إخراج الجيش من السياسة، وكسبها.
تبلورت مذّاك رؤية إردوغانية لدور تركيا مزجت ما بين الناتوية والسعي للأوربة، من جهة، وخلطةٍ من عثمانوية وطورانية، من جهة أخرى. في سياق الأخيرة، كانت سوريا عنده مدخله إلى العالم العربي، وحيث لا يجوز تركها لحليف إيراني لها فحسب، ومَن يمدّه بزادٍ عربي في وجه أنظمة عربية تتوجّس من “إسلاميته”.
في المقابل، فقد سكنت عقلَ الأسد، ومن تضاعيف تقاربه التركي معطوفاً على ثابت حلفه الإيراني، فكرةٌ شبه أموية دعت إلى تشبيك بحار خمسة ذات كثرة مسلمة بين متشاطئيها؛ هي المتوسط والأحمر والأسود وقزوين والخليج، بما عنته من مدّ أنابيب نفط وغاز وطرق وسكك وموانئ ومطارات، تتيح كلّها انسياباً دافقاً لحركة التبادل والمال والعمالة بين تلك الدول، وتجعل من سوريا واسطة عقد بينها. لكن معاركه السياسية، التي اتّصلت ما بين منتصف 2004 ومطلع 2009، تركت الفكرة في مكانها، مجرّد فكرة… لحينه.
شكّل لقاء الأسد وإردوغان الثالث في دمشق، نهاية 2006، مهماز علاقة مفتوحة بعيدة الأفق، كانت الحاجة سورياً إليها كبيرة كي توازن تدهور علاقاتها بالسعودية، سواء على خلفية اغتيال الحريري أو جرّاء رأي الأسد المعلن من موقفها السلبي من حرب تموز؛ وبالرغم من زيارات ثلاث قام بها لها، صيف 2005 وشتاءَي 2006 و2007، لم تفلح في رأب الصدع بين البلدين، لقوّة قبضة خصميه المريرين، سعود الفيصل وبندر بن سلطان، المطبِقة على عنق الموقف السعودي منه.
ثم سرعان ما انضاف بعدٌ جديدٌ على العلاقة، خلال زيارة لاحقة لإردوغان، ربيع 2007، حبّذ فيها منحه فرصة التوسّط طلباً لسلام سوري – إسرائيلي، في ضوء ما عرضه إيهود أولمرت، رئيس الحكومة الإسرائيلية، عليه من استعداد جدّي لتقديم تنازلات مطلوبة. عشيّتها، جرت عملية استكشاف أميركية لتطبيعٍ مع دمشق (وطهران)، وفق توصية لجنة بيكر – هاملتون في الكونغرس خريف 2006، وذلك بغية إيجاد مخرج للورطة الأميركية في العراق. فجاءت زيارة نانسي بيلوسي لدمشق، في وقت قريب من زيارة إردوغان آنذاك، وانتهت من دون مُخرَج ملموس. تريّث الأسد في الاستجابة لدعوة الأخير شهوراً، شنّ خلالها الطيران الإسرائيلي غارته الكبيرة على موقع الخُبر في الشرق السوري، عبر الأجواء التركية، وبدعوى وجود مفاعل نووي.
زار الأسد إردوغان، في الخريف عقب تلك الغارة، لمكاشفةٍ باتت ملحّة: ارتدادات الجهادية السلفية من العراق بدأت تضرب في الداخل السوري، القطيعة مع السعودية راحت تكتسي بفاعلية مهدِّدة، والملاحقة الأميركية الساخنة داخل الشرق السوري لأهداف «جهادية» تتواتر، فضلاً عن ملابسات الغارة. لحق بذلك كرنفال «أنابوليس» للسلام، أواخر العام، فيما بدا جزئياً كأنه منافسةٌ – ولو صورّية – للدور التركي في مساعي السلام.
جدّد إردوغان، في زيارة سورية له ربيع 2008، عرْض أولمرت توسيطه كي يكون عرّاب سلام سوري – إسرائيلي، عبر مفاوضات غير مباشرة في أنقرة. وافق الأسد لسببين: إكساب تركيا دوراً إقليمياً مهمّاً، وتحييد احتمال ضغطها عليه في التفاوض. وشكّل وفده المفاوض برئاسة رياض الداودي وعضوية سمير التقي وسمير سعيفان وسامي مبيّض (السميران انتقلا إلى المعارضة مع “الربيع”).
تكرّرت جولات تلك المفاوضات مرّات عدّة عبر ذلك العام ولكن بلا نتائج ملموسة، ما استدعى قمة رباعية في دمشق، في أيلول 2008، ضمّت إلى الأسد إردوغان وأمير قطر، حمد آل ثاني، والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي (على خلفية استضافة الأخير مضيفه قبلها بشهرين). سبق تلك القمّة إيفاد الوفد المفاوض إلى واشنطن، في تموز، بحجّة حضور ندوة في معهد بروكينغز، وفعلياً بغرض تطمينها عن حفظ دورها حين يجدّ الجد. كان كلّ ما وطّدته القمة كسر دمشق عزلتها الغربية، جزئياً، وبرغم ثبات النأي السعودي عنها.
جاءت الزيارة السورية الثالثة لإردوغان، ذلك العام، عند نهايته؛ وحملت وعود مخاضٍ سرعان ما بان أنه حمل كاذب. فقد ظنّ إردوغان أن بيده عرض سلام لا يُفوّت، وكلّ ما تبقّى لازماً هو اتّصال مباشر بين طرفَي التفاوض يضع اللمسات الأخيرة على مُنجَزه. لكن أولمرت كان في مدار آخر؛ مدار شنّ حملة عسكرية جذرية ومفاجئة على المقاومة الفلسطينية الحاكمة في قطاع غزة. وعليه؛ رفعت الأقلام وجفّت الصحف.
ولعلّ المرّة الأولى منذ لقائهما الأول، قبل أعوام خمسة، أتى فيها ذكر «الإخوان المسلمين» على هامش العلاقة كانت حين صدر قرار قيادتهم، بطلب تركي، في كانون الثاني 2009، تعليق معارضة «الإخوان» للنظام في ضوء عون سوريا لـ«حماس» وباقي الفصائل، وعلى خلفية معركة غزة. وبتأثير ذات الخلفية، تعافت العلاقات السعودية – السورية، في إطار مؤتمر القمة العربية بالكويت مطلع 2009، وبفضل تغلّب الملك عبد الله، وأخيه ومدير مخابراته مقرن، على سمّية دور ثنائي سعود – بندر المعادي لدمشق.
ثم عاود إردوغان كرّة وساطته بين سوريا وإسرائيل، في زيارته صيف 2009، فاستؤنفت المفاوضات غير المباشرة… ومرّة أخرى بلا ثمار. لم يكتف إردوغان بمسألة التفاوض تلك، بل أبدى رغبته بفتح الحدود بين البلدين دونما الحاجة إلى سمات دخول، وإرساء نظام تجارة حرّة بين البلدين. وتمّ له ذلك، رغم تسبّب الثاني بضيق أصحاب الصناعات الاستهلاكية والحرَفية من المنافسة التركية الطابشة. كما أطلع الأسد على نجاح مفاوضاته مع كرد تركيا في التوصّل إلى تسوية تاريخية لمشكلتهم المزمنة، لِما في ذلك من إطلالة على المشهد الكردي في سوريا ذاتها. ثمّ دعاه ليكون، في أيلول، ضيفه وضيف مؤتمر حزبه؛ وهكذا كان.
في المأدبة، أشار إردوغان إلى شخصٍ أن يأتي صوب المائدة. عرّفه للأسد باسم غزوان مصري: رجل أعمال تركي – سوري قريبٌ منه، وهو مَن أشار على علي البيانوني بتعليق المعارضة، ويودّ تجديد جوازه السوري المنتهي المفعول منذ أن غادر مدينته حلب شابّاً في 1983. مَن الرجل؟ من جذور إخوانية في حلب؛ تلقّى دراسته الجامعية في تركيا، وانخرط في أنشطة «الإخوان» السوريين فيها، من جهة، وفي دروب حزب «العدالة والتنمية»، من جهة أخرى، فوصل أن صار نائب رئيس مجموعة رجال الأعمال المرتبطة به (موسياد)، فضلاً عن كونه ضابط الاتصال الرئيسيّ بين «الإخوان» والحكم التركي. كان غرض إردوغان فتح طاقة تعامل مباشر بين «الإخوان» والنظام. أشار الأسد لأمنه بعدم تجديد جواز غزوان؛ فكانت تلك باكورة صدع.
في تلك الآونة، عاد الأسد ليطرق حديدة فكرة «البحار الخمسة»، وفي الخلفية رفضه تجديد اتّفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لما اعتور مسوّدته من مسارب تدخّلية في رسم السياسات السورية. لكن برود العلاقة النسبي مع طهران – بحُكم الخلاف المستعر بين دمشق وبغداد لحدّ تلويح رئيس حكومة الأخيرة، في آب 2009، بتقديم شكوى إلى مجلس الأمن ضد الأولى، ومطالبته بمحكمة دولية تقاضي الرئيس السوري بتهمة دعم نشاط «القاعدة» في العراق، فرض تأجيل مقاربة جادّة للمسألة.
حين عاد إردوغان زائراً، في ختام 2009، حمل معه حنَقاً ثنائي الدوافع: ممانعة الأسد التامّة في أي تطبيع مع «إخوان» سوريا (لا تأثير لذلك على علاقات دمشق الحسنة مع «إخوان» باقي الأقطار العربية، جذره تجربة 73-82 المريرة مع السوريين منهم)، وجمود مسعى السلام مع إسرائيل (والذي لم يُفد في تحريكه حوار الأسد مع كلّ من السيناتورين جون كيري وجورج ميتشل، في النصف الأول من العام).
كان عام 2010، بحقّ، عام تأسيس زلزال 2011 وما تلاه، وفي أكثر من موقع. بدأ العام بحركتين متباينتين للأسد: في الأولى، عقد لقاء ثلاثياً في دمشق ضمّ إليه الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، أواخر شباط منه. وظهرت صورة اللقاء وأيديهم متشابكة لتضفي معنى الحلف الوثيق، ودليلاً على تصفية ذيول «شكوى المالكي». في المقابل، فقد توافق، في الثانية، مع نظرائه الترك والسعوديين والقطريين على دعم قائمة إياد علاوي في الانتخابات النيابية القادمة في العراق، في نيسان من العام، بما بدا كأنه عربون مودّة للرياض بالذات، زاوج استضافة سعد الحريري في دمشق.
لم تُسرّ طهران بهذه الشراكة واعتبرت موقف دمشق مخالفاً لروح «شباط»، وضغطت بما في وسعها كي تتملّص الأخيرة من التوافق إيّاه. ذهب الأسد إلى الدوحة، في أيار، ليستكشف مخرجاً من الأمر، فوجد مستقبِله، باسمه وباسم نظيرَيه التركي والسعودي، مصرّاً على خيار علاوي بعناد، بل وراح يبدي تذمّره من نبأ التوافق المبدئي بين دمشق وطهران حول الغاز. قاد التباين في الدوحة، في غضون أسابيع، إلى تجميد الاتفاقات الاقتصادية العديدة الموقّعة بين البلدين، مؤشّراً على جدّيته.
لكن المؤشّر الأهم على أن شيئاً غير صحّي قد طرأ على الطقس التركي – القطري نحو سوريا جاء مطلع آب، حين أعلن مجلس شورى «إخوان» سوريا تبديل قيادته «الحمائمية» بأخرى «صقورية»، ممثّلةً برياض الشقفة مراقباً عاماً، وفاروق طيفور وحاتم الطبشي نائبين له. بدت رسالة تركية/ قطرية بامتياز، وبعلم أن الثلاثة من فارّي قيادات «الإخوان» الميدانية، الحموية، إبّان صراع 79-82.
لبث موقف الأسد، لجهة علاوي، رجراجاً، فأتاه نجاد زائراً، في أيلول، بغرض ثنيه عن التزامه به، ولم يفز ببتّ. في المقابل، ومضت بينهما شرارة إيجابية تمثّلت بالعرض الإيراني مدّ خط غاز عبر العراق ووصولاً إلى سوريا ولبنان، ما رمَز للأسد كواحد من مداميك دعوته.
والحاصل أن تدافع جملة تطوّرات مؤثّرة خلال الربع الأخير من العام كان صاخباً.
كان أولها، دعوة المرشد الإيراني علي الخامنئي الأسد لزيارته، مطالع أكتوبر، وفيها أقنعه بالتخلّي عن خيار علاوي بعدما أطلعه على حصول توافق إيراني – أميركي حول نوري المالكي رئيساً للحكومة العراقية مجدّداً. كان لذلك فعل الصدمة في أنقرة والرياض والدوحة، سيما وقد عرفوا أيضاً بالاتفاق المبدئي بين طهران ودمشق حول خط الغاز (وضمانة إيرانية بانضواء العراق في مشروعه). عنى الخطّ للأطراف الثلاثة مزيداً من التمكين لإيران في الشمال العربي، على حساب مصالحهم فيه.
وثانيها، إبطال حزب الله، منذ أواخر الخريف، التزامه بسعد الحريري رئيساً للحكومة، بعد اكتشاف تمريره لـ«دير شبيغل» الألمانية نويّات قرائن اتّهمته باغتيال والده (كان قد أسقط الاتّهام عن الأسد، بطلب سعودي).
ثم أتى إردوغان زائراً، أواخر أكتوبر، وفي جعبته شكوى وطلب؛ أمّا الأولى فعن «خذلان» الأسد له في قضية علاوي، وأمّا الثاني فوجوب تسلّم دمشق السجناء السوريين الذين قاتلوا في صفوف حزب العمال الكردستاني، ما بين 1984 و2009؛ ذلك أن الاتفاق بين الحكومة والحزب نصّ على الإفراج عن سجنائه؛ ولمّا كان ألفٌ منهم سوريّين، فما لهم سوى العودة إلى بلدهم. رفض الأسد الطلب بوصفهم أصلاً تركاً. صارت الغصّة غصّتين الآن، لكن ثالثةً راحت تكتمل قواماً مع فقدان نصر الله ثقته بسعد الحريري بالمليان، وتلويحه بفرط حكومته.
دخل نيكولا ساركوزي في الزحام ودعا الأسد لزيارته، أوائل كانون الأول، في محاولة سافرة لتقطيع أوصال التحالف السوري – الإيراني، وأولاً في لبنان. وكان الفشل نصيبه.
قُرعت أجراس القلق على مداه في العواصم الثلاث: الرياض وأنقرة والدوحة. ناب وزيرا خارجية قطر وتركيا عنهم في جولات مكّوكية بين بيروت ودمشق، حوالي مفصل عامَي 2011/2010، سعياً لإقناع نصر الله بالامتناع عن التصعيد، ولم يقتنع. حاولا جذب الأسد ليتدخّل فكان جوابه الباتّ: منذ غادر الجيش السوري للبنان وحزب الله مَن يُمثّلنا فيه، ولا أتدخّل في قراراته، أمّا سورياً فلا مشكلة لدينا مع سعد. ترجم الحزب إصراره بإعلان استقالة الوزير الملَك فيما سعد كان مجتمعاً بالرئيس الأميركي باراك أوباما، أواسط كانون الثاني 2011، في مشهد إذلال ميلودرامي.
وبعد «نوبة صحَيان» دُقّت، على مدار عقد، في أرجاء العلاقات السورية بكلٍّ من تركيا وقطر، فإن 17 كانون الثاني 2011 هو يوم عزف «نوبة رجوع» بكلّ النحاسيات. فما إن خرج الحريري من البيت الأبيض ليسمع نبأ انفراط عقد حكومته حتى دُقّت أجراس الإنذار في العواصم الثلاث. طلب إردوغان وحمد لقاءً عاجلاً بالأسد، فتحدّد له ذلك اليوم موعداً في دمشق. وسرعان ما تبيّن أن للزيارة هدفين: تكتيكي وعاجل، فحواه طلبهما إعادة تكليف سعد الحريري بتشكيل الوزارة؛ واستراتيجي شبه عاجل خاطب الأسد بما يمكن تصوّره كالتالي: هذه فرصتك كي تتجنّب مصير زين العابدين (كانت قد مضت أيام ثلاثة على لجوء زين العابدين بن علي إلى السعودية، فارّاً من وجه انتفاضة شعبية لعب فيها الإسلاميون دوراً مؤثّراً)، وأنت لا تستحقّه. نحن نريدك، وشعبك يحبّك لكن ذلك لا يمتدّ إلى نظامك. لقد نصحناك لقرابة عام ونصف عام بأن أفضل السبل لمصالحة جادة بين نظامك وبين الناس هي في احتواء «الإخوان» ضمنه، فتلك فجوةٌ لا تُسدّ إلا بشراكة معهم. ثم أن مسايرتك لإيران، سواء في لبنان أو لجهة خط الغاز أو غيرها، فاقت احتمالنا، ومثْلنا السعودية، لها، ولذا فتخفّفُك منها بات ضرورةً لدينا.
في المقابل، يمكن تصوُّر ردّ الأسد على الشكل التالي: مسألة الحريري ليست عندي، كما سبق وأسلفت. أمّا إقرانكم حُسن علاقاتنا معكم بضرورة تقويضها مع إيران فغير مقبول. إن مصلحتنا تكمن في الاحتفاظ بها، وما ترونه من توثّق أكبر في علاقتنا بإيران فلأن لديّ جارة ليست جارة لكم هي إسرائيل، ولأنه ليس هناك من اتحاد سوفياتي ولا مصر ولا عراق؛ والاكتفاء بكم يظلمكم ويظلمني. أمّا عن «الإخوان»، فطالما لاينهم والدي لأبعد الحدود منذ تولّيه، فكان أن قابلوه، في شباط 73، بتظاهرات الدستور. عفا عن معظم قادتها في أقلّ من عامين، وإذا بهم قد غطّوا على عنف «الطليعة المقاتلة» لعامين. مع ذلك، أفرج عن قادة «الإخوان» المتبقّين في السجون، في نيسان 78، فما إن خرجوا حتى ذهبوا وضمّوا تنظيمهم إلى جانب «الطليعة» في الحرب المسلحة علينا. حاول الوالد فطمهم عن غيّهم بعربون مصالحة وذلك بالإفراج عن 500 من رؤوسهم، اختارهم الوسيط الإخواني، أمين يكن، بذاته، في آذار 80، فماذا كانت النتيجة؟ المزيد من الولوغ في العنف. لا بل ذهب الوالد بعدها إلى إرسال مَن فاوضهم مرّتين: في 84 و87، فكادوا أن يطلبوا منا تسليم الحكم لهم. كيف لي أن أثق بهؤلاء، سيما وهم لعبوا ويلعبون بالورقة المذهبية بخفّة لا تجوز؟ عُزفت «نوبة الرجوع» مرّات في ذلك اليوم الحاسم.
أختم بواقعتين:
الأولى، الخميس 20 كانون الثاني 2011، تناول الراحل أ. هيكل، في «الجزيرة»، الحدث التونسي، ثم عقّب بقوله: سيكون الردّ في لبنان. سارعتُ لمهاتفته حال انتهائه قائلاً له: أصبت، ولكن على مسافة 85 ميلاً شرقيّ بيروت… إنها دمشق. علّق بـ”سنرى”.
الثانية، جرت في 8 شباط 2011 خلال مأدبة عشاء أقامها حمد بن جاسم لحضور مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي في الدوحة. انتحى بأحد الحضور الثقال قائلاً له: حسني موشك على الاقتلاع، ومعمّر على الطريق بعده، والأسد سيأخذ منّا 6 أشهر بالكثير؛ لكنه زائل قبل عيد الفطر. ذُهل المستمع وتشكّك بالقدرة على إسقاط الأسد بالذات، فأجابه حمد: «الجزيرة» والمال كفيلان بتدبّر الأمر… وكان ما كان.
-3-
ليس الحديث هنا عن الحرب السورية تأريخاً وتقييماً، فمقام ذلك في قادم وقتٍ قريب؛ لكن جملة إضاءات على مسارها، خصّت الدور التركي فيها، لازمةٌ في سياق العرض:
أولاً، فلولاه لَما من حرب سورية في الأساس. مثلاً، لو اقتصر الأمر على دور أردني، مرفوق بدور «14 آذار» لبناني، لأمكن للنظام في دمشق تدبّره ولو ببعض عسرة، ولَما وصل الحال إلى حرب طاحنة بكلّ ما حمل الوصف من معنىً. في المقابل، فلو عكسنا الأمر وحذفنا الدورين الأردني واللبناني من الحساب لَما تماثل الحال مع الدورين، ولاشتعلت حربٌ لا مجرّد أعمال عنفٍ أمنيّة السمات. إذاً، فبيضة القبّان في الميزان هي تركيا ودورها.
ثانياً، حار المرء عجباً حينها، وعلى مدار أعوامها، وما فتئ يحار، عمّا دار في عقل إردوغان من دواعٍ حفّزته على اتّخاذ قرار أخرق بكل المقاييس؛ وباعتبار المصلحة التركية المحضة. فمنذ زوال مندريس والحكم التركي ناءٍ عن التدخّل في الشأن السوري؛ اللهم باستثناء تكليفٍ ناتوي للجنرال كنعان إيفرن، عقب انقلابه صيف 1980، بتقديم عونٍ لوجستي لإخوان سوريا في صراعهم المسلّح ضد الأسد. كان جذر التورّع إدراك أصحابه، عسكريين ومدنيين، أن سوريا من نوع زجاج نفيس، إن كسرته ملَكتَه (أي بتّ مسؤولاً عن تخريبه)، ولا فائدة من التسبّب بذلك مع بلد جارٍ، وشريك موروثٍ تاريخيٍ بعجره وبجره. إذاً، بالمنطق، لا يسلك سياسي تركي حكيم، وذو حسٍّ سليم، نهج إردوغان السوري منذ 2011.
وثالثاً، طيب… ما الذي دفع الرجل كي يضرب عرض الحائط بنواميس المنطق، خابطاً خبطَ عشواء؟ حفنة «تهيّؤات» بدت له سانحة:
1-إيحاء «الربيعين» التونسي فالمصري له بأن غنيمة المشرق لم تعد بعيدة عن متناول اليد، ووفق قراءة «عثمانوية» حولاء خلطت بين شراكةٍ إمبراطوريةٍ فوق- قومية دامت أربعة قرون، وخريطة «دول» أفرزتها، وبات تجميعها في كومنولث، وبمحض التراضي لا بحقّ الفتح، سدرة المنتهى.
2-استدعاؤه خطاب أوباما في إسطنبول، في نيسان/أبريل 2009، بما حمله من حدْبٍ على دور تركي بارز في «الإسلامدار». فعاد وتثبّت من راهنية الرغبة، عقب اقتلاع حسني المصري.
3-اعتقاده أن غنيمة الشرق أوّلها دمشق، ومن ثمّ فالمطلوب شراكةٌ وازنةٌ في حكمها بالسلم، فإنْ لم يُصِخ الأسد سمعاً فكلّها، وبالسلاح.
4-رهانه على تفعيل الورقة المذهبية في سوريا بما كفل الإتيان بغالبيتها السنيّة العربية إلى فسطاطه بغير كثير عناء.
5-اتّساق رغبته في «فتح الشام» مع رغبة السعودية، ولأسبابها، وبرغم التنافر البيني حول بدائل كلٍّ منهما السورية.
6-تحرّقه لإقصاء إيران عن «الشام»، وأوّله سوريا، بغية الأخذ من وزنها الإقليمي، أقلّه نصفه، لصالح ذلك التركي.
وما إن اشتعلت شرارة الحدث السوري، أواسط آذار/مارس، حتى ذهب مدير مخابراته، حقان فيدان، في زيارات عدّة إلى دمشق عارضاً «إكسير النجاة» لها: الإخوان شركاء حكمٍ بنسبة الثلث الضامن. حمل المساعد الرئاسي، حسن التوركماني، الجواب السوري النهائي برفض العرض إلى أنقرة، في حزيران/يونيو2011.
اكتست لهجة إردوغان، خلال الأشهر الخمسة الأُوَل تلك، بنبرةٍ هي مزيجٌ من النصح واللدغ والتحذير. ثم جاءت زيارة وزير خارجيته الصقوري، أحمد داود أوغلو، لدمشق، في آب/أغسطس، ولقاؤه لساعات ستّ مع الأسد، لتشكّل نقطة الانعطاف الكبير، إذ ما إن لمس أن ترديده اللهجة السالفة الذكر لم يجْدِ نفعاً امتشق من حسامه سيف التهديد شبه الصريح، فلم يثمر بدوره. في أيلول/سبتمبر، بات التهديد علنياً وبلسان إردوغان بالذات، فلاح وكأنّ ما أوّله كلام ختامه قتال.
ما أجّج إردوغان إلى حدّ إذهاب العقل كان الفيتو الروسي – الصيني المزدوج على مشروع القرار الأميركي المقدّم لمجلس الأمن حول سوريا، في 4 تشرين 1/أكتوبر. استنتج منه أن غيظ واشنطن لا بدّ صابٌّ في قناة ذهابه إلى الحلبة كي ينازل غريمه الأسد، الأمر الذي شجّعه على إعداد العدّة، وبأمل أنّ الغطاء الأميركي متاحٌ ميدانياً حين اللزوم. احتاج إعداده شرائط الحرب إلى قرابة الشهرين حتى شنّها، عملاً بقرار مجلس الأمن القومي التركي، أواخر تشرين 2/نوفمبر، والذي حدّد مستويين للتدخّل: بالواسطة أولاً، وبالمباشر إنْ لزِم.
في المناط الأوّل، سبقت المخابرات التركية قرار التدخّل، تعبيراً عن وافر يقينها بوشوكه عند أصحابه، عبر قيامها بأمرين:
1-نصبُ مدن خيام في الجنوب التركي، منذ نيسان/أبريل، سعياً لاجتذاب سكان الشمال السوري إليها.
2-تأسيس «الجيش الحرّ»، في 4 تموز/يوليو، من ضباط سوريين، انشقّوا إمّا للسخط أم بالغواية، أم بمزيج من الاثنين.
ثم كانت هناك زمر سلفية في الداخل السوري، ممن خرجت من المحابس، آخر أيار/مايو، في أول عفو واسعٍ كان لإردوغان كبير دورٍ في حضّ الأسد عليه. لم تنتظر تلك الزمر سوى بضعة أسابيع لتحمل السلاح الوافد إليها من شرق لبنان وشماله، بفضل الدور الوازن لـ«14 آذار» اللبناني، وحتى قبْل أن ينضمّ إليه الدوران الأثقل، عبر غرفة عمليات «موك» في مفرق الأردن، ونظيرتها «موم» في كلّس – تركيا، مع الخريف.
ثم لحظت المخابرات التركية اغتنام «دولة العراق الإسلامية» (داع) الفوضى الدابّة في سوريا وفرزَها مجاميع من عناصرها، بغلبةٍ سورية، لتُدخلها وتُرسي قاعدة عمليات لهم فيها لا تلبث أن تتّسع. ومن باب التخادم – بالسلب – نظرت بعين العطف إلى نشاطها، وكذا فعلت نظيرتها السعودية بعدها بحين. زاوجت المخابرات التركية عطفها ذاك بتواصلها مع «قاعدة» هندوكوش المركزية، بقيادة أيمن الظواهري، إرساءً لعلاقة علت على التخادم سوية، نسغها التنافع – بالإيجاب – والذي شمل استقدام ألوف من سلفيّي الشيشان وسينكيانغ، في مسعىً لإيذاء روسيا والصين، لدعمهما دمشق سياسياً، وابتغاء غواية واشنطن، وغضّها البصر عن طبيعتهم. فُتحت الحدود التركية على مصاريعها لكلّ من استهوته حملة الدعاية المحرّضة على دمشق، ومستتبعاتها من خدمات لوجستية، فقصَد «الشام» ميدان «جهاد»، تحت يافطة “جبهة النصرة”.
ومع الجهادية السلفية تلك، و«جيشٍ حرّ»، تركيّ الانقياد، ضمّ زمراً لا متناهية من سلفيين غير جهاديين، وعموم إسلاميين، لعبت المخابرات التركية على الوتر الإثني بأن حضّت تركمان سوريا على أداء يمين الولاء لها ببرهان الميدان. قبل ذاك، لم يكن قد سمع أحد بأن هناك «مسألة» تركمانية في البلاد.
عند مفصل 2011/2012، كان تقدير الإقليميين أن خير من فلّ حديد الجيش السوري جيشٌ سلفيٌّ مقاتل، حتى وإن اتّخذت شرائح منه لوناً جهادياً كونياً؛ فهي مخاطرةٌ محسوبة، أو هكذا كان الظنّ.
ليس هنا مجال التوسّع في سردية الحرب السورية، لكنّ إضاءةً على محطّات ثلاث نوعية للدور التركي فيها، تفي بغرض التبيين:
1-لقاء إردوغان وأوباما في البيت الأبيض، أواسط أيار/مايو 2013، والذي حفَل بمواجهة ساخنة مردّها إلى استياء المُضيف من شطط الاستخدام المفرط للجهادية السلفية في الصراع من قِبل الزائر. كان في الخلفية دخول «داع» بقضّها وقضيضها الميدان السوري، وتحوّلها، في نيسان/أبريل 2013، إلى «داعش»، بدعوى ريبتها من تتريك و«تقعيد» مُفرَزها «النصروي». تعهّد إردوغان بلجم الكائن العابر للحدود، فأطلق «ربعه» لينازل الوافد، عند مطلع 2014، وانتهى الأمر في ربيعه، وبعد مقتلة ألوف من الطرفين، بانزياح متبادل لهما، فانثالت «داعش» في أرجاء الشرق، مع جيوبٍ متناثرة غربَه، وتخندُق تُبّع الترك في الشمال والغرب.
الأمر الآخر الذي أغاظ أوباما، وقتها، كان إلحاح التركي على مشاركة الأميركي له ميدانياً في تنفيذ مقترحه بغزو أرضي، مسنود جوياً، للشمال السوري، وصولاً إلى حماة، تحت لافتة إقامة منطقة آمنة/منزوعة السلاح، من جهة أخرى. رفَض أوباما الدعوة، مكتفياً ببرنامج وكالة المخابرات المركزية الهادف إلى إسقاط النظام، والذي مضى على انطلاقته قرابة عام.
2-تلاقي إردوغان والملك سلمان، مطلع 2015، على جهد ميداني مشترك بغرض الإجهاز على النظام. إلى حينها، كان هناك من التدافع والتنافس بين الفصائل المرعيّة تركو-قطرياً، وتلك المحسوبة سعودو-إماراتو-أردنياً، ما وازى عداء كلٍّ من الطرفين للنظام، وعكَس بدوره صراع الأجندات البديلة لرعاتهم حول سوريا. ما جمع الشتيتين كان نجاح الجهد الإيراني، رافداً رئيساً للجيش وميليشياته، في درء تهديدٍ جدّي للنظام، على مدى عامي 2013 و 2014، برغم المديات الجغرافية التي وصلتها الفصائل المسلحة على نطاق الخريطة السورية خلالهما. وفعلاً، فقد استطاعت الهجمات المتعدّدة المحاور، ما بين مطلع الربيع وآخر الصيف، إيصال القوات السورية والحليفة إلى نقطة الخطر.
في تقدير موقف لي، تاريخه 29 أيار/مايو، كتبتُ أن الأشهر الثلاثة القادمة فاصلة؛ فإمّا أن تُرفد تلك القوات برافد جديد فارق، سيما جوّياً، وإلّا فالنظام آيل. دخل الدور الروسي على المشهد بعد برهة من مدى تصوّري الزمني، فأفشل المسعى التركي–السعودي.
3-تحوّلات الدور التركي، المتباينة والمتراكبة، ما بين محاولة الانقلاب العسكري على إردوغان، منتصف تموز/يوليو 2016، وتسوية «خفض التصعيد»، أواسط نيسان/أبريل 2018. فمنذ هزيمة قوات «داعش» أمام «وحدات حماية الشعب» (وحش) الكردستانية في عين العرب، في تشرين 1/أكتوبر 2014، وهمُّ إردوغان الأكبر بات نشوء كيان كردستاني انفصالي في الشرق السوري.
(كان اتّفاق إردوغان – أوجلان، في عام 2009، على تسوية كردية في تركيا قد صار في مهبّ الريح، وسبقه تخفّف الجيش السوري من أثقال حماية الشرق بغية التركيز على حماية مقتربات دمشق وتواصلها مع الشمال والساحل، ما صبّ في طاحونة “وحش”).
وعلى خلفية الانفراج، فالوفاق، الروسي – التركي، المعطوف على إنذار الاستخبار الروسي المبكّر لإردوغان عن التحرّك الانقلابي ضدّه، انضافت إليه، روسياً، جائزة وضع اليد على شريحة واسعة من أرياف الشمال السوري (عملية «درع الفرات» آخذةً مناطق الباب وجرابلس ومنبج وأعزاز) على طرفي الفرات، وذلك تلبيةً لعذر اتّقاء تركيا لشرّ «وحش» الكردستاني. دفع إردوغان، قبالة ذلك، تخلّيه عن الشطر الشرقي من مدينة حلب، في كانون 1/ ديسمبر 2016، وإنْ بعد نزالٍ حامي الوطيس بين مُواليه والجيش وحلفائه.
اهتبلت واشنطن فرصة النزال التركي – الكردستاني في الشمال كي تحتلّ ملتقى الحدود السورية – العراقية – الأردنية في «التنف» السورية، في آب/أغسطس 2016، معزِّزة بذلك جهدها الجوي، بعُمر العامين، فوق الشرق السوري، مستهدفةً به دولة «داعش» فيه. ثم مضت أبعد، ما بين خريف 2016 وصيف 2017، لتحتلّ مساحة شاسعة من الشرق السوري، متستّرةً بقوات «وحش» (الآن “قسد”). وعلى أنقاض تدمير شطر دولة «داعش» السوري بعد أن تمّ تدمير شطره العراقي ما بين خريف 2015 وربيع 2016.
تمثّل الوفاق الروسي – التركي، منذ «الدرع» وعلى مدار أعوامٍ سبعة بعده، في مسارين متوازييَن: «أستانة» للتفاوض السياسي، و«خفض التصعيد» للتعامل الميداني. لم يمنع ذلك الجيش وميليشياته الحليفة من محاولة إضعاف مُوالي الترك في «إدلب الكبرى» في معارك طاحنة دارت ما بين خريف 2017 وشتاء 2018، وأحرز فيها تقدّماً محدوداً. إبّان تلك الفترة، عاد إردوغان ليلحّ على بوتين كي يأذن له بإخراج «وحش» من جيب «عفرين» الناتئ، فأذِنَ، مطالع 2018 (عملية «غصن الزيتون»). قابل إردوغان ذلك، في نيسان/أبريل منه، بالانكفاء عن غوطة دمشق وعن جيوب في أرياف حمص وحماة، وذلك بشفط مُواليه إلى «إدلب الكبرى». وكما كان مطلع 2015 موعد بدء الهجوم الحاسم المشترك صار ربيع 2018 ميعاد ختامه، وبغير نجاح.
ولعامٍ ونصف عام لحق ترتيبات ربيع 2018، انتظر الأسد تقدّماً دعّم موقفه بمزيد، ولكن من دون طائل؛ لا بل ووجد إردوغان وقد انتفع من قرار دونالد ترامب، في تشرين 1/أكتوبر 2019، سحْب قواته من الشرق السوري، بل وبرغم تراجعه عنه تحت ضغط دولته «العميقة»، بأن تمدّدت قواته عمقاً وشرقاً عن خطوط «الدرع». دفع ذلك الأسد إلى محاولة كسر الجمود بالقوة، عند نهاية 2019، ونجحت قواته في استرداد بقعٍ كبيرة من أرياف حمص وحماة وإدلب، على مدار الشهرين الأوّلين من عام 2020، ما دفع إردوغان أن يأمر جيشه بالاشتباك المباشر مع نظيره السوري وحلفائه، نصرةً لمُواليه المتراجعين تحت النار.
تدخّل بوتين وعقد مع إردوغان، بموافقة الأسد، تسوية 5 آذار/مارس منه، والتي بموجبها ارتدّ الجانبان المتحاربان، بعمق 6 كم، عن طرفَيْ أوتوستراد اللاذقية – حلب – القامشلي، بغرض إفساح المجال لفتحه أمام حركة التنقّل والتبادل التجاري. والحال أن تلك التسوية، كسابقتها، تقوقعت في مكانها ولم يرَ إنفاذها النور، ولأعوام أربعة ونيّف إلى تاريخه.
ما الذي جعل الجمود على الموجود، سورياً، ديدن إردوغان؟
وهمُ أن الشمال السوري، رهينةً في يده، ورقةُ مقايضة غالية القيمة لقاء حصّة في الحكم السوري وازنة. وبقناعة أن حضن بيئة الشمال – بمواطنيه والمهاجرين إليه – دافئ بما مكّن من الركون إلى ولائه مستقبلاً، وأن إعادة الإعمار من نصيب تركيا في المقام الأول، وأن مكان مُواليه المسلحين – أو شطرٌ سمين منهم – في مستقرّ جيش نظامي سوري معدّل.
راحت الأوهام تتبخّر من أمامه مع إنشاب الأزمة الاقتصادية أظْفارها في الجسد التركي على مدار الأعوام الستّة الماضية، ولكن بالأخصّ منذ عام 2022. صارت أهزوجة «المهاجرين والأنصار» الخادعة مبعث سخط مجتمعي حادّ التعاظم بين الترك، ما كاد أن يهدّد حكمه ذاته، سيّما أن أعداد «المهاجرين» قد طفحت عن الخمسة ملايين (تحذف أنقرة من إحصاءاتها المعلنة مليونين منهم، كي لا يفور «الأنصار» إلى حدّ الغليان).
زاد الطين بِلّةً تنامي حجم ووزن الكيان الكردستاني، المرعيّ أميركياً، القائم على حدوده في الشرق السوري، وحرصُ الدولة الأميركية «العميقة» على حمايته وصدّ غائلة مستهدفيه بالتقويض. انضافت فوق كلّ ذلك الطبيعة الرثّة لصنوف مُواليه المسلحين في «إدلب الكبرى»، بما عنته من شجارات دموية، وفوضى تسيير، وتحيّن تمرّد على “النصير”.
طفح الكأس عند إردوغان، وما انفكّ طافحاً، لكن حاله كحال مَن احتاج إلى عون من صديق، هذا من جهة، ومَن خشي ممّن بمثابة «حليف»، من جهة أخرى. أمّا «الصديق» فقد توفّر منذ حين، أي روسيا، وباتت مهمّتها أيسر من ذي قبْل بفضل النكوص السعودي/الإماراتي عن تمويل «وحش / قسد»، كرمى لأنقرة وتسهيلاً لتسوية تركية – سورية، وكذا بفضل غياب الممانعة الإيرانية (ومنذ صيف 2022). وأمّا «الحليف»، أي الولايات المتحدة، فقد راوحت -وما فتئت- بين سخطها من أن العرّاب روسيّ ومن عسرة بلعها فشلها – وحلفاءها – في إسقاط النظام؛ وبين تقلّصات أوروبية متزايدة «تريد حلّاً» لمشكلة المهاجرين السوريين، الماكثين منهم والمحتملين، وفي أسرع وقت؛ ناهيك أن هناك تياراً عريضاً في السياسية الأميركية، يتوثّب للإمساك بمقاليدها، ممّن لا يرى في وجود قواته في سوريا سوى الهدر.
والحال أن اجتماع الإقليميين مع روسيا – وخلفها الصين، على رعاية انفراج، فوفاقٍ، تركي – سوري يلثم كثيراً من قدرة واشنطن على لجمه، سواءٌ أكان كردياً أم عداه.
طيب، ما أمسُّ ما احتاج إليه كلٌّ من إردوغان والأسد الآن؟ إنقاذ اقتصاديهما المتهاويَيْن؛ ما يعطي أولويةً لفتح الحدود والمعابر أمام حركة الترانزيت والتبادل بين الجانبين، شاملةً فتح أوتوستراد الشمال السوري العرضي. بالتوازي مع تلك الافتتاحية، يجري تعديل اتّفاق «أضنة» كي يزيد عمق «حق المطاردة الساخنة» للقوات التركية في الشمال السوري من 5 كم إلى 15 كم. وبالتوازي أيضاً، صدور عفو عام سوري طوى صفحة الماضي برمّته.
بتمام حزمة الخطوات هذه، تبدأ القوات التركية انسحابها من الأراضي السورية خلال أشهر قليلة، ضمنت بها وخلالها حظر انزياح أحدٍ من مكانه صوب تركيا، ونزع سلاح من لا ينصاع لقرارها بالتسوية، مع ترحيل «الجهاديين» منهم خارج سوريا. بالتزامن، ومع اجتماع أطراف التسوية على تقويض «وحش / قسد»، تسارع الأخيرة إلى اكتشاف أن لا مندوحة أمامها عن أن تفيء إلى كلمةٍ سواء مع المركز، سقفها الأعلى اعتماد اللغة الكردية لغة تعليم ثانية في مناطق الغالبية الكردية فقط. أمّا مبدأ اللامركزية الإدارية – وليس الحكم الذاتي – فهو من لزوم ما لزِم لكامل القطر، لا لبقعة بذاتها منه.
في الأوراق قمّة ثلاثية قريبة في موسكو؛ فهل نشهد، هذه المرّة، مشرق النور والعجائب؟
———————————————
تنويه: ينشر سيرجيل هذا النص بإذن خاص من المؤلف، وهو منشورعلى الصفحة الرسميّة للكاتب، كما في جريدة الأخبار اللبنانيّة في ثلاث حلقات متتابعة بتاريخ 12 و19 و26 تموز 2024.