في عام 1789 وعندما انتَفَضَ بعض الفرنسيين ونزلوا إلى الشَّوارِعِ استجابةً لِلنِّداءِ الثَّوريِّ الَّذي أطلَقَتهُ مجموعةٌ من المُنَظِّرينَ الثَّورييـن أمثال (جان بول مارا) و(ماكسميليان روبيسبيـر) مَدفوعين بانكِسارِ العلاقَـةِ مَعَ (لويس السّادِس عَشَر) أو مع الطَّبقة الحاكِمَة الَّتي كان الملك الفرنسيُّ يُمَثِّلُها أو يُعَبِّر عَن مصالِحِها، لم يَكُن ثَمَّةَ واحِدٌ منهُم ربَّما، يُدرِكُ أو يَتَوَقَّعُ في أيِّ اتِّجاهٍ كانت تسيرُ تلكَ العربةُ المُندَفِعَةُ بقوَّةٍ، بصِفَتِها “ثورة شعبيَّةٌ” سوى تلكَ التَّصوراتُ عن “فرنسا أفضل” الّتي كانَت تَتلألأ في مُخيِّلةِ العقل الجماعي، مع فائضٍ من الحقدِ الطَّبَقي.
عندما نعودُ بالقراءة بأسلوبٍ راجِعٍ اليوم، مُتَسلِّحين بالمعرفة ودراسة التَّاريخ ومَحَطّاتِهِ المُشابِهة، والتي سأمرُّ على بعضها هنا، نستَطيعُ القول بأنَّ ذلِكَ الحِقد وحدَهُ كانَ سبَباً وجيهاً وبنيويّاً لعدم إنجاز شيء ما أفضَل بالمُحَصِّلة وليس في التَّفصيل، لأنَّهُ وكما قال الراحل حسنين هيكل:
“التَّاريخ يؤخَذُ بالظَّواهِرِ وليس بالأحداث”
فإنَّنا لتقييم فترة ما أو سياسة ما، لا بُدَّ لنا من النَّظَرِ إليها وفق نتائجها عامَّةً، مع مراعاة الظُّروف الموضوعيَّة الّتي مَرَّت بها، ضمن قراءة ما كانَ يُفتَرَضُ بها أن تكون أو ما خُطِّطَ لها لكي تكون، فدون النّظر وفق هذه الرؤية ثلاثيَّة الأبعاد، سيكون أيُّ رأيٍ ضالٍّ بمثابة الحكم الجائر ليس إلّا.
في كتابه “تأثير القوة البحريَّة على الثَّورة والإمبراطوريَّة الفرنسـيَّة” يقول الجيوسياسي الأميركي الكبير (ألفريد ماهان):
“بغض النَّظَر عن الحجم الدَّقيق لخسائر الفرنسيين، فإنَّها تتمَيَّزُ بوضوح في التَّصريح الذي أدلت به الإدارة في عام 1799 (بعد عقد من اندلاع الثورة) المُتَضَمِّن حقيقة غير مسبوقة حتى الآن، وهي أنَّهُ “لا توجد سفينة تجاريَّة واحِدة في البحار تبحر تحت العلم الفرنسي” وهذا التَّصريح لم يكُن بأيِّ حالٍ من الأحوال مجرَّدَ تعبير مجازي لتعزيز الانطباع، وإنَّما كان شهادةً عن الحقيقة”
أعتَقِدُ أنَّ المعنى الكامن خلف هذهِ العبارات واضحٌ جدّاً، ولكِنَّني أحاوِلُ هنا بناء فكرة منهجيَّة علميَّة عن حقائق التّاريخ، لذلك سأقوم بدعم واستكمال الفكرة بإحاطة متنوِّعة الزَّوايا والمصادِر، ففي نفس السّياق يقول الجيوسياسي الروسي (نيكولاي ستاريكوف) في كتابِهِ “الجيوسياسية، كيف تُصنَع؟!” وعند تطرُّقِهِ لمجريات الثَّورة الفرنسيَّة:
“لذلِكَ ليسَ من المُستَغرب أنَّ الثُّوار الذين استولوا على السُّلطة في فرنسا بعد ثورة 1789 بدأوا بنفس السُّرعة في تدمير أسطولهم والقضاء على ضباط البحريَّة.. ونتيجة لذلك هزَمَ الثّوّار كل ممالِك الأرض الأوروبيَّة، وأضروا بها وأضعفوا قوَّتها، دون التَّسَبُّب في أي ضرر لمصالِح بريطانيا العُظمى”
هنا نبدأ بالفهم أكثر ليس عن الأسباب المباشرة، ولكن عن اليد الخلفيَّة المُحَرِّكة للأحداث، حيث دأبت بريطانيا على دفع ودعم حركات التَّمرُّد حول العالم، ولم توفِّر جارَتها الأقرب لها فرنسا، لا بل إنَّها كانت أول الأهداف في مرمى تسجيل الامبراطوريَّة البحريَّة الأكثر عراقة وتخطيطاً لاجتياح العالم والسَّيطرة عليه. لقد اندَفَعَ البحارة الفرنسيون الثائرون بشهيَّةٍ مُريبة لقتل ضباط البحريَّة الفرنسيّة، وصنَّاع السفن، وإنَّهُ من نافِلِ القول الحديث عن الدور المحوري للأساطيل البحريَّة، في تحديد قوَّة هذهِ الدولة أو تلك، وهو أمر ما يزالُ مُستَمِرّاً حتّى اليوم. هذا الدور في إضعاف الجيوش هو ما يُفَسِّر ذلك التَّوَجُّه البريطاني لدعم الثّوّار هنا وهناك، والتّمادي في اعتبارِهِم “ثوار من أجل الحريَّة”
يُتابِع الكاتب الرّوسي في مقطع آخر من كتابِهِ ليقول:
“الثّورة لا تحتاجُ لضباط بحريّة، الثَّورة لا تحتاجُ إلى عُلماء. إذا كانت العبارة الأولى لمؤلِّفِ هذا الكتاب، فإنَّ الثّانية هي تاريخيَّة.. هكذا قال القاضي عندما أرسَلَ العالم الفرنسي العظيم لافوازييه إلى المِقصَلَة.. لقد كانَ على الثّوار القيام بما عَجِزَ عنهُ خصومُ فرنسا لعدَّةِ قرون: تدمير نُخبَةُ البلاد، ليس العسكريًّةِ فقط، بل العلميَّةِ أيضا”
فهل كانَت الثورة الفرنسيَّة حالةً خاصَّة في حركة التّاريخ؟! أم يمكِنُنا قراءة نماذج أخرى مشابهة، ويبدو أنَّها كانت كذلك حتَى التَّطابُق!!
في نفس الكتاب يُكمِل الكاتب الرّوسي حديثه وصولاً إلى الثَّورة الروسيَّة، في مُقاربةٍ مُفجِعة بمعانيها الوطنيَّةِ لكُلِّ بَلَدٍ اجتاحَتهُ ثورة عبر التاريخ، وأنا واثِقٌ من أنَّ كل مواطن سوري يتَحَسَّسُ رأسهُ حَسرةً وهو يقرأ هذهِ السُّطور.. يقول نيكولاي:
“خلال أعمال الشَّغب الّتي اجتاحَت عاصمة روسيا في الحرب العالميَّةِ الأولى، ووفقاً للإحصاءات الرَّسميَّة… تَمَكَّنَ الإرهابُ الموجَّهُ في الأيام الأولى من المسِّ بضباط البحريَّة فَقَط.. لم يكُن هناكَ شيءٌ واضِحٌ، وقبل حتّى أن يَتَخلّى القيصر عن العرش، فجأةً قرَّر البحارةُ قتلَ ضباط البحريَّة”
“عندَ تحليل المواد التّاريخيَّة، ترى أنَّ الثَّوريين الّذين تفصِلُ بينَهُم قرون كامِلة، يقومون بأعمالٍ مُتماثِلة بِشَكلٍ مُثير لِلدَّهشة، وتتمثَّلُ إحدى أهمِّ مهامِهِم الرَّئيسة في تدمير سريعٍ وفعّالٍ لأسطول بلادِهِم.. الأمر المُذهِل أنَّ البريطانيين الّذين يُحاوِلونَ مُساعدة الثّوّار يفعلون نفس الشَّيء”
إذاً فالبريطانيون موجودون دائماً وعبر القرون الأخيرة لدعم الثُّوار، ورُبَّما لتوجيهَهُم ودفعَهُم، كما هو واضِحٌ من خلال الاستشهادات التَّاريخيَّة الّتي أوردُها هنا.
تُشير الأرقام أنَّهُ وبعد نحو مئة وخمسين عام من أحداث الثورة الفرنسيَّة المؤلِمة، كانت فرنسا ما تزال تناضِل لاستعادَةِ توازن القوَّة البحريَّة أمام بريطانيا، ففي أواسِط سنة 1939 مع بدء الحرب العالميَّة الثَّانية، كانت فرنسا مثلاً تملك حامِلَة طائرات واحدة، مقابل 7 لبريطانيا، و19 طرّاداً مقابل 64 لبريطانيا، و59 مُدَمِّرة مقابل 183 مدمرة إنكليزيَّة. هكذا إذاً احتاجت فرنسا لأكثر من قرنين وهي تحاوِلُ استيعاب الأثر المُدمِّر لثورَتِها، ويبدو أنَّها فَشِلَت لدَرَجَةٍ مَكَّنَت ألمانيا من اجتياحها خلال أسابيع. أحِبُّ أن أسجِّلَ شهادة حَيَّةً للبروفيسور في جامعة تشيفيلد (هيدلي تشاربلز) والذي توفي من سنوات، وكنتُ قابلته عدَّة مرات خلال العقدين، الأخير من القرن العشرين والأول من القرن الحادي والعشرين، وخلال نقاشات طويلة دارَت بيننا حول الأوضاع السّياسيَّة العالميَّة، وخاصَّةً فيما يتَعَلَّق بدور بريطانيا فيها، قال لي:
“نحن لم نَتَغَلَّب على فرنسا ونسبقها تماماً، إلّا عندمـا حدَثَت الثَّورة الفرنسيَّة” ثمَّ تابع بفخر.. “نحنُ البريطانيون ليس لدينا ثورة، نحن لدينا تطوُّر مُتراكم”
خلال اندلاع أعمال الثَّورة السّوريَّة مطلَع العام 2011 كان واضِحاً ذلك التَّوجُّه المرَكَّز للمجموعات الثوريَّة المُسلَّحة للهجوم على وحدات ونقاط الجيش السُّوريّ، إضافةً لتلك المُحاولات المُستميتة لقطع الطرق وإغلاق الجامعات، وضرب البنى التحتيّة وخاصَّة الّتي تَتَعلَّقُ بإنتاج الطاقة الكهربائيَّة ونقلها وتحويلها، مع تركيز كبير على السكك الحديديَّة.
في مساء يوم الأحد الحادي عشر من نيسان (الشهر الرابع من ذلك العام 2011 بعد أقل من شهر على انطلاق الثورة) تَعَرَّضَت مجموعة من ضباط وعناصر الجيش العربي السّوري، لكمينٍ نَصبَتهُ مجموعة مُسَلَّحة استَهدَفَتهُم خلال مرورهِم الاعتيادي بحافِلة مَبيت على طريق طرطوس اللاذقيَّة، أسفَرَ عن استشهاد ضابطين وثمانية عناصر، وجرح 15 آخرين.
لم يكُن ذلك كلُّ شيء فاستهداف الكوادِر البشريَّة، وخاصَّةً الكفؤة العاملة في مجالات التَّصنيع العسكري، كانَ ديدَن الثُّوار، ففي ليل يوم السَّبت الرّابع من آب (الشهر الثامن) 2018 تم اغتيال اللواء الدكتور (عزيز اسبر) مدير مركز البحوث العلميَّة في مصياف، عبر تفجير سيَّارتِهِ. مركز البحوث هذا كانت استَهدَفَتهُ غارة إسرائيليَّة في أيلول 2017 وكانت آخر غارة عليه في أيلول 2024.
شكَّلَ كلُّ ذلك وصمة تلك الأحداث الدّامية التي عصفت بسوريا، ودأبَت على تدميرها بشكلٍ مُمَنهَجٍ لأكثر من عقدٍ من الزَّمَن. إنَّ إضعاف الدولة السّوريَّة كوطن وكمركز ثقل جيوسياسيٍّ كان هدفاً لا يَصعُبُ استنتاجُهُ على عاقِلٍ، وهو ما وضَعها في النِّهايَةِ في حيِّزٍ جُغرافيٍّ ضيِّقٍ قلَّصَ من قدراتِها الاستراتيجيَّةِ على مواجهة عدوِّها وعدو المِنطَقة الكيان الإسرائيلي.
إنَّ الثَّورة في الشَّارِع كعملٍ يقوم بناءً على اندفاع مجموعة من المواطنين إلى الشّارِع، هي بنيَويّاً تسير في خط إثارة التَّمرُّد والفوضى، لأنَّ ذلك هو طريقة عَمَلِها وهدَفها أيضاً، وتالياً هي تَقومُ وبصورة مَنهَجيَّة بإغراء شهيَّةِ الأطراف الدَّوليَّة والمحليَّة للتَّدّخُّلِ والعملِ على استِخدامِها لتحقيق أغراضٍ لا علاقة لها بمَصلحَةِ الشَّعب الّذي خَرَجت منه. هذا إذا لم تَكُن هي بالأساس استِجابة لتلكَ الأغراض.
بالعودَةِ لكتاب “الجيوسياسية كيف تُصنَع؟!” نجِدُ المُنظِّر الرُّوسي ستاريكوف، والّذي استشهدتُ به في أكثر من موضعٍ هنا يقول:
“يتبيَّنُ أنَّ الثَّورة بالنِّسبَةِ لبَلَدٍ ما هي مأساةٌ يموتُ فيها النّاس، وبالنِّسبَةِ لأعدائِها فهي شراء الأدمِغَة والأقاليم وتحقيق الإنجازات”
هذا المقال يوضح معنى “ثورة” بدقة شديدة
أحسنت