ها نحن نقف مجدداً على أنقاض الحرب، نحصي الضحايا، نعدّ الخسائر، ونستعد لموسم جديد من إعادة الإعمار أو استكمال منهجية الانهيار. هي ذات المشاهد التي تتكرر منذ زمن في هذا الوطن، كما لو أنه قُدِّر لنا أن نعيش في دائرة لا نهائية من الدمار والترقيع، دون أن نسأل أنفسنا: هل نعيد البناء لنكرر نفس الأخطاء؟ أم سنكسر أخيراً هذا النمط المقيت من الانهيار؟
التناقض بين الجبهة الخارجية والداخل
بينما كان استبسال المقاومين يعلو على الحدود دفاعاً عن الأرض والكرامة، كان الداخل يعجّ برصاص عشوائي تحذيري لإنقاذ حياة المدنيين. وها هو اليوم يُطلق لا احتفاءً بالنصر، بل لترهيب البشر وتأكيد سيطرة الفوضى على الشارع. كأنهم يقولون للعامة: “نريدكم أحياء لنحسن استغلالكم”.
هل فعلاً استشهد المقاومون ليحيا زعران الشارع، تجار السياسة، وأصحاب الاحتكار؟ كأن تضحيات المقاومين تُستنزف لتقوية منظومة داخلية مترهلة تتغذى على الهدم بدل البناء.
هذا التناقض ليس وليد الصدفة، بل نتيجة نظام طائفي يفتقر إلى مشروع وطني حقيقي. فبينما تُبنى الأساطير حول بطولات الجبهة، تُهمل الساحات الداخلية، لتبقى مرتعاً للفوضى والاستغلال وملعباً للجهل. السؤال المؤلم هنا: كيف يمكن للوطن أن ينتصر خارجياً إذا ظلّ متآكلاً داخلياً؟
إعادة إعمار الحجر دون البشر
لطالما كانت سياسة ما بعد الحرب في لبنان تُختصر في بناء الحجر وإهمال البشر، تجميل الواجهة وترسيخ الكبت. لكن الحجر وحده لا يحمل وطناً، ولا يخلق مجتمعاً متماسكاً. نعيد ترميم المباني دون أن نسأل: ماذا عن التعليم الذي ينهار؟ ماذا عن الأجيال التي تربّت على الخوف والطائفية؟ ماذا عن الصحة النفسية التي تنهشها الحروب، البطالة والهجرة؟
إنَّ إعادة الإعمار التي لا ترافقها خطة لتنمية الإنسان ليست إلا مشروعاً لتكرار الانهيار. كيف يمكننا الحديث عن “النهضة” ونحن نعيش في مجتمع ينتج ذات الثقافة التي قادته إلى الخراب؟
الطوائف وحساب المكاسب
وكما في كل أزمة، تبدأ الطوائف سريعاً في مراجعة حساباتها: مَن كسب أكثر؟ مَن خسر؟ وكيف يمكن تعويض الخسارة وزيادة المكاسب؟
في هذا النظام، الشأن العام كان دائماً الضحية. المؤسسات تتهالك، والقرارات تُتخذ ليس بناءً على المصلحة الوطنية، بل وفقاً لميزان القوى الخارجي والطائفي.
إنَّ هذه الديناميكية ليست خطأً عابراً، بل هي جزء من تصميم نظام يضمن بقاء الانقسامات ويمنع أي مشروع حقيقي للتغيير. السؤال هنا: هل نملك الجرأة على مواجهة هذه المنظومة وكسر نمطها القاتل؟
الطريق إلى كسر النمط
لتحقيق هذا، علينا أن نتجاوز اجترار التجارب الفاشلة ونبدأ في التفكير خارج النمط المعهود. كيف؟
1. إعادة تعريف المشروع الوطني: لا يمكن للبنان أن ينهض إلا بمشروع يعيد الأولوية للوطن والمواطن، لا للطائفة ولا الزعيم ولا حتى المحور.
2. تعزيز العدالة والمساءلة: لا دولة بدون قانون، ولا أمل بدون قضاء مستقل يضع حداً للفوضى والتفلت.
3. تنمية البشر: التعليم، الصحة، الثقافة، والعمل؛ هي هذه الأساسات التي يجب أن نبدأ بها، قبل أن نفكر في بناء الجدران.
4. الهوية الوطنية: علينا أن نسأل أنفسنا: كيف نخلق هوية تجمعنا بدل أن تفرقنا؟
الخيار بين الاجترار وكسر المعهود
يبقى السؤال الأكبر: هل نملك الشجاعة لنكسر هذا النمط؟ أم أننا سنستمر في اجترار تجاربنا، مكتفين بالحلول المؤقتة التي تؤدي حتماً إلى انهيارات جديدة؟
التاريخ لا يرحم من يكرر أخطاءه، والمستقبل لا ينتظر من يكتفي بالترقيع. إذا أردنا أن نحيا حقاً في وطن يستحقنا ونستحقه، فعلينا أن نواجه أنفسنا بصدق قبل القاء اللوم على الآخر: هل نحن مستعدون للتغيير؟ أم أننا سنظل أسرى دائرة الخوف والانهيار؟
الإجابة ليست في الخطابات ولا في المقالات ولا حتى في صرخات الحفلات الصاخبة او في علم الغيب والمعجزات الميتافيزيقية، بل في الخيارات الصحيحة والقرارات الجريئة.