(هذا النصّ، بالأصل، محاضرة ألقيتها، في 11 آب 2006، على مدرّج دير القديس بطرس، مرمريتا، سورية. وأنشره الآن، بعد تصريحات بنيامين نتنياهو بأنَّ إسرائيل تتجه لإنتاج “شرق أوسط جديد”. مضمون النصّ يحمل مسوّغات نشره الآن، مسوّغات تبدو راهنيّة على نحو تام).
مضى أكثر من قرن على قيام جنرال إنكليزي بإطلاق أكثر الأسماء التباساً في قاموس الجغرافيا السياسيّة والذي يحمل في ذاته ـ وقد حمل ـ خلال عمره المديد هذا طاقة على استيلاد المزيد من الالتباسات المرافقة له، والتي تبدو كـ«تجاعيد وجه» الإنسان الهرم المتقدم نحو الشيخوخة فيبدو مغايراً لـ«شبابه»، ولكن «أصحاب المُلك» لا يأبهون للعمر وتجاعيد الزمن، طالما، أن مشارط الجراحة الجيوسياسيّة المُوضّبة في مراكز الأبحاث الاستراتيجيّة حسب الوصفات المسبقة جاهزة للعمل عند الضرورة، وعلى نحو إسعافي أيضاً عندما تختنق «المصالح الكبرى» فلا يكون لها من أكسجين محيي سوى في ذلك الجرح الذي يمكن فتحه دائماً وأبداً في المنطقة ذاتها، الموجودة والمستحيلة في آن، تلك التي أطلق عليها الجنرال اسماً يليق بابن الإمبراطوريّة ولغتها وتقاليدها في التفخيم الخطابي «الشرق الأوسط». وإذا كان «الالتباس» هو الصناعة السياسيّة المميزة للتقاليد الإنكليزيّة، كونها تنتمي إلى إمبراطوريّة لم ولا تهتم أو تتفاخر بامتلاك عقيدة أخلاقيّة، ولا تطمح إلى ذلك، بعكس الإمبراطوريّة الفرنسيّة، أو حتى الرومانيّة الأقدم في التاريخ، وخصوصاً بعكس الإمبراطوريّة الأميركيّة الراهنة التي تواظب على التباهي بـ«عقيدتها الأخلاقيّة» المسيّرة لـ«حركتها واتجاهها»؟!… إذا كان هذا «الالتباس» هو تلك الحِرفة الإنكليزيّة بذاتها، فإنه بالتأكيد لم يتم اعتماده لإطلاق «الشرق الأوسط» من قبل جنرال في البحريّة لتوضيح ما ذهب إليه تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونيّة في المؤتمر الصهيوني الأول 1897 الذي وضع على الورق تخيّلاً لـ«كومنولث الشرق الأوسط»، بل إن الاسم جاء كـ«تعبير» أو «صياغة إستراتيجيّة» موازية للأدبيّات الخاصة بما كان يسمى «المسألة الشرقيّة». وهو في الحالات كلّها يعتبر وعياً استباقيّاً ملحوظاً في الإستراتيجيّة البريطانيّة متقدماً على منافسه المباشر آنذاك «الفرنسي» فيما يمكن أن تؤول إليه «المسألة الشرقيّة» عندما يتم إحالتها من الخطب والتصورات والأفكار والرؤى إلى الجغرافيا، بل إلى الجغرافيا السياسيّة خصوصاً.
وعلى ذلك، ومع التطورات الناشئة في الإمبراطوريّة العثمانيّة، وخصوصاً بعد استلام جمعية الاتحاد والترقّي سدّة السلطنة، في العام 1908، بدا «الشرق الأوسط» التعبير المسبق متجهاً للـ«توضّع» في إطار جغرافيا سياسيّة سيبدأ تكوينها مع بداية الحرب العالمية الأولى 1914، وسيكتمل تشكيلها في العام 1922 مع إقرار آخر الاتفاقيات والمعاهدات الثنائية أو التدابير والقرارات التي أصدرتها عصبة الأمم بشأنها، وهو العام نفسه الذي شيعت فيه اسطنبول نعش السلطنة العثمانية محمولاً إلى مثواه الأخير على كتفي أبي تركيا الحديثة العلماني مصطفى كمال أتاتورك.
هنا، في هذا الحقل الزمني، ولد «الشرق الأوسط» ولكن يمكن الزعم، بأنه وبعد تسعين عاماً على ولادته، لا يزال محكوماً بتلك «الاستحالة» التي تمنعه من الانتصاب على رجليه كـ «رجل معافى» خالص التشكيل، مكتمل الملامح، وتبقيه بالمقابل «طفلاً» قابلاً للتشكّل حسب رغبة «الأم» أو «المربّي» الذي ورث، تلك العادة المقيتة التي اعتبرتنا «تركة مشاع» من تركات الرجل المريض.. ولا بدّ من «وريث» لهذه «التركة» يأخذها من أيدي السلطان العثماني الآيل إلى النهاية. يجب الانتباه، هنا، أننا وفق هذه «العادة» لا نُعتبر شيئاً بذاتنا، بل نحن «شيء» مرتبط مع «ذات أخرى» هي المكتملة بنفسها وليس نحن!
آنذاك، في العام1914، وما بعده، كان الصوت الفرنسي عالياً، بالمطالبة بـ«الحقوق التاريخيّة في سورية»، وهو ادّعاء عقائدي صاخب، لم يكن يعي «الفلسفة الإنكليزيّة الملتبسة»، التي بالمقابل لم تدّع – بالصوت العالي – بأنَّ لها أيّة حقوق في سورية أو في غيرها. ولكن «الإنكليز» الذين نحتوا «الشرق الأوسط» كتعبير قبل عشر سنوات، كانوا قادرين على وعي «تأسيس جغرافيته السياسيّة» أكثر بكثير من الفرنسيين المغالين بالخلفيات التاريخيّة العقائديّة الواصلة إلى [الحقبة الصليبيّة] والمقصّرين بالرؤى الإستراتيجية، في الوقت نفسه. وهكذا، بدا العمل السياسي في «المسألة الشرقيّة» آنذاك، عملاً تجريبيّاً مفتوحاً، وسيظل إلى الآن كذلك. وقد طوّب الإنكليز أنفسهم كمعلّمين لهذا العمل، فهم في آن واحد [حلفاء فرنسا وأعداؤها، وعرّابو الصهاينة في فلسطين، والأوصياء الغامضون على القومية العربية في دمشق، حماة الأكراد في ميزوبوتاميا أو مرتّلو المطالب اليونانية في آسيا الوسطى – نادين بيكودو ـ عشر سنوات هزّت الشرق الأوسط ـ ترجمة عبد الهادي عباس ـ دار الأنصار دمشق 1996 ـ ص17].
وإذا كان «التجريب السياسي» هو أحد امتدادات «المنهج الإنكليزي»، فذلك لاعتبارات تتعلّق أولاً وأخيراً باعتبار «الشرق الأوسط» جغرافيا سياسيّة غير قابلة للتشكيل النهائي، أو هي جغرافيا مفتوحة، ولا يأتي وصفها على هذا النحو في ذلك الغموض الذي يسم حدودها، حيث تمتد تارة إلى باكستان وشمال إفريقيا، وتارة تقتصر على سورية الطبيعيّة ومصر وصولاً إلى الجزيرة العربيّة، بل وأيضاً وعلى نحو أساسي من تلك النظرة إلى «أهلها» باعتبارهم «جماعات» قابلة للتكّبير والتصّغير وللتنسّيب الأقلوي أو الأكثري حسب الحاجة والمصالح التي ارتبطت بعنوانين أساسيين سيتعاظم أمرهما مع تقدم الزمن خلال قرن: إسرائيل والنفط. وهكذا يمكن وصف السكان بكونهم: «سوريون» ثم «عرب»، كما يمكن تقسيمهم إلى ملل ومذاهب، ومن ثم توزيعهم على دول، وذلك وفق الاتجاهات المصلحيّة المحدّدة بالعنوانين السابقين. على أنَّ «التجريب السياسي» في هذه «الجغرافيا المفتوحة» عمداً وقصداً، أدى إلى تلك «الاستحالة المطلقة» التي جاءت كنتيجة مباشرة لقانون الحذف والإضافة الذي اعتمدته الإستراتيجيّة الإنكليزيّة أولاً، وتم العمل به لاحقاً، من قبل من تولّى مسؤوليّة المحافظة على «الشرق الأوسط» [يبتدئ قانون الحذف والإضافة، في أوضح مثال له، في تلك المنطقة المركزيّة من «الشرق الأوسط»، التي تم رسمها في اتفاقية سايكس ـ بيكو 1916، وجاءت وفق الصناعة الإنكليزيّة الملتبسة، بذلك «اللون الأسمر» الحائر والقابل لامتصاص أكثر عمليات «التجريب السياسي» في التاريخ، وهي «عمليات» ستتجاوز ذاتها تباعاً لتمسي انقلاباً كاملاً في شكل ومضمون الجغرافيا السياسيّة يوازي على نحو ما «الانقلاب الأوروبي» في القارة الجديدة، الذي دفن تحت الأرض جثث الهنود الحمر وتاريخهم وثقافتهم، وأسّس أميركا الظافرة والمتباهية بميثاق آبائها المؤسّسين].
تحت سماكة النسيج الأسمر، دخل الإنكليز إلى فلسطين كمعلّمين كبار حاذقين يرعون «المشروع العربي» المبتذل والمختصر بمكافأة الشريف حسين وأولاده، كما يوفّرون الظروف المثاليّة، التي جعلت «المشروع الصهيوني» قابلاً للتأسيس والامتداد كـ«إضافة خاصة واستثنائية» في الجغرافيا السياسيّة، التي بمقابل ذلك ستشهد «حذفاً استثنائياً» ليس لدولة فلسطينيّة محتملة، بل لـ«بلاد ومدن وقرى ودساكر» وصولاً إلى استهداف «حذف الشعب» أو «حذف الناس» من مكانهم وتوضّعهم التاريخي وحشرهم في «مخيمات» في «الجوار» بما يحيلهم إلى «إضافة إشكالية»، ستزداد حدّة وباضطراد، عندما سيتحوّل هذا «الجوار» إلى دول وكيانات، وسيكون من شأن ذلك كله وضع أهم علامة في المستحيل الذي هو مصير «الشرق الأوسط».
على أن الصناعة الإنكليزيّة لم تكتف ـ وقتها ـ بإنتاج ذلك «الثوب الأسمر»، لتأخذ أو (تختطف) [جغرافيا] هي من [حصة فرنسا التاريخية]، بل عمدت إلى الدخول إلى مركز «الحق التاريخي الفرنسي في سورية» ولكن تحت [عباءة عربيّة] لا يعبّر عنها رمزيّاً [لورنس العرب]، بل أولاد الحسين فيصل وعلي وعبد الله القادمون لحكم بلاد الشام يقودهم الجنرال الإنكليزي اللنبي، الذي تقدّمهم عام 1918 عندما دخلت جيوش الثورة العربية «يا للمفارقة» القدس فكانت طليعتها إنكليزيّة وخططها إنكليزيّة ولكن مرتزقتها السياسيين كانوا «عرب» فيما السوريون كانوا «الثوار» الشهداء حينها، ومن سيستشهد منهم بعدها على مدى قرن أو أقل بقليل.
إنَّ ما أُطلق عليه مراسلات «حسين ـ مكماهون» وغيرها من اتصالات لم تكن سوى «الدرب الملتبس» الذي سلكته الاستراتيجيّة البريطانيّة نحو [المناطق الفرنسيّة في سورية] وهو درب وإن أدى إلى إلحاق خسائر جسيمة بالإستراتيجيّة الفرنسيّة، إلّا أنَّ الخسارة الكبرى، والتي ستؤكد نفسها دائماً وعلى مدى أقل من قرن لحقت بـ«سورية»، وذلك عندما تم ضرب «الخط التصاعدي للقوى السياسيّة فيها» ووضع سقف لـ«فاعليتها» لا يجب ولا يجوز ولا يمكن لها أن تتجاوزه. وهو نتج أساساً من تسليم الفاعليّة السوريّة العامة لمجتمعها، وتفاعلات قواها السياسيّة و«الثوريّة» إلى «الأمراء العرب» الذين هم في خانة «الاستثمار السياسي» الإنكليزي آنذاك. ومن وقتها وإلى هذا التاريخ سيختص السوريون بأعمال «المقاومة» فيما سيفتقدون للقيادة السياسيّة الموازية لهذه الأعمال، والتي سيتولى «العرب» زمامها بالدرجة الأولى، بما يعتبر إلحاقاً للمسألة السورية بالمسألة العربية من طريق الإستراتيجية الإنكليزية. وبهذا «الإلحاق» تم سلب «الجغرافيا السياسيّة السوريّة» معناها ومركزيتها، وأصبحت جاهزة للتقسيم لتتوضع دولاً وكيانات، إلى جانب ثلاث كتل كبرى (مصر ـ تركيا ـ إيران)، وهذه الكيانات قابلة بدورها للتصاغر وفق السلاسل الطائفيّة، أو الاثنيّة، وترتيب أنظمتها السياسيّة وفق مبدأ الأكثريات ـ الأقليات. ولكن دائماً وأبداً وفق مقتضيات العاملين المضافين على الجغرافيا السياسيّة: «إسرائيل» العامل السياسي التجريبي المصنوع والمركّب، والنفط العامل الطبيعي العابر لقواعد الجغرافيا ومحدوديتها!
بعد اكتمال تأسيس مركزه كما يجب، وتعاظم أمر عامليه، المضافين: إسرائيل والنفط، عبر «الشرق الأوسط» حقبة النظام الثنائي القطبي، محافظاً على روحه التأسيسيّة، وعلى التباسه على نحو خاص، وهو في الحالات كلّها لم يتمدد أبعد من إيران شرقاً ـ ومصر غرباً، فيما ظلّت سورية الطبيعيّة مركزه دون منازع. بالمعنى القاموسي، بدا تعبير «الشرق الأوسط» خلال هذه الحقبة أميناً للروح الإنكليزيّة في صياغتها لتعبير موازٍ لجغرافيا سياسيّة مفتوحة. ولم يتجرأ أي استراتيجي أو سياسي أو مفكّر، حتى الأميركي برنارد لويس الذي وضع تصوّراً أو مشروعاً للتعاون في الشرق الأوسط عام 1979، متأثراً باتفاقية كامب ـ ديفيد ومناخها، ومستكملاً مشروعه هذا خريف عام 1992 بمخطط متكامل حول كيفية دمج إسرائيل فيه، لم يتجرأ لا هو ولا غيره على إجراء تعديل يذكر أو إضافة خاصة وحاسمة، إلى الوقت الذي حدث فيه ذلك في تشرين الثاني عام 1992 عندما شرح شمعون بيريز رؤيته لشرق أوسط «جديد»، ثم صاغ هذه الرؤية على نحو نهائي عام 1993 في كتاب جاء بعنوان: الشرق الأوسط الجديد.
مع مشروع برنارد لويس وكتاب شمعون بيريز، بدأت الروح الأميركية المشبعة بـ «النَفَس الإسرائيلي» تطغى على نحو واضح على «الشرق الأوسط» وليتراجع بالمقابل الالتباس الإنكليزي العريق. فما تجنّبه الإنكليز وصمد طوال ثلاثة أرباع القرن، وقع فريسة مراكز الأبحاث الأميركيّة، وخصوصاً مع حرب الخليج الثانية 1991، وانعقاد مؤتمر مدريد للسلام، ثم الوصول إلى اتفاقات أوسلو 1993، واتفاقيّة وادي عربه حيث اجتهدت الدوائر البحثية في وصف الشرق الأوسط «الجديد» ببيانات تفصيلية ومتوالية عنه، يُشاهد فيه متمركزاً «المصرف الإقليمي للتنمية» الذي سيتولى إقامة وتمويل مشاريع الطرق، والكهرباء، والمياه، والإسكان والسياحة، والتعليم العالي، والطيران، والمرافئ، والبيئة.
رافق ذلك عقد مؤتمرات اقتصادية شديدة الادعاء في الدار البيضاء أولاً، وفي عمان ثانياً، وفي القاهرة ثالثاً، وفي الدوحة رابعاً.. وبدا «الغموض الإنكليزي» الذي رافق «الشرق الأوسط» مقيتاً شديد الكآبة أمام «الوضوح الأميركي – الإسرائيلي» الذي أزاح الستارة السميكة عن فيلم «الشرق الأوسط الجديد»، والذي لم يستمر عرضه إلّا بضعة مؤتمرات إقليمية، وبضعة محاضرات تشويقية، فانتزية، غير مقنعة، لتسدل الستارة عليه مجدداً أو وابتداء مع غياب شمعون بيريز عن السلطة في العام 1996، وتعثّر تنفيذ اتفاقيّات أوسلو، وازدياد حدّة وضراوة المقاومة في لبنان للاحتلال الإسرائيلي، وبرودة الإدارة الديمقراطيّة الأميركيّة تجاه إجراءات تغيير حاسمة على ما تفترضه «ستاتيكو سياسي» مناسب جداً لها، لا يلزمها بإنتاج أية رؤية مخالفة لعقلانية ناجزة..
غير أن هذه «الرؤية» هي بالضبط ما كان يعمل على وضعها على نحو سيؤدي إلى انقلاب عالمي حاسم، مجموعة رجال آثروا أن يطلقوا على أنفسهم، أو أُطلق عليهم ذلك الاسم الذي سيتكرر أحياناً، على مدار الساعة، خصوصاً مع اللحظات الاستثنائيّة الأولى التي تلت أحداث 11/9/2001. هؤلاء هم: المحافظون الجدد.
يعتبر العام 1996 حاسماً في هذا المجال، لأنه شهد التدشين النهائي للالتحام الإستراتيجي التام بين الولايات المتحدة الأميركيّة و«إسرائيل»، وقد جاء التعبير عن أحد أشكال ذلك بتلك الوثيقة التي كُتبت من قبل مجموعة «أميركيّة – يهودية» تابعة لـ«معهد الإستراتيجيّة المتقدمة والدراسات السياسيّة»، حيث ترأس هذه المجموعة رتشارد بيرل «أمير الظلام» وكان من أعضائها السبعة دوغلاث فايث نائب وزير الدفاع، ودافيد فورمسر مستشار نائب الرئيس ديك تشيني، وقد جاءت الوثيقة بعنوان: [الاختراق النظيف، إستراتيجية جديدة للمدى]، وبعنوان تفصيلي [إستراتيجيّة إسرائيليّة جديدة باتجاه الـ2000].
تقوم هذه «الرؤية الإستراتيجيّة» على فرضية ثابتة ستشكّل «لاهوتها الراهن» هي: إنَّ المصالح الأميركيّة هي ذاتها المصالح الإسرائيليّة.
من المؤكد، أن الإدارة الأميركيّة الديمقراطيّة، حينها، لم تكن لتأخذ بـ«رؤية المحافظين الجدد» الذين انتظروا حتى العام 2000، ليأتوا بـ«جورج بوش» رئيساً يمكن له أن يبشّر بهذه «الرؤية» ويعمل وفقها على نحو مدهش وفي أداء بسيط «قريب من السذاجة» يلتمس «الروحانيات» والمضامين الرسوليّة غير المهمومة بتوفير مستند منطقي أو عقلاني لدعوتها… بل تعمل على نشرها وتوسيع أرضها باعتبارها دعوة غير قابلة للشك!
بعد ساعات قليلة من ضرب برجي المركز التجاري العالمي في نيويورك، أُجيب جورج بوش على أول سؤال طرحه على مستشاريه وإدارته حين توجه إليهم قائلاً: «ماذا أفعل؟» فقالوا له دون تردد «لنضرب بغداد»!! يمكن الاستدلال من هذا «الجواب» على [الاستراتيجية الاستباقية] الموضوعة سلفاً. التي كان «الشرق الأوسط» مجالها دون منازع وحيث أن الرأي استقرّ على ضرب أفغانستان أولاً، فإن خياراً إستراتيجيّاً أفرز على الفور مصطلح «الشرق الأوسط الكبير» الذي سيكون شريكاً للولايات المتحدة حسب دعوة كولن باول في 12/12/2002، وليتم عليه لاحقاً بعض التعديل إذ يتم ضبط المصطلح بعد اجتماع مجموعة الدول الصناعية الثمانية في منتجع «سي ايلاند» ليصبح موسّعاً!!
غير أن صفتي «الكبير» أو «الموسّع» ستنهاران تماماً، ويعود «الشرق الأوسط» إلى ذاته وأصله الإنكليزي، وذلك مع دخول جيش الولايات المتحدة وحلفائها العراق واجتياحه، حيث لم يكن ثمة معادل فكري ـ عقيدي لهذا الاجتياح سوى «الديمقراطيّة» المضادة لديكتاتوريّة عدوة، حيث بدت «الديمقراطيّة» كأيقونة مدلاة في عنق السياسة الأميركيّة الشرق أوسطيّة، إلى أن سقطت في الصناديق الانتخابيّة الفلسطينيّة التي جاءت بـ«حماس» إلى السلطة. ولكنها أدت إلى استبدالات رئيسيّة في الإستراتيجيّة الأميركية – الإسرائيلية المتطابقة، والتي جاءت الحرب المفتوحة على لبنان ابتداءً من 12 تموز 2006 في سياقها. حيث في أولها لم تكن تحتاج إلّا إلى ذريعة أسر الجنديين الإسرائيليين، ولكن مع مرور عشرة أيام عليها تجاوزت «الذريعة» ذاتها كما في كل مرّة، نحو عقيدة ما تحمل في ذاتها تبريرات كل هذا الدمار، ولم تكن هذه العقيدة أبداً نشر الديمقراطيّة والدفاع عنها ولا الدفاع عن ثورة الأرز – التي هي مصطلح أميركي – بل كانت عودة نحو عنوان بدا مهزوماً خلال عشر سنوات، وفضّلت كوندوليزا رايس أن يبدأ الأخذ بثأره ابتداءً من بيروت التي أعلنت فيها في 21/7/2006 أن «الشرق الأوسط الجديد» أصبح بيته جاهزاً! هكذا عادت الروح الأميركيّة -الإسرائيليّة لتخيّم على «الشرق الأوسط». الذي يجب أن يكون «جديداً». من الأفضل لكوندوليزا رايس أن يكون معلّمها العقيدي، غير شمعون بيريز الذي وضع النصّ الادعائي الذي شرح فيه «الجدّة» في «الشرق الأوسط». فلنفتش إذاً في كتاب العقيدة الأميركيّة الراهنة لأصحابه «المحافظون الجدد» معلّمو رجال الإدارة الأميركية ونسائها في آن!
يبين ضابط المخابرات الأميركي السابق روبرت باير في كتابه «النوم مع الشرير» أن ثمة شيفرة سياسيّة تم تداولها في المراكز البحثيّة العائدة للمحافظين الجدد، وهذه الشيفرة، يا للمفاجأة، هي كلمة (سيريانا)! وهي كلمة مفتاحيّة تعتمد فرضيّة «المحافظين الجدد» التي تعتبر بأن أي تغيير في الجغرافيا السياسيّة القائمة يجب أن يأتي ملائماً للمتغيرات الضروريّة للمصالح الإستراتيجيّة للولايات المتحدة. سيريانا، حسب طارق الدليمي([1])، [تعني ضمن المفهوم التاريخي لروح العصر إعادة التشكيل الجغرافي السياسي، ضمن آلية الاستخدام النفطي السياسي، لمنطقة الشرق الأوسط، حيث سورية الطبيعية مركزها..] على أن سيريانا لن تبقى محافظة على نفسها كـ(شيفرة) بل تحوّلت إلى شريط سينمائي (فيلم) من إجراج ستيفن غاغان.
فيلم يكشف ما آلت وستؤول إليه حالة النفط وارتباطه السياسي مع الإرهاب الديني العالمي فيلاحظ المحاور الإستراتيجية الثلاثة للصراع النفطي – السياسي في «الشرق الأوسط»: إيران ـ السعودية ـ العراق. تحدث الفيلم عن [لجنة تحرير إيران] وهي إشارة بيّنة عن لجنة تحرير العراق التي تشكّلت عام 1998، وذلك باعتبارها جزءاً من مشروع «القرن الأميركي الجديد ـ أيضاً الجديد!!!» التي يرأسها بروس جاكسون الذي شغل سابقاً نائب رئيس مجلس إدارة شركة لوكهيد ـ مارتن، وهي التي اشترت كل عقود «الحرب والاحتلال للعراق في العام 2002 ـ قبل الحرب!» بالتعاون مع كيلوغ براون ـ روت والاندماج مع شركة ديك تشيني «هالبيرتون». ها هنا يعود النفط كعامل حاسم في التأكيد على التجريبيّة في جغرافيا سياسية مفتوحة، ومن الصعوبة البالغة إغلاقها. يفسر هذا «العامل» على نحو واضح، تلك الفوضى السياسية العارمة، التي وقع فيها العراق ولا يزال، بُعيد احتلاله، وهي موازية للفوضى الأمنية المأساويّة التي تختلط فيها ملامح المقاومة مع علامات الإرهاب! لكن، ما هو ثابت وراسخ، أن هذه الفوضى لم تمنع أبداً، من «سرقة نفط العراق» بأفضل وجه ممكن، وطبقاً لشهادة بول وولفويتز في 27 آذار 2003 التي أدلى بها أمام الكونغرس لفتح شهية الرأي العام الأميركي للقبول بالحرب التي بدأت قبل أسبوع، إذ قال إنَّ العراق سينتج خلال السنوات الثلاث القادمة ما يمكن أن يصل إلى 110 مليار دولار.
مضت أكثر من سنوات ثلاث، وأنتج العراق هذه المليارات، ولكن أكثر من ثلث السكان يعيشون تحت مستوى خط الفقر، فأين ذهب المال!؟ يجب سؤال «هالبيرتون» وديك تشيني، وأيضاً رايس التي حاولت صياغة فدراليّة طوائف العراق على مقاسات آبار النفط. ذلكم «خدّ مجعّد» من وجه «الشرق الأوسط الجديد»!
في الجانب الغربي، من سورية الطبيعية، لم توضع آبار النفط “الغامضة” قيد الاستثمار، ولكن «إسرائيل» هي موجودة؟ هنا تفصح [سيريانا] كشيفرة بحثيّة عن ذاتها على نحو آخر، حيث بدا أن اللعب بـ«الجغرافيا السياسيّة» لا يوصل حتماً وبالضرورة إلى النتيجة المتوخاة، فاتفاقيّات أوسلو 1993 التي لعبت بالجغرافيا السياسيّة، قادت في النهاية وفق الأيقونة الأميركيّة الراهنة «الديمقراطيّة» إلى عكس قواعد اللعبة، وطوّعت «الجغرافيا السياسيّة» الصنعيّة لصالح «الإسلام الجهادي»! هنا، بدت الإستراتيجيّات التقليديّة القائمة على مبدأ الحذف والإضافة قاصرة في مقاربة الإشكاليّات التي تواجهها..
ولا بدّ من إجراء تغييرات حاسمة، كانت تشكّل بالأساس «احتياطاً إستراتيجيّاً» مؤجلاً العمل به. وهكذا تم اتخاذ قرار حذف «المقاومة» في لبنان، بعد أن تبيّن صعوبة ذلك وفق القرار 1559. وقرار الحذف هذا يستند إلى الرؤية النمطيّة الاستبداديّة التي تعتبر: حزب الله ـ حماس ـ الجهاد الإسلامي ـ سورية الراهنة وإيران، كمجال واحد للإرهاب. وفي الوقت الذي يمكن أن تأتي الأوليات وفق الترتيب السابق، فإنها في النهاية رؤية واحدة لما يمكن أن يكونه «الشرق الأوسط» بدون هذا «الخط الإرهابي» لكي يكون جديداً!! حيث «الديمقراطيّة» تقتضي عدم اقتراب أي من هؤلاء من صناديقها، أي يجب ألّا يكون موجوداً!! ووفق عملية الحذف هذه، يمكن للديمقراطيّة أن تضمن نتيجتها في «صناديق الاقتراع» وإن جاءت على النحو الذي يعيد التوضّع السياسي وفق مبدأ «الأكثريات ـ الأقليات». هنا يبدو «العامل الإسرائيلي» حاسماً ونموذجياً، لكونه «المثال الأقصى» عن ذروة «التجريب» بـ«الجغرافيا السياسيّة». ولا بأس من عودة التجريب الإنكليزي مرة أخرى، ولكن بروح أميركيّة جامحة مدعيّة بأنه يمكن صياغة «الشرق الأوسط الجديد».
إنَّ توقّع ما يمكن أن يكونه هذا «الجديد» على صعيد الجغرافيا السياسيّة، لا يمكن أن يكون دقيقاً، فالحديث عن كيانات، أو دويلات طائفيّة أو اثنيّة ممكن أكاديميّاً، ولكنه غير حاسم علمياً، وذلك بسبب التجريبيّة المفتوحة التي يعتمدها الاستراتيجيون الأميركيّون. والتي يعبّر عنها مصطلح «الفوضى الخلّاقة» التي من المفترض أن تكون «بيئة وسيطة» يتم فيها صناعة النموذج الجديد القادم! على أن مسيرة هذه «البيئة» في العراق، تشير إلى مفارقة حادة: حيث إنها سقطت منهجياً ولم تعد «وسيطة»، وبدت بالمقابل، وكأنها غاية إستراتيجية بذاتها! وفي الحالات كلّها، يبدو «النموذج السبارطي» هو أقرب ما يمكن توقعه لما يمكن أن يكونه «الشرق الأوسط الجديد» لأنه يجمع بين إمكانية إغلاق «الجغرافيا السياسيّة» على نحو محكم، ولكنه في الوقت نفسه، يضع مفتاحها في بطن حصان طروادة الذي يظلّ في الخارج دائماً. ووفق هذا «النموذج» يتم استكمال تجفيف آبار النفط حتى القاع، كما يتاح لـ«إسرائيل» الاندماج في [بيئة مصنّعة] مشابهة إلى أكثر حد ممكن لـ«نفسها».
هكذا نكون في «الشرق الأوسط الجديد».. ولكنه البعيد والمستحيل!!
سيريانا، ليست شيفرة قاموسيّة في نص المحافظين الجدد، وحسب، وهي ليست شيفرة بوليسية ملغّزة، أو عنواناً مشابهاً لرواية «شيفرة دافنشي» التي تخلط الحقائق بالأوهام على نحو إعجازي، بل هي الدلالة الدامغة والمعقّدة، بل والشديدة التعقيد، عن تراجيديا التاريخ الإنساني.
مرة، وجّه أنطون سعاده لرئيس الوزارة البريطانية لويد جورج رسالة مفتوحة عام 1931، ناقشه فيها بمضمون خطاب ألقاه الأخير في مأدبة دعت إليها الجمعية الصهيونية… وختم مناقشته تلك، بالمقطع التالي: «الحقيقة يا مولاي، هي كما قلتم، فإن أموراً عظيمة ـ أموراً عظيمة جداً ـ ستترتب على هذه المحاولة التي لم يعرف التاريخ محاولة أخرى تضاهيها في الإثم، وإني أطمئنكم بأن نتائجها لن تقتصر على فلسطين، بل ستتناول العالم أجمع، وأن عظتها البالغة لن تكون لبني إسرائيل! بل لجميع بني الإنسان! ومن يعشْ يرَ.» ص222 ـ الجزء الأول ـ الآثار الكاملة.
وقد عشنا…
عندما أتطلّع محاولاً تفكيك الشيفرة الإستراتيجيّة سيريانا، أجد «العالم الجديد» كله هنا، في ذلك القوس الملتهب من بصرى إلى غزة، فأرى ذلك المشهد الاستثنائي: آخر العالم يتجمّع ويتواجه مع رحم العالم وأوله. هو لقاء غريب، استثنائي خاص ومرعب، تراجيدي إلى حدود مدهشة.! هل، لأنه كذلك، تبدو [الميتافيزياء] حاضرة فيه بالمقدار نفسه الذي توجد فيه [الفيزياء] ذاتها..
هل يفسّر ذلك، كل تلك الروح المقاومة الممتدة على مدى قوس سيريانا ـ الهلال الخصيب ـ وحيدة ومتوحدة، وروحانية على نحو يحيل إلى التفكير بـ (القيامة). أفكّر، وأتطلّع، وأدرك لماذا قال سعادة ذلك.
بلى: من يعشْ يرَ… وقد رأينا.
——————————————–
([1]) اعتمدنا في معلوماتنا الواردة في هذه الفقرة على مقالة طارق الدليمي: الاحتلال والنفط: سيريانا والفدرالية، المنشور في جريدة السفير الأربعاء 8 شباط 2006 ـ عدد 10315.