على أعتاب الذكرى الـــــــ 107 للإبادة الأرمنية نحاول قراءة ما جرى من وجهة نظر تركية عبر استعراض كتابين للباحث التركي (تنار آكجام)، الذي أصدر كتابين مهمين لإعادة وضع النقاط على حروف الإبادة التي تعرّض لها الأرمن.
الكتابان، قام بترجمتهما المترجم الأرمني السوري (كيفورك خاتون وانيس)، حيث صدر كتاب (الفعل المشين) عام 2017، وكتاب (أوامر القتل) عام 2019 وكلاهما، عن دار الفارابي.
تنار أكجام ولد “تنار أكجام” في محافظة اردهان بتركيا في عام 1953. بدأ بالاهتمام بالحياة السياسية في سن مبكرة فكان مدافعاً جريئاً عن الديمقراطية وحرية التعبير منذ أن كان طالباً في جامعة الشرق الاوسط التكنولوجية في أنقرة، إضافة إلى أنه ناشط في مجال حقوق الإنسان على المستوى الدولي. نشط “أكجام” في منتصف سبعينيات القرن الماضي في مجموعات طلابية تناصر الديمقراطية عقب إنقلاب 1971 بتركيا، ونتيجة لنشاطه وآراءه وعمله رئيساً لتحرير جريدة (الشباب الثوري) تم اعتقاله وحُكم عليه بالسجن 9 سنوات إضافة لثلاث سنوات تحت المراقبة، لكنه بعد مرور سنة على سجنه تمكن من الهرب من السجن وحصل على اللجوء السياسي بألمانيا حيث أكمل دراسته وحصل على درجة الدكتوراه عام 1995، وهو حالياً استاذ في قسم دراسات الإبادة الأرمنية في مركز ستراسلير لدراسات الإبادة والهولكوست في جامعة كلارك. |
الفعل المشين
(الإبادة الأرمنيّة ومسألة المسؤوليّة التركيّة)
جاء الكتاب في 3 أقسام …
القسم الأول: المسألة الأرمنية قبل قرار الإبادة، ويفصّل فيه علاقة الدولة العثمانية بسكانها غير المسلمين، وعهد جمعية الاتحاد والترقي، وبروز القومية التركية والتغيرات الكارثية التي أحدثتها.
القسم الثاني: قرار الإبادة والتطورات اللاحقة، ويجيب فيه عن تساؤل: ما الذي قاد إلى قرار الابادة ؟، والعواقب التي ترتبت على هذا القرار.
القسم الثالث: التحقيقات والملاحقة القضائية لجرائم الحرب والإبادة الجماعية، وفيه يَدرس مسألة معاقبة الأتراك، ومبادرات الحكومة العثمانية، والموقف الذي اتخذته الحركة القومية التركية من الإبادة، والمرحلة النهائية من المحاكمات، ويجيب بتفصيل عن تساؤل: لماذا فشلت محاكمات ما بعد الحرب؟
في المقدمة، يعتبر المؤلف أن كتابه هذا هو بمثابة دعوة للشعب التركي للنظر في معاناة الآخرين التي تمت بإسمه، وأن دافع هذه الدعوة ليس فقط حجم المذبحة الأرمنية التي لا تقارن بأي شكل كان بالانتقامات الفردية التي تمت ضد المسلمين (حسب الكاتب) بل أيضاً لأن الدراسات المختصة بالأعمال الوحشية واسعة النطاق تُعلّمنا مبدأً جوهرياً لمنع تكرار وقوع أحداث مشابهة، يجب على الناس أولاً النظر إلى مسؤولياتهم ومناقشتها والاعتراف بها.
يوضح (تنار أكجام) أسلوب تعامل الدولة العثمانية مع سكانها غير المسلمين، فنجد أن النظام الإستبدادي وسلطة السلطان المطلقة في الدولة العثمانية كان التعامل مع أفراد المجتمعات الواقعة تحت حكمها كرعايا للسلطان وليس كمواطنين، لذا فقد مارست الدولة العثمانية القهر والظلم والتمييز ضد كل رعاياها من المكونات غير المسلمة، ومن هنا يبحث في تفاصيل الوضع القانوني لأهل الذمة تحت الحكم العثماني الذي اعترف باستقلالية كل ملّة عبر كتاب ترخيص صادر من السلطان، ولكن بين ثنايا القانون كانت الاهانة مخبأة لأهل الذمة فمُنعوا من بناء بيوت أعلى من بيوت المسلمين دلالة على دونيتهم أو منع سكنهم في الأحياء المسلمة من المدينة أو القرية، وكانت عقوبة خرق هذه القيود هي الغرامة المالية أو السجن .
ورغم التدخلات الأجنبية من قِبل الدول الغربية والاتفاقيات بينها وبين الدولة العثمانية إلا أنها تركت آثاراً سلبية، فالإصلاحات لم تتحقق، بل والأشد قساوة أنها لعبت دوراً كبيراُ في أعمال القتل بين عامي 1894 – 1896 ومن بعدها الإبادة الأرمنية عام 1915.
وتوقعت الحكومة العثمانية بدخولها الحرب أنها ستستفيد بثلاثة طرق:
- وضع حد للاتفاقيات الدولية التي أوصلت الإمبراطورية إلى حافة الانهيار بما فيها الإمتيازات العثمانية واتفاق الاصلاحات في الولايات الأرمنية.
- استخدام الحرب في خدمة أهداف الرابطة الطورانية والوحدة الإسلامية
- استغلال الحرب كفرصة لإستعادة المناطق المفقودة خصوصاً في البلقان والسعي للانتقام من المجتمعات المسيحية.
في القرن التاسع عشر كانت أغلب المذابح المرتكبة ضد الأقليات المسيحية، إما نتيجة لرد فعل على ثورات محلية تطالب بتغييرات إجتماعية، وإما نتيجة رد فعل على حركات إنفصال واستقلال وطنية، لكن المذابح الأرمنية في تسعينيات القرن التاسع عشر اختلفت لانها حدثت في فترة كانت فيها الدولة العثمانية تعمل على تحقيق نوع من الوحدة الوطنية مستندة على أيديولوجيا الرابطة الإسلامية لوقف انهيار وافول الدولة العثمانية، لذا بدأت عملية الإقصاء الإجتماعي لمجموعة وطنية – دينية على أرضية دينية (وخصوصاً الأرمن) وهكذا تم تحويل الأرمن إلى كبش فداء.
ينتقل الكاتب الى عهد جمعية الاتحاد والترقي.
فيوضح بدء هيمنة الفكر القومي التركي على حزب الاتحاد والترقي، الحزب الحاكم خلال سنوات الحرب، وهذا الفكر لعب دوراً هاماً في الإبادة الارمنية.
المسلمون الأتراك ساد لديهم الإيمان (بالأمة الحاكمة) حيث لهم اليد العليا بين الشعوب والأقوام الأخرى، وأن لهم الحق بالحكم وذلك بعد أن حددت النخبة العثمانية – التركية الحاكمة شخصيتها بالإسلام، وأنها الأسمى بين الجماعات الدينية الأخرى.
حتى ثمانينات القرن التاسع عشر لم تكن هناك بعد ثمة قومية تركية سياسية، فالرواد في مجال الأدب واللغة كانوا ينظرون لأنفسهم كعثمانيين أو إسلاميين، لكن التركيبة المتعددة الأقوام للدولة العثمانية أربكت الطبقة التركية الحاكمة التي لم تتمكن من تبني الهوية التركية الخالصة علناً، ولكن كانت الخسارة في حرب البلقان عام 1913 هي المنعطف لإعلان الطبقة الحاكمة هويتها القومية التركية.
للتذكير.. مصطلح (التركي) كان يُستخدم للتحقير بين العثمانيين، ففي مقالة في جريدة البصيرة الصادرة عام 1875 كُتِبَ: ” الشباب الذين لا يخجلون من كونهم أتراكاً “، وكوسيلة للحفاظ على الإمبراطورية المفتتة بدت القومية التركية أقل الخيارات جاذبية للقادة لكونها لا تستثني المسيحيين فقط، بل المسلمين غير الأتراك أيضاً، استمر القادة العثمانيون في الأمل بتشكيل وحدة حول الإسلام كنقطة جامعة بعد استنفاذ كل الخيارات الأخرى فاضطروا لإختيار التركية كخيار غير مرغوب فيه لكنه ضروري.
حتى بداية القرن العشرين لم تكن المدارس العثمانية تُدرّس أي شيء بخصوص تاريخ الأتراك وحتى نهاية 1911 كان ثلثا مناهج التاريخ الحديث المخصصة للمدارس التركية الإعدادية مُكَرسين للتاريخ الفرنسي والثلث الباقي لتاريخ الدول الأوروبية الأخرى.
في 23 تموز 1908 وأمام قصر الحكومة في مدينة كوبورلو المقدونية صاح أنور باشا زعيم الاتحاديين: (لقد عالجنا الرجل المريض) في إشارة لنجاح ثورة 1908 التي فرض فيها الجناح العسكري للإتحاد والترقي الملكية الدستورية، لكن صيحة الباشا ذهبت أدراج الرياح، واستمر إنهيار الإمبراطورية، وبات أي مطلب منطقي للمساواة والحكم الذاتي بمثابة خطر يعمق الإنهيار.
إذاً بعد الهزيمة في البلقان تولت جمعية الإتحاد والترقي دور القيادة عن طريق تأسيس “جمعية الدفاع الوطني” التي شكلت عدداً من الهيئات النقابية حتى شملت رابطة للحمّالين، ولكن إلى حد كبير كان المسيحيون مستبعدين من هذه المؤسسات.
وبعد استحواذ قادة الإتحاد والترقي على السلطة المطلقة بدأوا بتكريس جهودهم بشكل كامل لقضية تخليص الأناضول من (التجمعات) غير التركية، وبرز في عام 1911 مصطلح الوطن الجديد هو طوران الكيان المثالي الذي يعّبر عنه “ضياء كوك الب” بقوله: (هو الذي يجمع كل الأتراك معاً وينبذ الغرباء، طوران هي مجمل الدول التي يعيش فيها الأتراك حيث يتكلمون التركية)، ثم في عام 1914 بَلّور أفكاره هذه بقوله: (سوف يتم وضع عدو الدولة في مكب النفايات وسوف تتحول تركيا إلى طوران بسرعة).
وضمن هذه الرؤية الطورانية تم تأسيس منظمة (تشكيلات مخصوصة) التي سيكون لها الدور الأكبر في الإبادة الأرمنية.
تشكيلات مخصوصة
تشكيلات مخصوصة، تشكلت بين عامي 1911- 1913 حسب “كوشجوباشي أشرف” الشخصية المركزية بالإتحاد والترقي، فيما يؤكد المؤرخ “توفيق بايك اوغلو” أنها تأسست بأمر سري من وزير الحرب “أنور باشا” في آب 1914.
بهذا الخصوص، يبحث “تنار اكجام” في المعلومات ويخلص للتالي:
تشكيلات مخصوصة تَشكلت في البداية لتنظيم حرب عصابات في ليبيا ضد إيطاليا في نهاية عام 1911، ومن المحتمل أن تأسيسها الرسمي تم عام 1913 تحت قيادة “أنور باشا” لتلعب دوراً هاماً في حروب البلقان صيف 1913، وفي كانون الثاني 1914 تم إعادة هيكلتها بعد توليه وزارة الحرب، وتولى “سليمان عسكري” رئاستها، و”عاطف كامجيل” نائباً له، ثم تم بشكل مؤقت إستبدال (سليمان عسكري بخليل باشا، ومن ثم تم تعيين جواد باي).
ويؤكد “رضا” عضو تشكيلات مخصوصة في الجلسة الخامسة من محاكمة 12 أيار: (تم إنشاء تشكيلات مخصوصة الثانية “التابعة لسلطة جمعية الإتحاد والترقي، الأولى كانت تابعة لوزارة الحرب “لتنفيذ عمليات الترحيل بسبب عدم كفاية قوات الشرطة وتختلف هذه القوات عن تلك التي قامت بنشرها تشكيلات مخصوصة الأولى اختلافاً تاماً).
تم إنشاؤها من ثلاثة مصادر رئيسية هي:
- القبائل الكردية.
- السجناء: كتب “حلمي” سكرتير الحزب في ارضروم إلى اسطنبول في آب 1914 طالباً الإفراج عن الأشخاص المحتجزين في سجن طرابزون لإستخدامهم في تشكيل وحدات غير نظامية تحت قيادة ضباط نظاميين. بعدها أصدرت وزارة العدل عفواً خاصاً لمعظم الأناضول
- المهاجرون الجدد من القوقاز وروميليا: اللجنة المركزية للحزب أرسلت أمراً سرياً إلى فروع الحزب في الولايات في 15 تشرين الاول 1914 يتعلق بضم مهاجرين للعصابات المسلحة التي سُميت أيضا “جيش القتلة”.
القنصل النمساوي في طرابزون أكد أن تدريب وتجهيز العصابات تم في 8 تشرين الثاني 1914 على الطريق الساحلي ومناطق أخرى، وفي نفس الوقت تسارعت عملية إفراغ السجون، ففي طرابزون مثلاً تم تشكيل من 700 إلى 800 وحدة منهم، وأُرسلت وحدة قوامها 169 شخصاً من المساجين تبعتها مجموعة مكونة من 1000 رجل كردي، أما العدد الإجمالي للعصابات فالتقديرات متباينة حيث يقدر “ستودارد” الذي عقد سلسلة مناقشات مع “كوشجوباشي أشرف” عددهم بحوالي 30 ألف.
وللعلم فان زعماء تشكيلات مخصوصة المشاركين في المذابح لعب بعضهم دوراً هاماً في حرب الإستقلال التركية فيما بعد أمثال (دلي خالد باشا، ويني باهجالي نايل، وتوبال اوصمان).
بعد إعلان التعبئة العثمانية مباشرة تم إعلان الأرمن مجموعة قومية مُشتبهاً فيها، ووفق الخطة تم سَوق الرجال الأرمن من سن 20 – 45 إلى الجيش، والأصغر في أعمال السخرة والعتالة.
ولكن الهزيمة في ساري قاميش شكلت نقطة انعطاف في معاملة الأرمن، وتم الزعم بأنهم سبب الهزيمة، وأنهم خطر مُهدد فوصلت الأوامر لوحدات الجيش في 25 شباط 1915 من “أنور باشا” لتجريد الجنود الأرمن من سلاحهم، وعدم توظيفهم في الخدمات المسلحة إطلاقاً. وبانتهاء شهر آب 1914 شعر الكثير من الأرمن بأن إبادتهم باتت وشيكة، فقد سمعوا بأن قراراً بهذا الخصوص قد تم إتخاذه في شتاء 1914.
من المستحيل طبعاً أن نروي كامل تفاصيل الإبادة، ولكن من الواضح أن عمليات الطرد والذبح تمت بالطريقة نفسها في كل المناطق، وتم توثيقها بعناية في مواد الأرشيف الأمريكي والبريطاني والألماني وتقارير البعثات وروايات الناجين، وتشير المواظبة على نمط التنفيذ إلى وجود تخطيط مركزي، وفي بعض الولايات مُنح الأرمن مهلة اسبوعين وفي البعض الآخر ساعتين فقط.
بخصوص المحاكمات فإن الرغبة بمحاكمة مجرمي الحرب لدى الأتراك لم تكن لشفافيتهم وعدالتهم. بل لأنهم أرادوا من خلالها الحصول على المزيد من النتائج الإيجابية لتركيا في محادثات السلام، ولمنع تقسيم الأناضول، ولكن إصرار الحلفاء على ربط الأمرين ببعضهما جعل الداماد “فريد باشا” الصدر الأعظم يختصر الإبادة بالهاربين الثلاثة (طلعت وأنور وجمال)، بالإضافة لحفنة من المتواطئين الثانويين.
وبعد محاكمات دخلت في بازار سياسي 1919 بين أنقرة مركز الحركة القومية (أغلب مؤسسيها هم أعضاء سابقون في الاتحاد والترقي)، واسطنبول المحكومة من السلطان وإلى حد كبير من معارضي الاتحاد والترقي.
ولم تؤدِ لشيء ملموس أو لإحقاق الحق.. فعلى سبيل المثال كان “عبد الاحد نوري” قد عمل مع “مصطفى عبد الخالق” في حلب (وصفه روسلر القنصل الألماني في حلب بأنه يعمل بطاقة هائلة من أجل تدمير الأرمن)، وكذلك ذكره “وهيب باشا” الذي تسلم قيادة الجيش الثالث في شباط 1916 في شهادته أمام لجنة “مظهر” بقوله: ” إن عبد الخالق قد قام بحرق آلاف الأشخاص أحياء في ولاية موش “.
“عبد الاحد نوري” جمع ثروة كبيرة أثناء عمليات الترحيل، واعتُقِلَ وشَهد ضدهُ في المحكمة 20 شاهداً لكن أُطلق سراحه لأنه كان أخو “يوسف كمال تينغيرشينك” وزير المالية ولاحقاً وزير الخارجية حيث أرسل “يوسف” تحذيراً لاسطنبول بأنه في حال إعدام أخيه “عبد الاحد” فإنه سيقتل أقلّه ألفين أو ثلاثة آلاف أرمني فأُطلق سراحه.
كان زميل “عبد الاحد نوري” الرئيسي هو مرؤوسه المباشر “أيوب باي” رجل مرتشٍ ومتعطش للدماء، وكان عمله الدائم القتل، لكن بشكل خاص من أجل النهب وجمع ثروة ضخمة من الأموال التي نهبها من الأرمن، بالمقابل فإن “عبد الاحد” لم يرتشِ البتة، وكان يقول بهذا الخصوص: (أنا أحب الرشاوى لكنني أخشى من قبولها. أنا خائف من أن يكون ثمن الرشاوى التي ستدخل جيبي خلاص أي ارمني)، والكثير من الذين حوكموا تمت مكافئتهم.
أوامر القتل
برقيات طلعت باشا والإبادة الأرمنيّة
“أوامر القتل … برقيات طلعت باشا و الإبادة الأرمنية ” هو الكتاب الثاني الذي يستكمل به ” تنار أكجام ” مشروعه المعرفي المهم.
يقع الكتاب في 416 صفحة، ويضم مجموعة من حوالي 52 وثيقة عثمانية معظمها صادر من طلعت باشا، تتضمن أوامر بتهجير وإبادة الأرمن، كما يتضمن مشاهدات “نعيم أفندي” الشخصية، المتعلقة بالأحداث والمواضيع الواردة في البرقيات.
وشغل “نعيم أفندي” منصب السكرتير الأول في مديرية السوقيات في حلب، والتي تلقت برقيات طلعت باشا الأصلية التي تخص أوامر تهجير وإبادة الأرمن.
ويدرس الكتاب هذه البرقيات، بما ذلك أدق التفاصيل الخاصة بطرق تشفيرها، وتواقيع والي حلب وتواريخ البرقيات وغيرها، وقارنها مع آلاف الوثائق من الأرشيف العثماني، ويتوصل إلى الدور المركزي للحكومة العثمانية في التخطيط للقضاء على سكانها الأرمن.
وتأتي أهمية الكتاب من أهمية الوثائق التي يتضمنها والتي تشكل أدلة حاسمة في إثبات نية جمعية الاتحاد والترقي (صاحبة السلطة المطلقة حينها)، في التخلص النهائي والأبدي من الأرمن؛ الوثائق صادرة من جهات عثمانية رسمية. لكن ما حدث هو أن الحكومات التركية المتعاقبة حاولت ولازالت تحاول إخفاء الأمر أو تدميره، حيث يرتكز الإنكار لدى الحكومات التركية المتعاقبة على أمرين اساسيين:
- حجة تقديم النسخ الاصلية.
- رفض مذكرات نعيم وبرقيات طلعت باشا واعتبارها مزورة وهذا ما يعالجه الكتاب.
لكن هناك تعبير تركي يقول: “للحقائق عادة سيئة وهي أنها في نهاية المطاف تأتي تحت النور” فقد استطاع البروفيسور تنار أكجام بعد بحث مضنٍ وشاق لسنوات أن يصل إلى الكثير من وثائق جلسات محاكم اسطنبول الإستثنائية التي كانت قد وصلت إلى القدس بعد مرورها في مرسيليا (فرنسا) ومانشستر (بريطانيا).
يقول الكاتب، حسب تقرير صدر عن صحيفة لوموند الفرنسية، “بذلوا ما فى وسعهم لتلف الأدلة وطمس آثار الإبادة. ولن يتوانوا عن اختراع ما يدحض عملي. ولكن مسار الحقيقة انطلق! والكتاب هو أداة في يد المجتمع الدولى للضغط على الحكومة التركية. ولا يسع أي شعب المضي قدماً ما لم يواجه ماضيه”.
تنار أكچام، الذي أطلقت عليه جريدة نيويورك تايمز لقب “شرلوك هولمز القضية الأرمنية،” يوثّق البرقيات الموجودة في مذكرات نعيم أفندي حتى أدق التفاصيل ويقارنها مع آلاف الوثائق من الأرشيف العثماني (طرق التشفير، تواقيع والي حلب، تواريخ البرقيات، الأشخاص والأحداث المذكورة في المذكرات…إلخ)، وتوصل إلى أن البرقيات التي قدمها نعيم أفندي أصلية.
نعيم أفندي
عمل “نعيم” سكرتيراً في مديرية الترحيل (مديرية السوقيات) في حلب التابعة لمديرية إسكان العشائر والمهاجرين في وزارة الداخلية التركية، وقد اشترى منه الوثائق التي بحوزته ومذكراته الصحفي الأرمني “آرام انطونيان” الذي كان قد اعٌتقل مع بقية نخبة المجتمع الأرمني في اسطنبول في 24 نيسان 1915، وفقط نتيجة ظرف غريب تمكن من الفرار من الإعتقال والإعدام، وتمكن في 1918 من شراء الوثائق من “نعيم افندي” بعد سقوط حلب بيد الإنكليز، ولأن “نعيم” لم يغادر حلب فإن “انطونيان” قابله في فندق بارون بحلب المملوك للأخوين “مظلوميان” في أيام 6 و10 و 14 تشرين الثاني 1918، و اشترى منه حوالي 52 وثيقة عثمانية منها 24 وثيقة عثمانية أصلية إضافة لوثائق مستنسخة بخط اليد، 6 من الوثائق الــــــ 24 لها علاقة بالنائب الأرمني “كريكور زوهراب”، ولم يرد ذكرها في المذكرات على الإطلاق، ومن ضمن الوثائق الــــــــــ 24 هناك وثيقتان لم تُذكرا في المذكرات أيضاً وهما رسالتان مكتوبتان من قبل عضو اللجنة المركزية للاتحاد والترقي “بهاء الدين شاكر” .
قام “انطونيان” باستنساخ صور 14 من الوثائق الــــــ 24 في كتابه باللغة الأرمنية بما فيها رسالتا ” بهاء الدين شاكر”.
7 من الوثائق الــــــــ 24 هي برقيات مشفرة باستخدام تقنيات التشفير الرقمي الثنائي والتشفير الرقمي الثلاثي.
كتاب مثل هذا بوثائقه يمثل خطراً على الرواية الرسمية للتاريخ التركي التي تتبناها الجمهورية التركية لذا قام مجمع التاريخ التركي عام 1983 بنشر عمل كتبه (شيناسي اورال، وسوريا بوجا)، شَككّا فيه بوجود موظف عثماني اسمه “نعيم أفندي”، وأن كل من المذكرات والوثائق من وحي خيال “آرام انطونيان”.
لكن أول شخص عَثر على الوثيقة الأصلية التي وصلت لـــــ “تنار آكجام” هو القس “كريكور غوغوريان” ووجدها في مكتبة “بوغوص نوبار” في باريس عام 1950 فقام بتصويرها على الفور.
“اورال وبوجا” استندا على 3 تحفظات:
- لا يوجد شخص اسمه نعيم أفندي: الأرشيف العسكري لهيئة الأركان التركية يثبت وجوده حيث فتح معه من ضمن موظفين تلقوا رشى من أرمن في مخيم اللجوء في مَسكنة وضواحيها صيف 1916
- ليس واضحاً أن مذكرات نعيم أفندي هي نصوص أصلية أم لا؟
- الوثائق تتضمن أخطاء عديدة مثل التواقيع والتواريخ: بعد الإسهاب في التوضيح يخلص “آكجام” إلى أن البرقيات المشفرة التي أعطاها نعيم لآرام مشابهة للشيفرات الموجودة في الأرشيف العثماني
وببساطة يرد في الكتاب برقيتين ورد ذكرهما في لائحة الإتهام الموجهة لقادة حكومة الاتحاد والترقي التي بدأت في 28 نيسان 1919 ونُشِرت في الصحيفة العثمانية “تقويم وقايع” وتندرجان ضمن فئة المواد التي توثق نيّة الإبادة.
——————————————————————
اقرأ أيضاً عن المذابح العثمانيّة: “شاتو دسيفو”. / عام السيف
مقال جميل … تحياتي