معظم تجّار السياسة والطامحين إلى المناصب في بلادنا يبدّلون مواقفهم كما يبدّلون أحذيتهم. يستديرون مع كل ريح تهبّ. السلطة والنفوذ هما الهدف. المبادئ، إذا وجدت، هي حبر على ورق، المهمّ الوصول إلى منصب وإعلان تأييد مطلق لمن أوصلهم. احترف معظم السياسيين تملّق الأقوى والأكثر نفوذاً وصاحب القرار، وعندما ينتهي عهده يصبّون عليه اللعنات ويعدّدون مساوئه.
الذين شاركوا في حكم سوريا خلال حقبة الأسدَين، فجأة استيقظ «ضميرهم» وبدأوا بالتباري في شتم حكم «البعث». أبرز النماذج عبد الحليم خدام سابقاً، واليوم دخل حلبة الشتم والنقد وزراء سابقون في الحكومات السورية وصلوا إلى مناصبهم بتزكية، كما كانت تجري العادة، من جهاز المخابرات. هؤلاء يتسابقون لإجراء مقابلات على محطات التلفزة الخليجية، ينتقدون فيها حكم آل الأسد ويقولون إنهم كانوا مضطرّين إلى قبول منصب وزاري! هذا هو النفاق والتلوّن بعينه.
تحدّثنا إيزابيل بورتن، زوجة ريتشارد بورتن، القنصل البريطاني في دمشق ما بين 1868 و1871، في مذكّراتها «الحياة الداخلية في سوريا، فلسطين والأراضي المقدّسة» الذي طبع لأول مرة بالإنكليزية في لندن عام 1875، عن ظاهرة التنكّر للجميل والنفاق التي مارسها ضدّها وضدّ زوجها ترجمان القنصلية يوحنا مسك، بعدما انتشر خبر إقالة زوجها من منصبه واستدعائه للعودة فوراً إلى لندن. إقالة بورتن كان سببها خلافه مع يهود دمشق حول نسبة الفائدة التي كانوا يتقاضونها من المسلمين. تذكر السيدة بورتن أن مسك كان يشاركهما الطعام، وكانا يعاملانه كأنه من الأسرة. وكان يرتّب مواعيد القنصل ويرافقهما في رحلاتهما في بلاد الشام، وكان يبدي الإخلاص الذي لا تشوبه شائبة.
وتكمل بورتن روايتها بالقول إنه بعد تسلّم زوجها قرار الإقالة، توجّه فوراً إلى بيروت للعودة على متن أول سفينة تبحر إلى بريطانيا، وطلب منها أن تبقى كي تنهي مسألة بيع الخيول ومحتويات المنزل في بلودان، ثم اللحاق به في لندن. في اليوم التالي، قررت الذهاب إلى بيروت لوداعه. التقت به وهو يتجوّل في بيروت، وكان وحيداً وحزيناً، ولم يكن مسك برفقته كما جرت العادة. أمضت معه أربعاً وعشرين ساعة، ثم ودّعته وعادت إلى دمشق. استقلّت عربة الديلجانس، وكانت الرحلة تستغرق سبع ساعات.
وفي الطريق، مرّ بجانب العربة الترجمان يوحنا مسك، وهي تصف ما جرى كالآتي: «ناديته عندما مرّ بجانب عربتنا، ولكن ليس لديّ أيّ منصب رسمي الآن، لذلك أدار رأسه بالاتجاه الآخر. أرسلت فلاحاً كان في العربة وراءه، لكنه هزّ رأسه وواصل سيره». إنه قانون “مات الملك، عاش الملك”.
يوحنا مسك هذا هو نموذج لمئات أمثاله من الذين يمتهنون الردّة والغدر، ينتشرون في كل العهود من موظف عادي إلى سياسيين كبار. وتاريخنا حافل بأمثالهم. في مرحلة حكم جمال باشا لسوريا، كان جميع رجال الدين من الطوائف كافة يقدّمون الولاء له، وكان يرفض زيارتهم أو الاهتمام بآرائهم، ما اضطرّ البطريرك الماروني إلياس الحويك إلى زيارته في مقرّه مدافعاً عن نفسه وداحضاً الاتّهامات ضدّه بأنه على تواصل سرّي مع فرنسا، وأكد له أن ولاءه كان ولا يزال وسيبقى لتركيا، كما ذكرت صحيفة «الشمس» الصادرة في بوينُس آيرس.
كانت تقام على شرف جمال باشا الولائم، في الوقت الذي كان يعلّق فيه المشانق في بيروت ودمشق لكل من يعارض حكمه الاستبدادي. كان يستقبَل في قصور آل سرسق محاطاً بالمطبّلين والمزمّرين له وللأتراك من الطوائف كافة. وعندما هُزم الأتراك وغادروا بلادنا، تبارى المعجبون به وبـ«حكمته» في شتمه ووصفه بأبشع النعوت، وهؤلاء جميعاً نقلوا البواريد إلى جانب المحتل الفرنسي الجديد.
وكما طعنوا الأتراك طعنوا أيضاً الفرنسيين. ففي عام 1944، في خضم الصراع البريطاني – الفرنسي على سوريا، كان هدف الثنائي الجنرال إدوارد سبيرس وونستون تشرشل طرد الفرنسيين من سوريا. أسّس البريطانيون بإشراف سبيرس في بيروت مكتباً للمخابرات كان فعالاً لدرجة كبيرة وكان يراقب الأحداث والتطورات بدقة بواسطة عملائه.
جنّد سبيرس مخبراً في مكتب رئيس الجمهورية السوري، وآخر في مكتب وزير الخارجية. وكان الإنكليز مطّلعين على جميع التقارير التي تصل المكتبَين بواسطة هذين المخبرَين اللذين كانا يقومان يومياً بتصويرها وإرسالها إلى سبيرس في بيروت.
وخلال سنوات، وصل إلى جهاز الأمن البريطاني كمية كبيرة من الوثائق والتقارير، منها رسائل من ابن سعود ونوري السعيد وسياسيين من الدول العربية. ويبدو أن جهاز الأمن الفرنسي استطاع اختراق مكتب المفوضية البريطانية في بيروت بواسطة أحد العملاء العاملين في المكتب، والذي نقل إلى الفرنسيين ما كان يصل إلى البريطانيين من تقارير. وخلال الفترة ما بين شهر آب 1944 وكانون الثاني 1946 حين استقال ديغول، كانت التقارير تتدفّق على مكتبه ليكتشف أن بريطانيا تعمل جادّةً لطرد فرنسا من سوريا.
خلاصة هذا السرد هي الفضيحة التي اكتشفها الفرنسيون وكانت مفاجأة لهم. إذ تبيّن من الوثائق التي تسلّموها أن مجموعة كبيرة من السياسيين السوريين واللبنانيين الذين كانوا يعلنون ليلاً ونهاراً ولاءهم للفرنسيين، كانوا يرسلون في الوقت نفسه رسائل إلى البريطانيين يعربون فيها عن رغبتهم في التعاون معهم ويذمّون فرنسا وسياستها في سوريا. الوثائق المذكورة يحتفظ بها أرشيف الجنرال ديغول، وبعضها في أرشيف رئيس الوزراء جورج بيدو. ونظراً إلى أهميتها، قامت عصابة الهاغاناه بالاستيلاء عليها في عملية سرية خلال كانون الأول عام 1947، عندما نقلها البريطانيون من بيروت إلى حيفا تمهيداً لإرسالها إلى لندن.
قصة الفرنسيين مع السياسيين اللبنانيين والسوريين غير مفاجئة، وخداعهم لهم وتعاونهم سرّاً مع البريطانيين تواصلا مع أحفادهم منذ سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى اليوم. كثيرون ممن ادّعوا العروبة واليسار، وكانوا الأكثر تطرّفاً، تحوّلوا بعدما هبط «الوحي» عليهم إلى مجرد أدوات رخيصة في يد من أوصلهم إلى مناصب كانوا يحلمون بالوصول إليها. تخلّوا عن كل ما كانوا يدّعونه، وحقّقوا أمنياتهم الدفينة في أعماقهم وأصبحوا من الحكّام.
ولا يزال كثيرون من هؤلاء حتى اليوم على المسرح السياسي تختارهم السفارات وتفرضهم نواباً ومسؤولين. هؤلاء يشبهون في ممارساتهم قصة خير الدين الأحدب التي ذكرها إسكندر رياشي في كتابه «قبل وبعد». يقول رياشي إنّ الأحدب كان عروبياً يدعو إلى الوحدة العربية ويعارض الانعزاليين، وفجأة تخلّى عن «عروبته» وانتقل إلى النقيض عندما عرض عليه إميل إده في شتاء 1937 تولّي رئاسة الحكومة.
تاريخ لبنان حافل بأمثال هؤلاء المرتدّين، ولكل منهم أعذاره وتبريراته. وفي المحصلة الأخيرة، هم كما وصفهم أنطون سعادة مجرّد “مجموع أشخاص يساوي قضايا شخصية”.
الأشخاص مهما كانوا متعلّمين واختصاصيين لا يخرجون عن كونهم أشخاصاً تسيطر على ممارساتهم قضاياهم الشخصية وغاياتهم الفردية. نعم ابتلينا بهذه الظاهرة المتجذّرة في المجتمع الطائفي المنقسم على نفسه حتى على البديهيات. وإذا حاولنا إبراز أمثلة على ذلك، فلن نجد أيّة صعوبة في عرض مواقف عديدين وكيف تتلوّن مواقفهم وتتبدّل وفق الظروف. في عهد الرئيس لحود، على سبيل المثال، انتقل كثيرون من كونهم «أصدقاء» العمر معه، إلى مخبرين عندما وعدوا بمناصب يحلمون دائماً بها.
شارل رزق عُيّن وزيراً للعدل في تموز 2008 من قبل الرئيس لحود، لكن صداقة العمر مع لحود أصبحت في سلّة المهملات، وسال لعابه عندما وعدوه برئاسة الجمهورية وهو في منصب وزير العدل الحساس، وخاصة بعد اغتيال رفيق الحريري. وإذا أخذنا مثلاً آخر ميشال سليمان الذي كان يضع في مكتبه صورة للرئيس بشار الأسد، والذي اختاره غازي كنعان قائداً للجيش، وتمّت ترقيته، في حين كان عشرات الضباط غيره مؤهّلين لذلك المنصب.
وبعد تعيينه استيقظ «ضميره»، فانقلب على من أوصله إلى منصبه، لذلك اختاروه رئيساً للجمهورية. ولا حاجة للعودة إلى تقارير «ويكيليكس» حيث الفضائح التي تطاول بعض الطبقة السياسية التي لا تزال تتحكّم بنا، والذين كانوا يتنافسون في ما بينهم وخاصة مَن أطلقوا على أنفسهم «جماعة 14 آذار»، فأبدعوا بممارسة التملّق والنميمة أمام السفير الأميركي.
الخلاصة أن المجتمعات الغارقة في مستنقع الطائفية والتي تكوّنت وفق إرادة المستعمِر، أساسها شُيّد على الرمل، لذلك هناك استحالة في إصلاحها أو تقدّمها. العلّة لا تنحصر في الأشخاص ونوازعهم الفردية فقط، بل في النظام الطائفي العنصري الذي أثبت ممارسته العنصرية بحق مواطنيه طوال تاريخه. من العار على إنسان في القرن الواحد والعشرين أن تقيّده وتحول دون قناعاته أنظمة طائفية مثل النظام اللبناني الذي يشبه الغولة التي تأكل أبناءها، ولن ينجو أحد من الموت المحتّم إلا مَن هاجر.
فمِن دون أفكار جديدة يقتنع بها المجموع، ويمكن بموجبها إعداد برنامج عمل لمصلحة المواطن يُنفّذ خارج إرادة السفارات وزعامات الطوائف… من دون ذلك نحن ندور في حلقات مفرغة، إذ لا وجود لمنقذ كما يتخيّل البعض يمتلك علاجاً للأمراض التي تفتك بنا. ومخطئ من يعتقد بأن للبنان رأياً في كيفية تشكّل السلطة، السفارات هي التي تختار من يناسبها. منذ مئة عام ونيّف، واللبنانيون غارقون في هذا المستنقع الذي يتحرّك فقط وفق رغبات أشخاص مرتبطين بالخارج يتلوّنون ويتبدّلون بطريقة زئبقية وفق مطامحهم الشخصية فقط، وما تبقّى من ظواهر تطفو على السطح ليس إلا مجرّد ديكور لا غير.
——————————————-
تنويه: النص منشور بالأصل، في جريدة الأخبار اللبنانيّة في 8 شباط 2025
و في الليلة الظلماء يُفتقد “البدر ”
إسمٌ على مُسمّى
بدر الحاج