استمعت منذ أيام لأحد الأصدقاء من أهم المحللين السياسيين المنتمين لحلف وفكر المقاومة، الأستاذ فيصل عبد الساتر، على قناة روسيا اليوم يتحدث بموضوعية لافتة عن “عدم رغبة إيران وحزب الله بالتَّورُّطِ في حرب شاملة”.
كان ذلك في معرض استضافته على الهواء خلال نشرة للأخبار تعليقاً على واقع الحرب المعلنة من قبل الكيان على قطاع غزَّة بشكل أساس، وعلى الضَّفة الغربيَّة بدرجة ثانية، لا يجب إهمالها أيضاً.
لقد كرر الأستاذ عبد الساتر الفكرة أكثر من مرة، وأكَّد أنَّه لا مصلحة في الانجرار لتوقيت ورغبة العدو في الحرب الشّاملة..
هذه الفكرة “عدم رغبة دول وقوى حلف المقاومة بالذَّهاب لحرب كبيرة مفتوحة” كانت من الأفكار المركزيَّة التي طرحها كاتب هذا المقال في أول مقال كتبه حول الحرب الحاليَّة، عقب اشتعالها وبخصوصها.
كان يومها أغلب الأصدقاء المحللين والكتاب مُتعجِّلين لإعلان “الحرب الشاملة أو”حرب التحرير” و”السيطرة على الجليل” .. الخ
ومن المفيد أن أقوم بالتَّذكير أيضاً بأنَّ أحد أهم المنابر الفكريَّة العربيَّة، رفض نشر مقالي ذلك، واعتبره المسؤولون يحمل “روحاً انهزاميَّة ما” وهم بذلك كانوا يعبرون عن صيغة أحادية في الرأي، تعتبر أن الحديث عن المخاطر هو أمر خَطِر، برغم أن المنهج العلمي الصَّحيح، يقول بأنَّ أهم طرق النَّجاح لا يكون بالتَّعمية على الأخطاء والمخاطر ونقاط الضَّعف، ولكن بالبحثِ فيها من أجل السَّعي لتصحيحها أو على الأقل لتفادي اتخاذ قرارات وخطوات لا تراعيها.
في المقابل صدرت تصريحات أميركيَّة خلال الأيام الماضية أيضاً ترحب أو تعلن “ارتياحها لتجنب سيناريو الحرب الشاملة”. طبعا الأميركيون اعتادوا على سياسة التصريحات المتضاربة والمتنوعة، والتي يستخدمونها على عدة مستويات، لجس نبض مختلف الأطراف مثلاً، أو للتلويح بالعصا والجزرة في آنٍ معاً.. إلخ. ولكنَّ سلوكهم عموماً فيما يخص الحرب الدائرة رحاها في الأراضي العربيَّة المحتلة، يوحي بميلهم التَّقليدي للحفاظ على الصراعات المتأزِّمة تحت عتبة الاشتعال الشّامل، أو ما يُعرف في السّياسة الدوليَّة باسم “البقاء في المنطقة الرماديَّة”.
يبدو أنَّنا أمام قراءات متباينة للمشهد، توحي بدرجة مُرجَّحة أنَّ الطَّرفين يحاولان تجنُّبَ الحرب الشّامِلة، وَلِكُلِّ طرفٍ أسبابه، برغم أنَّ الكيان هو الَّذي يقوم بالأعمال الأكثر دفعاً لهذهِ الحرب، ابتداءً من قصف المشفى المعمداني مساء يوم السابع عشر من تشرين الأول في الأيام الأولى للحرب، وتسبب باستشهاد نحو 500 شخص من المرضى والطواقم الطّبيَّة والسُّكان النّازحين إلى ساحة المشفى. مروراً بكلِّ الأعمال المُفرطة في وحشيَّتِها وفي غدرها أيضاً، فلقد عمِلَت قواته أكثر من مرَّة على قصف سكَّان نازحين في مناطِق كانت هي من أمرهم بالانتقال إليها بوصفها “مناطِق آمنة”.
ولكن ذلك لم يكن كلَّ شيء، فلقد استمرَّ الكيان في تصعيدهِ وصولاً إلى جرائم دوليَّة بالمعنى القانوني والدّيبلوماسي وضمن أطر “الأعراف الدوليَّة” كالاغتيالات في قلب دمشق وطهران وبيروت. ومع نهايات شهر آب 2024 بدأت قوات الاحتلال بعمليّات عسكريَّةٍ في الضفَّة الغربيَّة مشابهة بقسوتها لتلك الّتي يقوم بها في القطاع، أيضاً في تصعيد يعطي الانطباع بأنَّ الكيان يسعى لتفيذ مخطط إبادة وتهجير جماعي بعيد الأهداف، أو لنقُل بدِقَّة أنَّهُ يُحاوِلُ استكمال وَتَصعيد هذه السّياسة والمخطَّطات، الَّتي لم يتوقَّف عنها يوماً، والرّامية للقضاء على الوجود الفلسطيني في مجمل الأراضي الفلسطينيَّة.
يوم 31 آب وعلى تلفزيون روسيا اليوم، قال وزير الخارجيَّة الروسيَّة سيرغي لافروف ردّاً على سؤال حول احتمال نشوب حرب شامِلة “إنَّ الطَّرَف الوحيد الّذي يرغَبُ بهذا الاحتمال هو إسرائيل”.
إذاً يُمكِنُنا القول بأنَّ كل تلك الجرائم المروِّعَة وكأنَّها محاولات حثيثة من قبل حكومة الكيان لدفع حلف المقاومة للخروج من المنطقة الرَّماديَّة، التي لم تكُن هامش حركة الكيان خلال سنة من الحرب، فلقد تخطّاها مراراً وبإصرار على ما يبدو. كل ذلك يضع الصِّراع في موقع المراوَحَةِ على طريقٍ أفقُهُ مسدود أيضاً، وَكِلا طرفيّ المعركة يَقِفان وظهريهِما إلى الحائط، ما يعني بدِقَّةٍ أنَّ تراجع أيٍّ مِنهُما سَيُشكِّل هزيمةً استراتيجيَّةً كبيرة، وقد تكون نهائيَّةً تحديداً بالنِّسبة للكيان، فهو سيتعرَّضُ للتآكل بسرعة كبيرة لو أنَّه رَضَخَ وأوقف الحرب قبل تحقيق هدفه الحقيقي “القضاء على المقاومة” بينما ستبقى فرصُ الحياة والتَّعافي موجودة لدى الفلسطينيين، برغم فداحة الأثمان التي يتكبدونها يوميّاً، والّتي ستجعل من مسألة العودة للحياة فرصة مستقبليّة آجلةً ستتحقَّقُ بعد أجيال وليس على المدى القريب. من هنا تحديداً تبرزُ أهميَّةُ البحث بتأنٍّ في تفاصيل المشهد وتقييم تحوّلاته بعيداً عن الانفعال الشُّعوري تجاه قضيَّتِنا العادِلة، وأنا أقِرُّ هنا بأنَّ هذا أمر صعبٌ يحتاج رباطة جأشٍ وحكمة، خاصَّةً وأنَّ ذلك الكم من التحليلات الَّتي تحمل الآمال في طيَّاتها أكثر مما تقومُ بتشخيص الواقِع، هي في الحقيقة تُعَبِّرُ عن آليَّةٍ نفسيَّةٍ دفاعيَّةٍ، لا يصِحُّ شجبها بقدر ما يلزمُنا تفنيد أسبابِها ومعالجتِها، فالنَّاسُ تخشى الهزائم الكبرى ببساطة، فتهرُبُ مِنها بصناعة الأمل وتزيينِهِ أيضاً، لا بل ومُهاجَمَة من يحاول تصحيح الرُّؤية وتوضيح المخاطر، وهذا أمر علمي ومفهوم بالنِّسبةِ لي.
ماذا يحدث الآن؟!
يوم 3 أيلول الحالي 2024 أعلنت أجهزة الأمن الإسرائيليَّة نيَّتها إعلان الضفة الغربيَّة منطقة عمليات ثانية بعد القطاع، وفي نفس اليوم وليس من باب المفارقة بلغ عدد الشُّهداء في الضَّفَّة فقط 40 شهيداً.. إنَّ بن غفير وزير “الأمن القومي” في حكومة الكيان، أعلن قبل أيّام أيضاً بأنَّهُ على “الحكومة الإسرائيليَّة” أن “تُعلِنَ عن بناء مستوطنات في قطاع غزَّه”.
إنَّ ما يحدث على الأرض بمعنى استراتيجي خلال الاستمرار بهذا المستوى من المواجهة، هو عمليَّة سباق محموم لتجميع النّقاط الاستراتيجيَّة الأثر.. وهنا تحديداً علينا القراءة والتَّحليل لتشكيل فهم يقترب من الواقع حول السؤال الجَّوهري: تجميع النقاط بصالح من يسير؟!
على مستوى العدو:
مع استمرار الحرب وهي تَتَّخِذُ شكل “حرب الاستنزاف” تحديداً فيما يخص الكيان الصهيوني، الَّذي يبدو أنَّهُ يتعرَّضُ للاستنزاف على عدَّة أصعِدة كالتّالي:
- عسكرياً، وهذا لا يُعَوَّلُ عليهِ كثيراً، لأنَّ الكيان من هذهِ الزاوية ليس إلّا ذراعاً أميركياً، حظيّ وسيحظى بالدَّعم اللوجستي وحتّى البشري الّذي يحتاجه، طالما أنَّهُ يقوم بمهمَّتِهِ في الإقليم العربي.
- اقتصادياً، وهذا أيضاً يبدو أنَّهُ مستوى غير مؤثِّر، فالعلاقة العضويَّة الوظيفيَّة للكيان تجعل منهُ أداة لطالما عاشت على الدعم الغربي، ولا يبدو أنَّ تغيّراً ما سوف يطرأ على ذلك.
- الاستنزاف البشري والمعنوي، وهذا هو بيت القصيد، حيث لا يُمكن هزيمة هذا المشروع المسمّى “إسرائيل” إلّا من خلال هزيمة الكتلة البشريَّة الّتي يتكوَّنُ منها نفسيّاً بحيث تفقِد إيمانها فيه وبجدوى البقاء على الأرض الّتي يحتلُّها. أنا شخصيّاً أعتَقِدُ أنَّ القادة العرب الّذين واجهوا الكيان العبري على مر العقود الماضية من أواسط القرن العشري إلى اليوم، كانوا يضعون هذه الفكرة في عقولِهم، وكانت هي الَّتي تُحَرِّكُهُم، وأخصُّ بالذكر هنا تجربة سوريا ولبنان الّتي أدارت حرب استنزاف معنويَّة مستدامة معه، كانَت كفيلة بخلق جو مستمرٍّ من القلق الوجودي لدى أفرادِهِ ومؤسَّساتِهِ أيضاً.
لذلك لم نَجِد مثلاً المُقاوَمَة اللبنانيَّة تقوم بفتح جبهة مباشرة مع العدو بشكل واسِع ولا مرَّة خلال عقودٍ من العَمَل المقاوِم، تخلَّلها تحرير الجنوب اللّبناني عام 2000 عبر إنهاكه دون دفعِهِ للخروج من المنطقة الرّماديَّة، الأمر الّذي كان يجب استلهامُهُ في تجربة النِّضال التَّحرُّري الفلسطيني.
حتّى في عدوان 2006 على لبنان، لم تلجأ المقاومة برغم قدرتِها اللوجستيَّة على اقتحام بعض المناطق المُحتَلَّة في فلسطين أو لبنان، لأنَّها تَضَعُ نُصبَ أعينها السُّؤال المصيري الحاكم.. “ماذا عن اليوم التّالي؟!” فمن يملِكُ إجابةً واضحة على هذا السُّؤال، يستَطيعُ أن يُحسِنَ اختيار خطواتِهِ التَّصعيديَّة بناء على ذلك، ومن لا يملِكُ تلك الإجابة يُفتَرضُ به توخي الحذر قبل الاتيانِ بأيِّ خطواتٍ تصعيديَّةٍ قد تكون مُدَمِّرة.
على المستوى الفلسطيني:
يتم استنزاف المجتمع على مختلف الصُّعد في غزة، ويبدو أنَّ ذلك بدأ يحدُثُ في الضِّفَّةِ أيضاً. إنَّ هذا الاستنزاف هو مكمن الخطورة الّتي أستَقرِئها هنا.. فهل سَتَستَمِرُّ الحرب حتّى القضاء على كامل المجتمع الفلسطيني هناك؟! هذهِ ليست هواجساً ومخاوفاً بعيدةً عن الواقع، ومثال القضاء على الهنود الحمر ماثل أمامنا، وليس من مفارقة أن المجرم نفسه، وهو عدو الإنسانية جمعاء.
أعتَقِدُ أنَّ أيَّ قراءة لا تنظُرُ في هذهِ الأعماق والزَّوايا، لن تكونَ واقعيَّةً برغم كل الألم الّذي يقطُرُ مع الحبر الّذي يكتبُ هذهِ الأسطر، وبرُغمِ الميل الجماعيِّ لدى جماعة من المُحَلِّلين والمُتَحَدِّثين في الشَّأن السّياسي والقومي للنأي بوعيِهم عن مواجَهَةِ هذه المخاطِرِ إلى التَّنَكُّرِ لها، لا بل وإلى مهاجمة من ينبِّهُ لها، وكأنَّ المَعركَة سوف تُحسَمُ بسبب جرس الإنذار، وليس بسبب خطأ القرار.
اقرأ في الموضوع نفسه: اللوح السادس: حربٌ أخيرةٌ فاصلة…مَن يريدها؟