العالم الآن

اغتيال الهالة القدسيّة

قراءة في صدمة الاغتيال وتأثيراته

في مجتمعات تُبنى على رمزية القيادة، يصبح اغتيال الشخصيات التي تحمل طابعاً قدسياً حدثاً يتجاوز السياسة ويدخل في عمق النفس الجماعية. حين يكون القائد أكثر من مجرد مدير لحركة أو تنظيم، بل رمزاً لمعركة وجودية ومشروع جماعي، فإن اغتياله لا يمثّل خسارة فردية، بل هزة تؤثر في الوجدان الجمعي، وربما تعيد رسم العلاقة بين الأفراد والمجتمع بشكل كامل. هذا المقال يطرح تأثير اغتيال الشخصيات ذات الهالة القدسية على الأفراد، وكيف تتحوّل الصدمة الجماعية إلى قوة قد تكون مدمرة أو محفزة لتجديد الهوية.

الهالة القدسية: ركيزة الاستقرار النفسي والسياسي

الشخصيات ذات الهالة القدسية لا تبنى فقط على إنجازات سياسية أو عسكرية، بل هي نتاج علاقة معقدة بين القائد والجماهير، حيث يصبح القائد رمزاً للأمل، للحقيقة، وللنجاح الذي يعوّل عليه في مواجهة الأعداء والتهديدات. فهذه الهالة ليست نتيجة صدفة، بل هي نتاج علاقة مبنية على الثقة المطلقة في قيادة من تُعطى له هذه القدسية. في هذا السياق، حسن نصرالله، على سبيل المثال، لم يعد مجرد زعيم سياسي أو عسكري، بل أصبح رمزاً للمقاومة، صوتاً يتكلم باسم الذين شعروا بالقهر والظلم، وينقل لهم شعوراً بأنهم على الطريق الصحيح مهما كانت الظروف.

هذه الرمزية تتغلغل في النفوس. بالنسبة للأفراد، القائد ليس فقط من يقود المعارك أو يلقي الخطابات، بل هو الضامن لاستمرارية مشروعهم السياسي والاجتماعي. اغتيال شخصية بهذا الحجم ليس مجرد حدث أمني، بل هو تهديد للنسيج العاطفي والفكري الذي يربط المجتمع. إنه يمس بجوهر العلاقة بين الأفراد والهالة التي منحوها للقائد، مما يجعل الصدمة عميقة للغاية.

أبعاد الصدمة الجماعية بعد الاغتيال

عندما يُغتال رمز بحجم القائد ذو الهالة القدسية، تبدأ الصدمة في ضرب الأفراد على عدة مستويات. حيث تأخذ أشكالاً متعددة:

  1.  الخسارة العميقة والفردية: يشعر الأفراد وكأنهم فقدوا جزءاً من ذاتهم. القائد، الذي طالما كان رمزاً للأمل والانتصار، يختفي فجأة، ما يخلق فراغاً عاطفياً كبيراً. هذا الفراغ لا يملأه أحد بديل على نحو مباشر، لأنه قائم على رمزية لا تتكرر بسهولة.
  2.  الارتياب حول المستقبل: في حالة اغتيال قائد بحجم نصرالله مثلاً، سيتساءل الأتباع عن مصير المشروع الذي قادهم. هل ستستمر المقاومة؟ هل سيتغير المسار؟ هذه الأسئلة تولّد حالة من القلق والارتباك، حيث إن القيادة التي كانت تمنحهم شعوراً باليقين، قد انتهت.
  3.  الغضب والرغبة في الانتقام: الاغتيال يُنظر إليه كإهانة للأفراد والمجتمع. ينشأ شعور بالغضب تجاه العدو الذي قام بالعملية، وتتحول هذه الصدمة إلى غضب جماعي قد يدفع إلى تصعيد المواجهة. من هنا، يبدأ المجتمع في التعبئة حول فكرة الانتقام، باعتبارها وسيلة لتخفيف الألم واستعادة الهيبة.
  4.  التشبث بالرمزية: في حالات كثيرة، بعد اغتيال شخصية قدسية، يبدأ الأتباع في تحويل القائد إلى أسطورة، لا يتم فقدانه، بل يتم تعظيمه. هذا يمكن أن يؤدي إلى استمرارية التمسك بالقيم والأفكار التي كان يمثّلها القائد، ولكن يمكن أيضاً أن يغلق الباب أمام أي تجديد أو نقد داخلي.

الآثار النفسية والاجتماعية طويلة الأمد

الصدمة الناتجة عن اغتيال قائد ذو هالة قدسية لا تذهب بسرعة. الأثر النفسي يمكن أن يكون طويل الأمد ويتخذ أشكالاً مختلفة:

إعادة بناء الهوية: بعد الاغتيال، يدخل المجتمع في مرحلة إعادة التفكير في هويته. هناك حاجة لإعادة ترتيب الأوراق، وإيجاد قيادة جديدة أو على الأقل تكييف المشروع الجمعي مع غياب الرمز الذي كان يقوده.

زيادة التوتر الداخلي: اغتيال قائد قد يؤدي إلى ظهور انقسامات داخلية بين من يريدون الحفاظ على الخط الثابت للقائد وبين من يرون في الاغتيال فرصة لتغيير المسار. هذه الانقسامات قد تؤدي إلى مزيد من التوتر داخل الحركة أو التنظيم.

الأسطرة: القائد المُغتال يصبح أسطورة لا تُمس. يتم تقديمه كرمز للأجيال القادمة، وتتحول قصته إلى مثال للتضحية والبطولة. لكن هذا قد يؤدي إلى جمود فكري وسياسي، حيث يصبح نقد الرمز أو إعادة التفكير في مساره خيانة لذكراه.

أخيراً، نجد أن اغتيال الشخصيات ذات الهالة القدسية ليس مجرد ضربة سياسية أو أمنية، بل هو هزة عميقة تمس الوجدان الفردي والجمعي. الأفراد الذين يرون في هذه الشخصيات رمزاً للاستمرارية والاستقرار يجدون أنفسهم فجأة في مواجهة فراغ هائل، مما يخلق سلسلة من التفاعلات النفسية والاجتماعية. هذه الصدمة قد تؤدي إلى تماسك أكبر أو إلى انقسامات، لكنها دائماً تعيد تشكيل العلاقة بين الأفراد والمجتمع.

كارلو جليان

كاتب من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق