العالم الآن

الولايات المتحدة الأميركيّة والإسلام السياسي

العلاقة الملتبسة؟

[كان الباحث أحمد أصفهاني، قد وضع هذه الدراسة منذ عدّة سنوات، في إطار تاريخي يبتدئ في أواخر القرن التاسع عشر ويصل حتى العام 2011، عندما امتد (الربيع العربي) إلى غير دولة وبدا العصب المحرّك والمستثمر فيه جماعة (الإخوان المسلمين) التي تعتبر الأبرز في حركات الإسلام السياسي.

ورغم توقف السرد التاريخي للدراسة عند هذا الحد، إلاَّ أنها تكثّف تاريخاً من (العلاقة الملتبسة) ما بين الإسلام السياسي والولايات المتحدة الأميركية، يشكل خلفية ضرورية لأي باحث أو لأي قارئ مهتم بالاطلاع على هذه العلاقة، التي تتواصل إلى الآن وفق المنهج نفسه. سيرجيل]

                                                                                            

الولايات المتحدة الأميركيّة والإسلام السياسي

 

العلاقة الملتبسة؟

 

بات من الواضح أن الولايات المتحدة الأميركية أعادت صياغة طبيعة علاقاتها مع حركات الإسلام السياسي بعد سنوات من الغموض الناجم عن جملة من الأحداث السياسية العالمية، بعضها من صنع الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ العام 1979، سنة إنتصار الثورة الإسلامية في إيران، وبعضها الآخر ناجم عن تطورات إقليمية وعالمية لعل أبرزها سقوط الإتحاد السوفياتي وإنهيار المعسكر الإشتراكي في أوروبا الشرقية إبتداء من العام 1990.

ونحن نقصد بعبارة “الإسلام السياسي” كل الجماعات والأنظمة التي تتخذ الإسلام منهجاً إيديولوجياً للحراك السياسي، أو تطبق أحكام الشريعة في إدارة شؤون الدولة. ويدخل في هذا التعريف دول مثل إيران والسعودية والسودان وأفغانستان (عندما حكمتها حركة “طالبان”)، وتنظيمات مثل “حزب الله” و”حماس” و”الجهاد الإسلامي” و”القاعدة” و”الجبهة الإسلامية للإنقاذ” وغيرها، وأحزاب مثل “جماعة الإخوان المسلمين” في فروعها المختلفة و”حزب التحرير الإسلامي” و”حزب النهضة الإسلامي” وغيرها.

ويعتقد بعض المراقبين أن خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما في جامعة القاهرة بتاريخ 4 حزيران 2009 هو الذي إفتتح عهداً جديداً في نظرة الولايات المتحدة الى الإسلام بصورة عامة، والإسلام السياسي بصورة خاصة. لكن الواقع أن ذلك الخطاب كان تصويباً لإشكالات مؤقتة شابت العلاقات المصلحية التاريخية بين أميركا وحركات الإسلام السياسي. وقد أوضح أوباما في خطابه الموقف الأميركي عندما قال: “إن المسألة الأولى التي يجب أن نجابهها هي التطرف العنيف بكافة أشكاله”. وشدد على أن “يلعب الإسلام دوراً هاماً في دعم السلام”. (1)

ومضمون هاتين العبارتين يوضح جزءاً من إستراتيجية واشنطن في التعامل مع حركات الإسلام السياسي في العالم العربي منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. أما الإطار العام لتلك الإستراتيجية فيقوم على الأسس التالية:

1 – مواجهة الإتحاد السوفياتي والمد الشيوعي وكل الدول المتحالفة معه (وذلك في الفترة الممتدة حتى إنهيار المعسكر الإشتراكي سنة 1990).

2 – حماية الدول المنتجة للنفط (والغاز لاحقاً)، وضمان أمن إمدادات الطاقة عبر الخطوط والممرات الحيوية.

3 – عدم التعرض لدولة إسرائيل، وتجنب الإنخراط الفعلي الجاد في محاربتها والتحريض على وجودها. وقد كان وزير الخارجية الأميركي هنري كيسينجر هو الذي صاغ هذا المبدأ في سنة 1970، وتعزز الأمر أكثر بعد سقوط نظام الشاه في إيران بحيث أصبحت إسرائيل النقطة المركزية المحورية للإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.

وظل هذا الإطار العام معمولاً به على مدى عقود، وساهم في خدمة المصالح الأميركية المتنوعة تماماً كما ساعد في حماية الأنظمة العربية والإسلامية المتناغمة مع تلك المصالح. لكن طرأ في مطلع تسعينيات القرن الماضي تغير كان مخالفاً لطبيعة الأمور، أدى الى طغيان التناقض بين واشنطن وبعض حركات الإسلام السياسي على حساب الأهداف المشتركة (وهذا ما سنتناوله بالتفصيل لاحقاً). ولم يكن أوباما أول من أدرك حقيقة أن ما وصلت إليه الأوضاع ليس في صالح الولايات المتحدة على الإطلاق، بل صدرت في السنتين اللتين أعقبتا الهجمات على نيويورك وواشنطن في 11 أيلول 2001 مجموعة من الدراسات الإستراتيجية تحث الإدارة الأميركية على الإنخراط مجدداً مع حركات الإسلام السياسي ضمن شعار فضفاض يقوم على “إستخدام الإسلام السياسي المعتدل في مواجهة الإسلام المقاوم أو الإسلام المتطرف” (2)، علماً أن المنطق الأميركي السائد يضع المقاومة والتطرف في خانة واحدة.

خطاب أوباما في القاهرة كان التعبير الإعلامي وعلى أعلى مستوى رسمي لتوضيح هذا التغيير الإستراتيجي الذي أقبلت عليه الإدارة الأميركية الجديدة منذ العام 2009. والتطورات التي نعيشها اليوم تدخل في هذا السياق من حيث الإنفتاح الأميركي والغربي على حركات الإسلام السياسي، ومن حيث الإستعداد لقبول مشاركة هذه الحركات في حكم البلدان العربية والإسلامية وفق المعايير التالية:

أولاً: عدم تهديد الأنظمة الحليفة لأميركا والغرب.

ثانياً: عدم معاداة الغرب في قيمه وإستراتيجياته.

ثالثاً: عدم التنكر للعملية الديموقراطية بعد الإنخراط فيها.

رابعاً: عدم اللجوء الى العنف والنشاطات الإرهابية والقمعية (في حال الوصول الى السلطة).

 

خامساً: عدم الوقوف ضد العملية السلمية بين إسرائيل والفلسطينيين (أو أي من الدول العربية الساعية الى التطبيع).

هذه الدراسة المكثفة تسعى الى تبيان أن القطيعة بين الولايات المتحدة وحركات الإسلام السياسي كانت مؤقتة وسطحية، وقد وقعت نتيجة ظروف خارجة عن سيطرة الفريقين، أو أحدهما على الأقل. وبالتالي فإن المرحلة الحالية (والمقبلة) ستكون بمثابة عملية تصحيح مشتركة الغاية النهائية منها تركيز التعاون الأميركي مع حركات الإسلام السياسي على قواعد إستراتيجية، بعد أن يكون الغرب قد تمكن – بالتعاون مع تلك الحركات – من توجيه ضربات قاضية لأنظمة وجماعات تصنفها واشنطن في دائرة المقاومة أو التطرف أو الإرهاب.

وسنركز على السنوات بين 1993 و1996 التي شكلت، في رأينا، الحد المفصلي في القطيعة الدموية المرحلية، بين الولايات المتحدة (ومعها الدول الأوروبية الغربية) من جهة وبين حركات الإسلام السياسي من جهة أخرى، وذلك بعد علاقة وثيقة متواصلة إستمرت منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وبلغت ذروتها الإندماجية في “حرب المجاهدين” ضد الإحتلال السوفياتي لأفغانستان الذي لاحت تباشيره في كانون الأول سنة 1979. وسيتضح لنا في سياق هذا البحث مغزى وأهمية السنوات 1993 – 1996. ثم نصل الى المرحلة الراهنة، لنتبين مجريات إعادة التموضع التي يقوم بها كل من الولايات المتحدة وحركات الإسلام السياسي.

إطار تاريخي

 

في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كان الحراك الإسلامي السياسي جزءاً عضوياً من الحراك السياسي العام في سياق توجه العالمين العربي والإسلامي للأخذ بتلابيب النهضة الأوروبية التي إحتك بها الشرق من موقع ضعف وتراجع. وقد إتخذ المفكرون الإسلاميون آنذاك واحداً من موقفين: إعتبار أن تخلف المسلمين ناجم عن تخليهم عن “الصراط المستقيم” وتبنيهم للقيم الغربية المادية العلمانية الملحدة، وبالتالي الدعوة الى الرفض الكامل للنموذج الأوروبي في مقابل العودة الى نموذج “السلف الصالح” في العصور الإسلامية الأولى… أو القبول بالإنجازات العلمية الغربية لكن مع الحفاظ على الهوية الحضارية التاريخية للمجتمعات الإسلامية.

ونستطيع تلمس هذين الموقفين في كتابات مفكري تلك المرحلة من أمثال رفاعة رافع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد رشيد رضا وعلي عبد الرازق وغيرهم. من دون أن ننسى بالطبع الأصوات الأخرى المشابهة في الجزيرة العربية والمغرب العربي، مع الأخذ في الحسبان التمايزات العميقة لكل من هذه المناطق نظراً الى تنوع الظروف السياسية والإجتماعية والإقتصادية بينها. وعلى رغم إختلاف هؤلاء المفكرين في تحليل أسباب وعوامل “إنحطاط المسلمين”، وكذلك في وصف أفضل السبل لتحقيق “النهضة الإسلامية”، إلا أنهم إتفقوا على أن الإسلام يتضمن في ذاته عناصر كفيلة بنقل العالم الإسلامي الى عصر التطور والتقدم على كل المستويات.

بعض الباحثين يعتقد بأن صدمة المفكرين الإسلاميين الكبرى جاءت بعد الحرب العالمية الأولى عندما ألحقت الدول الأوروبية هزيمة ماحقة بسلطنة الخلافة العثمانية، وأسقطت ديار المسلمين تحت الإحتلال الإفرنجي المباشر للمرة الأولى منذ إنتهاء الحروب الصليبية. غير ان هذا الإعتقاد يحمل جانباً من الصحة فقط، إذ سبق لعدد من المناطق العربية والإسلامية أن وقع تحت السيطرة الأجنبية منذ منتصف القرن التاسع عشر على الأقل. بل وتعرضت السلطنة بذاتها الى تدخلات خارجية مُذلة منذ مطلع ذلك القرن، تمثلت في تناهش ممتلكات “الرجل المريض” وفرض الوصاية عليه، وإسباغ الحماية على الأقليات غير المسلمة القاطنة في أنحاء السلطنة.

واجه غالبية المفكرين المسلمين هذا الواقع بمجموعة من المشاريع التغييرية الجديدة التي كان محورها المركزي الحفاظ على دولة الخلافة. وكانت الكارثة الأكبر والأخطر بالنسبة إليهم سقوط هذه الدولة في العام 1924، ليس على يد “الأوروبيين الإستعماريين” بل بقرار من الرئيس التركي “المسلم” مصطفى كمال أتاتورك الذي إنتهج سياسة “علمانية” قاسية في تركيا الخارجة منهكة من الحرب الكبرى. وتعزز لدى أولئك المفكرين الشك بمخططات الغرب، وبكل من يروج للمفاهيم الغربية الديموقراطية والعلمانية في العالمين العربي والإسلامي.

في أعقاب إسقاط منظومة الخلافة الإسلامية في إستنبول، نشأ تنافس عربي لإحيائها في كل من مصر والجزيرة العربية، وإن بصورة شكلية ولإعتبارات سياسية إقليمية لا علاقة لها بالقضايا الدينية. في المرحلة الأولى، وقفت بريطانيا، بوصفها القوة الإستعمارية المهيمنة على المنطقة آنذاك، الى جانب الطرفين مستخدمة إسلوب “فرق تسد” الذي أجادت توظيفه في الصراع بين عبد العزيز آل سعود من ناحية والأشراف الهاشميين الحاكمين في الحجاز من ناحية ثانية. وشجع الفراغ الذي حدث على مستوى السياسة الإسلامية من جراء إلغاء الخلافة على تأسيس جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر سنة 1928. في حين كانت الدولة السعودية الصاعدة آنذاك نتاجاً طبيعياً لتحالف القيادة القبلية (أو لنقل التحالف القبلي) ممثلة بآل سعود والقيادة الدينية الوهابية بزعامة آل الشيخ. وهكذا باتت هناك “جماعتان إسلاميتان” تقفان خلف نظامين يسعى كل منهما الى إنتزاع قيادة الخلافة التي تخلى عنها أتاتورك.

لن ندخل في خلفيات ظروف نشأة “جماعة الإخوان المسلمين” في مصر، وإنما نريد الإشارة الى أن الإسلام السياسي منذ نشأته إتخذ أشكالاً تنظيمية وفكرية متعددة، وكانت له تأثيرات مختلفة حسب الدول وأوضاع كل واحدة منها. والملفت أن جماعات الإسلام السياسي كانت حركية، بمعنى أنها تطور أنماط نشاطها بناء على التحديات التي تواجهها. ونظرة متأنية الى تاريخ “جماعة الإخوان” في مصر تؤكد لنا هذه النزعة، فبعد مرحلة تأسيسية من العمل التبشيري والدعوة والحراك الإجتماعي تخللتها أعمال عنف محدودة، جاءت تنظيرات سيد قطب لتعزز الإتجاه الجهادي إنطلاقاً من الحديث النبوي “إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده”، وكذلك ما روي عن الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب إذ قال: “من رأى منكم فيّ إعوجاجاً فليقومه بحد السيف”. طبعاً من دون أن ننسى كتابات المفكر الباكستاني أبو الأعلى المودودي التي تعتبر دليل عمل الحركات الإسلامية، خصوصاً الجهادية منها. (3)

ونظراً الى أن “جماعة الإخوان” مارست العمل السياسي على نطاق واسع، ولم تكتفِ بالعمل التبشيري فقط، فقد كانت هي الرحم الخصب لولادة غالبية الحركات الإسلامية الجهادية في المراحل اللاحقة. ولعل من أسباب ذلك، أن الجماعة تعرضت لإضطهادات وضغوط عنيفة في كثير من الدول العربية والإسلامية ما ألجأ بعض قيادييها وعناصرها الى إنتهاج أعمال العنف في مواجهة السلطات الحاكمة.

ونرى من المهم هنا ذكر شيء عن “جماعة الإخوان” في سورية التي إنتهجت العمل المسلح في ثمانينيات القرن الماضي. فبداية هذه “الجماعة” على الساحة السورية ترجع الى الثلاثينيات عندما عاد عدد من الطلبة السوريين الذين درسوا الشريعة في القاهرة، متأثرين بفكر “الإخوان المسلمين” هناك، ليؤسسوا في دمشق منظمة عُرفت بإسم “شباب محمد”. ومع أن “الجماعة” السورية لم تحظ بإنتشار شعبي واسع، إلا أن الرئيس المصري جمال عبد الناصر منعها من العمل في فترة الوحدة المصرية – السورية. وفي العام 1973 إضطرت القيادة السورية الى إدخال تعديل على الدستور المقترح، وقد كان ميالاً الى العلمانية، بسبب ضغط رجال الدين المسلمين (وكان بعضهم من الإخوان)، وأدخلت عبارة تنص على أن الإسلام هو دين رئيس الدولة السورية. ثم جاء التدخل السوري في لبنان ليعطي “جماعة الإخوان” ذريعة التحرك ضد النظام، وهو تحرك بلغ ذروته بين 1980 و1982 عندما إعتمدت “الجماعة” العنف المسلح وسيلة لمواجهة نظام الرئيس السوري حافظ الأسد.

نعود الآن الى الجزيرة العربية حيث كانت تجري تغيرات حاسمة. فبعد هزيمة الهاشميين وطردهم من الحجاز، إعتمد إبن سعود على قاعدته الدينية الجديدة كي يعزز نفوذه السياسي على مستوى العالم العربي. وكان العنصر الإسلامي محركاً أساسياً في المواجهة، خصوصاً مع مصر التي كانت تؤمن بأحقيتها في “الخلافة” التي تخلت عنها تركيا الأتاتوركية. وفي تلك الفترة بالذات نشأت علاقات معقدة بين الإسلام السياسي، وبالتحديد “جماعة الإخوان المسلمين”، والأنظمة السياسية المختلفة الساعية الى إسباغ نوع من الشرعية اللاهوتية على سلطاتها الزمنية المتحالفة مع الدول الغربية بوصفها القوى الإنتدابية أو الإستعمارية في العالمين العربي والإسلامي.

وإلى تلك الفترة بالتحديد يمكن أن نعيد تحول بعض حركات الإسلام السياسي الى أدوات بأيدي قوى محلية وإقليمية وعالمية قد لا تكون معنية فعلاً ومهتمة بإقامة نظام إسلامي. وأهمية هذه الحركات بالنسبة الى الأطراف الخارجية أنها قادرة على تحريك الجماهير وتأليبها إعتماداً على المشاعر الدينية التي ما زالت من العوامل الأكثر فعالية في أوساط الشعب.

أما الولايات المتحدة الأميركية فقد ركزت بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى على مسألتين في منطقة الشرق الأوسط: تأمين مصادر النفط وحماية طرق إمداداتها، والوصول الى الأسواق الإستهلاكية المفتوحة بغض النظر عن السلطات الإنتدابية أو الإستعمارية. وكان ذلك بعد أن تخلت واشنطن عن مباديء ويلسون القائمة على حق الشعوب في تقرير مصيرها، وكشفت عن وجهها الحقيقي الذي لم يختلف كثيراً عن وجوه الدول الأوروبية الإستعمارية. وفي العام 1933 تم توقيع أول إتفاق بين شركة النفط الأميركية (آرامكو لاحقاً) والمملكة العربية السعودية. يومها وجهت واشنطن إهتمامها الى المصالح الإقتصادية في الشرقين الأوسط والأدنى من دون أن تدخل في منافسة سياسية مباشرة مع البريطانيين والفرنسيين. غير أن الإتفاق النفطي كان في الواقع فاتحة علاقة إستراتيجية خاصة مع السعودية لم تتغير حتى الآن.

خلال الثلاثينيات والأربعينيات الماضية، كانت السمة العامة للحراك السياسي آنذاك النضال من أجل الإستقلال الوطني. ومع أن فرنسا وبريطانيا الإستعماريتين إستخدمتا كل الأساليب للإيقاع بين القوى الوطنية المختلفة، إلا ان التناقض بين حركات الإسلام السياسي والأحزاب والقوى القومية واليسارية لم يصل الى حد الصدام المباشر والشامل. وظلت العلاقات في ما بينها محكومة بالسعي الى التحرر والإستقلال الوطني.

وحافظت الولايات المتحدة على نوع من الحيادية في تعاطيها مع قضايا المنطقة بعيداً عن مخططات “الإستعمار القديم”، لكن تغييراً مفصلياً حدث في أعقاب اللقاء الشهير بين الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس الأميركي تيودور روزفلت على متن إحدى السفن الحربية الأميركية في منطقة البحيرات المرة الواقعة بين بورسعيد والسويس بتاريخ 22 كانون الثاني 1945، في وقت أشرفت الحرب العالمية الثانية على النهاية. وكان روزفلت عائداً لتوه من مؤتمر يالطا الذي جمعه الى كل من وينستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا وجوزف ستالين الرئيس السوفياتي. وهذه القوى الكبرى الخارجة منتصرة من الحرب كانت في صدد رسم إستراتيجية عالمية جديدة لإقتسام مناطق النفوذ والمصالح.

ما يهمنا من لقاء روزفلت وعبد العزيز أنه أعلن الولايات المتحدة لاعباً أساسياً في المنطقة على حساب “أوروبا القديمة”، وفي الوقت نفسه أسس لتلك العلاقة الخاصة بين واشنطن والرياض القائمة على تأمين الحماية للدولة السعودية مقابل النفط وعائدات النفط والنفوذ الأميركي الإستراتيجي. ويتضمن هذا التفاهم، بطريقة غير مباشرة لكن شديدة الوضوح، القبول بالإسلام السياسي الوهابي كجزء عضوي في السياسة السعودية داخلياً وخارجياً. وهذا ما تحقق في العقود اللاحقة عندما أصبح الفكر الوهابي السلفي أداة أيديولوجية مهمة في عدد من الدول الإسلامية وغير الإسلامية حيث تقيم جاليات إسلامية كبيرة العدد.

بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، طرأت مسألة جديدة على التفكير الإستراتيجي الأميركي في ما يتعلق بالشرق الأوسط تمثلت بصعود الإتحاد السوفياتي وإنتشار المنظومة الإشتراكية الشيوعية في أوروبا الشرقية. فكان من الضروري والحالة هذه أن تسعى الولايات المتحدة الى إيجاد أفضل السبل لمنع النفوذ السوفياتي من التمدد جنوباً بإتجاه “المياه الدافئة” في الخليج العربي. فكان التركيز على كل من تركيا وإيران كحاجز يقف في وجه دول المعسكر الإشتراكي في أوروبا من جهة، ويعرقل قيام أي نظام مناهض للغرب في الشرقين الأوسط والأدنى من جهة أخرى.

ثم قامت الدولة الصهيونية في فلسطين في أواخر أربعينات القرن الماضي، وأصبحت على الفور المسألة الرابعة في التفكير الإستراتيجي الأميركي: النفط، الأسواق المفتوحة، الخطر السوفياتي، وإسرائيل… وإن كانت هذه الأولويات تغيرت لاحقاً لتصبح الدولة الصهيونية هي الإهتمام الإستراتيجي الأول والأبرز لكل الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ العام 1949 وحتى اليوم. ولذلك لم يكن مستغرباً على الإطلاق الدفع الأميركي الحثيث لقيام تعاون وثيق، بل وتحالف إستراتيجي على كل الأصعدة، بين تركيا الأتاتوركية وإيران الشاهانية وإسرائيل.

خلال الأربعينيات والخمسينيات تعزز التعامل الأميركي مع “جماعة الإخوان المسلمين” بوصفها أهم حركات الإسلام السياسي آنذاك. “ويمكن تقسيم هذا التعامل الى ثلاث محطات رئيسية: المحطة الإبتدائية في إدارة الرئيس دوايت أيزنهاور وعنوانها “مكافحة إستقطاب الإسلاميين”. والمحطة الثانية في الولاية الثانية للرئيس جورج دبليو بوش الإبن تحت عنوان “الإسلاميون المعتدلون في مواجهة الإسلاميين المتطرفين”. والمحطة الحالية في إدارة الرئيس باراك أوباما تحت عنوان “سد الفراغ وإدارة التحول الديموقراطي”… إدارة الجنرال إيزنهاور في الخمسينات كانت ترى أهمية الدين كسلاح في مواجهة الشيوعية كحالة إلحادية. ومن هذا المنطلق وقع الخيار على “الإخوان المسلمين” لقيادة هذا التوجه. وتمت على هذا الأساس دعوة القائد الإخواني المعروف سعيد رمضان الى واشنطن تحت غطاء أكاديمي. والملفت في الأمر أن وكالة الإستخبارات المركزية (سي أي إي) يومها كانت ضد هذا التوجه الذي كان يعول عليه البيت الأبيض، فوصفت سعيد رمضان في أحد تقاريرها بأنه “فالانج”، ومرة بأنه “فاشستي” يجمع الشباب المسلم للوصول الى السلطة. لكن الإستخبارات المركزية بعد وصول رمضان الى واشنطن غيّرت رأيها. وأقامت معه علاقات عمل لعدة سنوات. ومن أبرز ثمار تلك العلاقة مساعدة الإستخبارات المركزية له من أجل السيطرة على جامع ميونيخ في ألمانيا الغربية، فأصبحت ألمانيا منذ ذلك الوقت ملاذ جماعات “الإخوان المسلمين” الناشطين خارج بلدانهم. (4)

ظهرت أهمية هذا التفاهم، وكذلك أهمية حركات الإسلام السياسي في الخمسينات عندما إنتشر المد الوطني والقومي في معظم أنحاء العالم العربي مستفيداً من إنتصار الثورة المصرية سنة 1952 وإتساع حركات التحرر الوطني في آسيا وإفريقيا. فالأحلاف التي سعت واشنطن الى إقامتها في المنطقة ركزت على عامل الدين بوصفه المعادل الوازن ضد الإيديولوجيات القومية واليسارية العلمانية. وفي تركيا، على سبيل المثال، رغم مزاعم الجيش بمنع رجال الدين من التدخل في شؤون الدولة، فإن القيادات التركية المتعاقبة شجعت ورعت ودعمت مدارس “إمام – خطيب” (سنقدم المزيد عنها لاحقاً) كمدماك أساسي في محاربة الحركات اليسارية في تركيا وجوارها. والشيء نفسه ينطبق على أندونيسيا وباكستان، خصوصاً الثانية منهما، حيث تغلغلت النزعات السلفية على نطاق واسع مدعومة بالتمويل الخليجي والحماية الأميركية والأوروبية.

على مستوى العالم العربي، خصوصاً بعد سقوط النظام الهاشمي في العراق، وتحوّل الرئيس المصري جمال عبد الناصر الى السياسات الإشتراكية، وبداية أفول الإستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا، والبريطاني في الخليج العربي وجنوب اليمن، أدركت واشنطن والعواصم الغربية الكبرى أن ورقة الإسلام السياسي هي الوسيلة الوحيدة والأنجع للوقوف في وجه تيار الناصرية الجارف.

وتعتبر العلاقة الإشكالية بين عبد الناصر و”جماعة الإخوان المسلمين” مؤشراً الى طبيعة وغايات دور الحركات الإسلامية آنذاك. سيد قطب، أحد أبرز قياديي الجماعة وكبير منظريها، إعتقل سنة 1954 وبقي في السجن حتى سنة 1964. لكنه لم ينعم بالحرية أكثر من ثمانية أشهر ليعتقل مجدداً ويحاكم ويعدم في 29 آب سنة 1966، وبذلك طويت صفحة أخرى من الصراع الدموي بين الناصرية و”الإخوان”.(5)

ونستطيع أن نضيف هنا عاملاً آخر تمثل في قيام حلف بغداد في شباط 1955 بين تركيا والعراق (إنضمت إليه لاحقاً بريطانيا)، في حين كان النظام الهاشمي في الأردن يتأرجح بين معسكري المؤيدين والرافضين، بينما وقف لبنان على الحياد الأقرب الى التأييد. الولايات المتحدة لم تكن عضواً رسمياً، غير أنها شاركت في كل الإجتماعات. مصر الناصرية رفضت من حيث المبدأ منطق الأحلاف في المنطقة، فكان ذلك بداية الإصطدام السياسي الذي أوصل في أيلول سنة 1955 الى توقيع أول صفقة تسلح بين مصر وتشيكوسلوفاكيا. وهكذا دخل العالم العربي مرحلة الإستقطاب الحاد، ووقفت جماعات الإسلام السياسي الى جانب المعسكر الغربي ضد المعسكر الإشتراكي “الملحد”.

ومن المهم هنا أن ننظر الى الصدام المرير بين النظام الناصري و”الإخوان المسلمين” آنذاك في سياق الحرب المصرية في اليمن التي إستمرت من سنة 1962 الى سنة 1970، وكانت في الواقع حرباً بالوكالة بين مصر التي دعمت اليمنيين الجمهوريين والسعودية التي وضعت كل ثقلها الى جانب اليمنيين الإماميين.

لكن التغيير الجدي في موازين القوى لم يتحقق إلا بعد هزيمة حزيران 1967 التي أفقدت الناصرية رونقها ومصداقيتها، وأتاحت لدعاة الإسلام السياسي مجالات أوسع للإنتشار في أوساط شعوب عربية أذهلتها الهزيمة غير المتوقعة. تلك الكارثة كانت نقطة تحول أساسية. فمن ناحية أولى تأكد فشل الأنظمة الإشتراكية التقدمية، ومن ناحية ثانية لا يمكن الركون الى الدول العربية المرتبطة بالغرب… فكانت الدعوة للعودة الى الإسلام بوصفه المخرج الوحيد من أزمات العالمين العربي والإسلامي تحت شعار عريض “الإسلام هو الحل”. وبقدر ما كانت الناصرية تتراجع بعد تلك الهزيمة أمام حراك نضالي جديد تمثل في إنطلاق الثورة الفلسطينية في الأراضي المحتلة ومخيمات اللاجئين في الأردن ولبنان وسورية، بقدر ما كانت السعودية تسعى الى الإستفادة من هذه الفرصة التاريخية لتقديم بديل عن الناصرية وعن التيارات اليسارية والقومية المتصاعدة في تلك المرحلة.

وحانت اللحظة الحاسمة بعد إقدام اليهود على إحراق المسجد الأقصى في آب سنة 1969، إذ دفعت الرياض بإتجاه تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي التي عقدت مؤتمرها الأول في الرباط في أيلول سنة 1969. وتحولت منذ ذلك الحين الى إطار عمل تنظيمي له دور حيوي على المستويين الإقليمي والعالمي.

وقبل الإنتهاء من هذا العرض التاريخي المكثف، لا بد من الإشارة الى حرب السادس من تشرين الأول 1973 عندما بادرت الدول العربية الى مباغتة إسرائيل والإنتصار عليها في الضربات الأولى الصاعقة. كانت تلك آخر محاولات النظام العربي الرسمي لتحقيق إنجاز عسكري يعوض النكسات والنكبات منذ قيام دولة إسرائيل. وبعيداً عن توجيه أصابع الإتهام الى هذا الطرف أو ذاك، فقد “نجح” النظام العربي الرسمي في تحويل الإنتصارات الأولية المذهلة الى تراجعات مهينة، مهدت لدخول الولايات المتحدة لاعباً أوحد في المنطقة إعتماداً على سياسة “الخطوة خطوة” التي نظر لها وطبقها هنري كيسينجر وزير الخارجية الأميركي آنذاك. تلك السياسة أوصلت العالم العربي لاحقاً الى إتفاقات “فك الإرتباط” ثم الى معاهدات الصلح مع إسرائيل.

“النموذج التركي”

من الأخطاء السياسية والتاريخية الشائعة أن أتاتورك، مؤسس الدولة التركية الحديثة ذات التوجه العلماني، طبق سياسة متشددة ضد المؤسسات الدينية الإسلامية، كيف لا وهو الذي إستبدل الحرف العربي بالحرف اللاتيني وحظر الآذان باللغة العربية ومنع رجال الدين من التدخل في شؤون الدولة. غير أن الواقع كان مختلفاً لجهة أن قراره كان يستهدف السيطرة على المؤسسات الدينية وتوظيفها في خدمة أهداف الدولة، وليس مجرد إلغائها. ففي عشرينات القرن الماضي، تأسست مدارس دينية في تركيا عُرفت بإسم “إمام – خطيب” هدفها تخريج الموظفين الدينيين المسلمين. وكان المنهج التعليمي يضم حوالي 40 في المائة فقط من المواد الدينية مثل اللغة العربية والفقه والبلاغة، في حين يُخصص القسم الباقي كله للمواد العلمانية.(6)

ولعبت هذه المدارس دوراً أكبر في الأربعينات والخمسينات والستينات الماضية، إذ إستخدمتها الدولة كأداة مهمة لمحاربة التيارات اليسارية والشيوعية والقومية التي كانت فاعلة في سياق الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والإشتراكي. يومها كانت تركيا الأطلسية خط المواجهة الأول أمام منظومة الدول الإشتراكية وحلف وارسو السوفياتي. ولم تكن هذه السياسة لتختلف عن مثيلاتها في الدول العربية والإسلامية التي وجدت في الإسلام السياسي خير وسيلة لمكافحة الشيوعية ومحاربة المد الإشتراكي التقدمي.

ومن الملفت للنظر أن مدارس “إمام – خطيب” ظلت تقدم مستوى مرتفعاً من التعليم وبتكلفة منخفضة تحظى بالشعبية بين الأسر المحافظة حتى العام 1997، عندما إستهدفها الإنقلاب العسكري الذي أطاح بأول حكومة تركية يقودها إسلاميون سنة 1996.

كانت هناك في تركيا حوالي 600 مدرسة “إمام – خطيب” تقوم بتعليم أكثر من نصف مليون تلميذ في الصف الثاني خلال التسعينات. لكن القرار العسكري صدر بإغلاق المدارس التي تعلم التلاميذ في سن ما بين 11 و14 سنة. كما تلقى هذا النظام ضربة أخرى بسبب التغييرات في شروط القبول بالجامعات والتي تربط المواد التي درسها الطالب بالإختصاصات الجامعية التي يرغبها. ومعنى هذه التغييرات التي أدخلت بعد سنة 1997 أنه ما لم يختر خريجو مدارس “إمام – خطيب” متابعة الدراسة الدينية أو اللغوية فإنهم سيجدون فرصهم أقل بكثير من خريجي المدارس العادية.

وأخيراً تجدر الإشارة الى أن صفوة أعضاء “حزب العدالة والتنمية” ذي الجذور الإسلامية، والذي تولى السلطة في تركيا العام 2002، هم من خريجي هذه المدارس، ومن بينهم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وحوالي ثلث نواب “حزب العدالة والتنمية” في البرلمان الحالي.

متغيرات جذريّة

كان العام 1979 سنة التحديات المعقدة والمتشابكة بالنسبة الى الولايات المتحدة الأميركية على مستوى رسم الإستراتيجيات الإقليمية، وعلى مستوى “الحرب الباردة” مع الإتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الإشتراكية. جاء إنتصار الثورة الإسلامية في إيران، وإنتهاج الإمام الخميني خطاً معادياً لأميركا وإسرائيل، ليغيرا المعادلات الإقليمية في منطقة شديدة الحساسية للقوى الكبرى. في شباط 1979 أسقط الإيرانيون نظام الشاه، وفي تشرين الثاني من العام نفسه إحتجز الطلاب الثوريون الإيرانيون 52 ديبلوماسياً أميركياً في طهران في عملية إستمرت 444 يوماً. وفي كانون الأول 1979 إندفعت أول كتيبة سوفياتية داخل الأراضي الأفغانية لتبدأ فصول صعبة من الإحتلال السوفياتي العسكري لأفغانستان.

آنذاك كان السوفيات يمرون في مرحلة تراجع، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط حيث لم يعد لديهم سوى مجموعة محدودة من الحلفاء بعد أن أقدم الرئيس المصري أنور السادات في صيف العام 1972 على طرد كل الخبراء السوفيات من مصر، وكان عددهم يناهز الخمسة عشر ألفاً. ولذلك لم يترددوا في غزو أفغانستان عندما واجهت تلك الدولة الحليفة إضطرابات داخلية، وهو الأمر الذي إعتقدت موسكو أنه سيؤثر سلباً على الجمهوريات السوفياتية الإسلامية في آسيا الوسطى، والمجاورة لأفغانستان وإيران (التي كانت قد دخلت للتو مرحلتها الثورية الإسلامية الجديدة غير واضحة المعالم والإتجاهات).

أظهرت إدارة الرئيس جيمي كارتر تردداً في التعاطي مع أزمة الرهائن في السفارة الأميركية بطهران. إذ للمرة الأولى تجد واشنطن نفسها بمواجهة إسلام سياسي مختلف عما تعاطت معه وإستخدمته بفعالية في معاركها ضد المد الشيوعي والأنظمة الإشتراكية والتقدمية على مدى الخمسينات والستينات والسبعينات. كان الخوف من الثورة الإسلامية في إيران يخفي خوفاً من قيام حركة إسلامية شاملة ذات إتجاهات ثورية. وباتت المعادلة على الشكل التالي: الخطر الإيراني يساوي الخطر الإسلامي (أي الحراك الإسلامي غير الخاضع للغرب)، وأصبح من الملح العمل الدؤوب للفصل بينهما. وإقترح بعض الخبراء السياسيين الأميركيين تقسيم هذا الواقع المستجد إلى: إسلام سياسي معتدل وإسلام سياسي ثوري. وكان على واشنطن أن تعالج حالتين إسلاميتين، بغض النظر عن تحليلات الخبراء: نموذج الثورة الإسلامية الإيرانية ونموذج المجاهدين في أفغانستان.(7)

ثورة إيران الإسلامية والغزو السوفياتي لأفغانستان وضعا الولايات المتحدة أمام معضلة مزدوجة: ما هي الأدوات المحلية لمواجهة إيران الإسلامية من جهة وأفغانستان الإشتراكية اليسارية من جهة أخرى؟ إنتظرت واشنطن أشهراً عدة ريثما تنتخب رئيساً جديداً خلفاً لكارتر الذي “حطمته” أزمة الرهائن الأميركيين في طهران، والعملية العسكرية الفاشلة لإنقاذهم في 24 نيسان 1980، والتي أدت أيضاً الى إستقالة وزير خارجيته سايروس فانس إحتجاجاً. أصبح رونالد ريغان الرئيس الأربعين للولايات المتحدة سنة 1981، وعلى الفور بدأ مراجعة إستراتيجية أسفرت عن تغير في السياسات الأميركية أشرف على تنفيذه وزير الخارجية الجنرال ألكسندر هيغ الذي جاء الى إدارة الشؤون الخارجية من المؤسسة العسكرية.(8)

وعلى نقيض ترددها في التعامل مع إيران وثورتها، حرصت إدارة كارتر على إعلان موقف شديد الوضوح في ما يتعلق بالغزو السوفياتي لأفغانستان. في 23 كانون الثاني 1980 ألقى كارتر خطاب “حالة الإتحاد” متناولاً الوضع الأفغاني على وجه الخصوص. وعُرف ذلك الخطاب بـ “مبدأ كارتر لحماية الخليج”، وأهم ما جاء فيه “أن الولايات المتحدة الأميركية ستستخدم القوة العسكرية عند الضرورة لحماية مصالحها القومية في منطقة الخليج الفارسي”. وتبين يومها أن الذي صاغ هذا المبدأ كان زبيغنيو بريجينسكي مستشار كارتر لشؤون الأمن القومي.(9)

أما وزير الخارجية فانس فكان له رأي متمايز الى حد بعيد عن رؤية بريجينسكي، فهو إعتبر أن الغزو السوفياتي لا يهدد دول الخليج ولا المصالح الأميركية هناك، وإنما هو نتاج الخوف السوفياتي من صعود المتطرفين الإسلاميين وبالتالي تهديدهم الجمهوريات السوفياتية الإسلامية في آسيا الوسطى.(10)

إستفادت إدارة ريغان الجديدة من كل هذه الآراء، وحددت الإتحاد السوفياتي كعدو رئيسي بات من الضروري مواجهته بحلف واسع يتألف من باكستان وتركيا ومصر وإسرائيل وبعض دول الخليج العربي. ومارست واشنطن نفوذها وضغوطها كي تتناسى هذه الدول خلافاتها العارضة من أجل التوحد ضد العدو الأساسي الذي أعلنته الولايات المتحدة، وكذلك ضد كل حلفائه في المنطقة. ولم تكن الإستراتيجية الأميركية في بدايتها تهدف الى طرد السوفيات من أفغانستان، بل لجعل الثمن مرتفعاً جداً بحيث لا تجرؤ موسكو على الإقتراب لاحقاً من باكستان، ومن ثم الوصول الى المياه الدافئة في بحر العرب. وكان الهدف المحوري إغراق السوفيات في مستنقع أفغاني شبيه بالمستنقع الفييتنامي الذي أنهك أميركا قبل سنوات قليلة من ذلك التاريخ.

كانت مصر قد وقعت معاهدة الصلح مع إسرائيل في آذار 1979، ما دفع الدول العربية الى مقاطعة القاهرة. لكن العلاقات غير المباشرة إستمرت بين بعض الدول (الأردن، المغرب، دول الخليج العربي…) ومصر، في ظل تشجيع أميركي واضح. ولم يكن عراق صدام حسين بعيداً عن هذه التحولات، إذ كان بدأ منذ منتصف العام 1978 يتخلى تدريجياً عن السلاح السوفياتي لصالح عقد صفقات واسعة مع كل من فرنسا وإيطاليا. وإرتفعت وتيرة التسليح الغربي بعد إنتصار الثورة الإسلامية في إيران، يرافقها دعم مالي ضخم من دول الخليج العربية التي أقلقها سعي طهران الى تصدير الثورة عبر مياه الخليج الى الضفة الأخرى.

التحرك الأميركي في المنطقة إتخذ مجموعة من الأشكال. في مواجهة إيران الإسلامية تم التركيز على العاملين: العرقي (عرب – فرس)، والمذهبي (سنة – شيعة). وأصبح عراق صدام حسين رأس الحربة في حرب دامية إستمرت من أيلول 1980 وحتى آب 1988، وحصدت الملايين بين قتيل وجريح ومهجر. وفوق كل ذلك كله، ضياع مئات المليارات التي وفرتها دول الخليج لصالح المجهود الحربي العراقي، بمباركة علنية من الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي زودت بغداد بالأسلحة والمعلومات الإستخبارية بهدف إطالة أمد الحرب الى أقصى حد ممكن.

إنقسمت الدول العربية بين أكثرية مؤيدة وداعمة للعراق وبين أقلية تدعو الى حقن “دماء المسلمين” أو تساند طهران بشكل جلي. ومن هذه القلة سورية التي وقف رئيسها حافظ الأسد الى جانب الثورة الإسلامية في إيران منذ اليوم الأول لإندلاع الحرب مع العراق. لذلك كان على دمشق أن تدفع الثمن، فأقدمت إسرائيل بدعم وتشجيع من الولايات المتحدة (وصمت عربي مريب) على غزو لبنان وإحتلال بيروت. يومها إضطرت القوات السورية الموجودة على الأراضي اللبنانية بموجب إتفاقات ثنائية وعربية منذ العام 1976 الى الإنسحاب من معظم المناطق والتمركز في سهل البقاع بعد أن خاضت معارك شرسة مع القوات الإسرائيلية الغازية.

التراجع العسكري السوري عن معظم الأنحاء اللبنانية أتاح للولايات المتحدة وحلفائها الأطلسيين فرصة التواجد العسكري على الأراضي اللبنانية. وترافق ذلك مع إشراف إسرائيل على إنتخاب حليفها بشير الجميل رئيساً للجمهورية بحماية الدبابات الإسرائيلية المسيطرة على أجزاء كبيرة من لبنان. إلا أن حساب الحقل اللبناني لم يتطابق مع حساب البيدر الأميركي الإسرائيلي، إذ أجبر رجال المقاومة اللبنانية الأميركيين والفرنسيين على الرحيل بعد عمليات إنتحارية أوقعت في صفوفهم مئات القتلى والجرحى. كما كانت عملية إغتيال بشير الجميل نقطة تحول معاكسة للمشروع الإسرائيلي في لبنان. وعلى رغم تولي أمين الجميل، شقيق بشير، سدة الرئاسة وإقرار مجلس النواب برئاسة كامل الأسعد إتفاق 17 أيار 1983 مع إسرائيل، غير أن المعارضة الداخلية سرعان ما أسقطت الإتفاق وفرضت على الجميل العزلة السياسية في القصر الجمهوري.

ولا بد هنا من التعرض لعملية إغتيال الرئيس المصري أنور السادات في 6 تشرين الأول 1981 أثناء عرض عسكري في القاهرة إحتفالاً بذكرى حرب تشرين. القتلة كانوا من الجماعات الإسلامية الأصولية التي كان الرئيس المصري قد تحالف معها في البداية لمواجهة التيارات الناصرية واليسارية فور تسلمه السلطة بعد وفاة عبد الناصر. كان السادات في العام 1970 بأمسّ الحاجة لمن يناصره في صراعه مع الحرس الناصري القديم، فكانت الجماعات الإسلامية خير معين له. لكن الصلح مع إسرائيل لاحقاً جعله هدفاً مشروعاً لرصاصاتهم.

المستنقع الأفغاني 

نعود الآن الى أفغانستان. النظام الإشتراكي هناك، مدعوماً بالقوات السوفياتية، لم يكن مقبولاً لدى القطاع الأكبر من الشعب الأفغاني المتدين والمحافظ بطبيعته. إستغلت واشنطن هذا الواقع لتلعب ورقة الإسلام السياسي ضد “الشيوعية الملحدة”. وكانت علاقاتها التاريخية مع حركات الإسلام السياسي في العالمين العربي والإسلامي أكبر مساعد لها في تجييش وتنظيم “جماعات المجاهدين الأفغان” ضد القوات الروسية. كما إستفادت دول عربية عدة من هذه الفرصة كي تشجع شبابها للتوجه الى أفغانستان من أجل الجهاد ضد “الملحدين أعداء الله والإسلام”. ولعبت باكستان الدور الأهم بوصفها الحاضن لكل جماعات المجاهدين، ومركز إنطلاق العمليات ضد القوات الأفغانية الحكومية والقوات السوفياتية. في حين كانت السعودية وبعض دول الخليج العربية مصدر التمويل الأساسي، طبعاً الى جانب الولايات المتحدة التي يُقدر ما قدمته هي بالذات الى “المجاهدين” بما لا يقل عن 3.5 مليار دولار، إضافة الى عمليات تزويدهم بالأسلحة المتطورة والمعدات الحربية والمعلومات الإستخبارية، وغيرها من المساعدات.

تركت واشنطن لإسلام آباد قرار كيفية توزيع المساعدات على فصائل “المجاهدين”، ولم يكن يهمها هوية أية جماعة أو أيديولوجيتها طالما أنها تنشط ضد السوفيات وتلحق بهم الخسائر الجسيمة.  كان الجنرال ضياء الحق أصبح الحاكم العسكري لباكستان بعد إنقلاب 5 تموز 1977 الذي أطاح برئيس الوزراء المدني ذو الفقار علي بوتو (الذي أعدم في 4 نيسان 1979). ثم نصب نفسه رئيساً في 16 أيلول 1978. وفي العام 1980 إعترفت باكستان رسمياً بفصائل “المجاهدين” التالية:

– “الجمعية الإسلامية” بقيادة برهان الدين رباني (طاجيك، متحالف مع أحمد شاه مسعود، معتدل).

– “الحزب الإسلامي” بقيادة غلب الدين حكمتيار (متطرف).

 – “حزب الإتحاد الإسلامي” بقيادة عبدالرسول سياف (وهابي متطرف).

تُضاف اليها جماعات أخرى منها: “الجبهة الإسلامية الوطنية”، “جبهة التحرير الوطنية الأفغانية”، “حركة الثورة الإسلامية”… وكان هناك إصرار سعودي مباشر على أن تعترف باكستان بـ “حزب الإتحاد الإسلامي”، وتقدم له كل الدعم اللازم.(11)

إذن كانت الولايات المتحدة تخوض المواجهة على جبهتين وفي إتجاهين: ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية بواسطة العراق مدعوماً بدول الخليج العربية والأردن ومصر، في إطار التحريض المذهبي والعرقي. وضد الحكم اليساري في أفغانستان والإحتلال السوفياتي أيضاً بدعم من دول الخليج والأردن ومصر والمغرب وباكستان والصين، في إطار الأصولية الإسلامية السنية المتشددة التي رعتها واحتضنتها باكستان. وعلى هامش هاتين الجبهتين، تفرعت جبهات أخرى أصغر: في لبنان (الإحتلال الإسرائيلي المستمر لمناطق الجنوب)، وفي الضفة الغربية وقطاع غزة (الإحتلال الإسرائيلي وعمليات التهويد المتواصلة)، وفي سورية حيث لجأت “جماعة الإخوان المسلمين” الى العنف المسلح ضد نظام الرئيس حافظ الأسد بين 1980 و1982. وكان واضحاً آنذاك حجم الدعم والحماية اللذين وفرتهما تركيا والعراق والأردن ودول الخليج العربي لهذه الجماعة.

وكانت هذه الجبهات تخوض معاركها الخاصة في خضم المواجهة الأوسع والأشمل بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي الذي كان على عتبة الإنهيار الكامل. وشهد لبنان بين 1984 و1986 سلسلة عمليات خطف لمواطنين أجانب، معظمهم أميركيون وبريطانيون، كردة فعل على التورط الأميركي في الحرب العراقية – الإيرانية. في البداية كانت العمليات التي تستهدف المصالح الأميركية في المنطقة تسعى الى الضغط على واشنطن، لكنها تحولت لاحقاً الى جزء من تقاطعات التدخل في حرب الخليج. ويمكننا أن نضيف كذلك عمليات التفجير في الكويت رداً على إقدام الحكومة الكويتية على طلب الحماية الأميركية لناقلاتها النفطية المبحرة في الخليج. غير أنها كانت في الواقع إنتقاماً من التمويل الذي كان صدام حسين يحصل عليه من الدول الخليجية لكي يتمكن من مواصلة حربه ضد إيران.

أدركت واشنطن في تلك الفترة أنها تتعامل مع نمطين من الحراك الإسلامي السياسي: الأول تمثله إيران والجماعات المرتبطة بها إيديولوجياً وسياسياً، والثاني يتمظهر في جماعات “المجاهدين الأفغان” وإن كانت تقف وراءه قوى إقليمية متنوعة. وبتنا نقرأ في أدبيات التحليل السياسي الأميركي والغربي عبارات مثل: “الإسلاميون المتشددون”، “الوسطية الإسلامية”، “الإسلاميون المعتدلون”، “الإسلاميون المجددون”، وغيرها. لكن لم يتم إستعمال صفة “الإرهابيون الإسلاميون” كونها ستؤثر على “المجاهدين الأفغان” و”المجاهدين العرب” الذين كانوا يخوضون حرب أميركا بالوكالة ضد الإتحاد السوفياتي.

لا نستطيع القول إن حرب “المجاهدين الأفغان” ضد الغزو السوفياتي كانت هي السبب في الإنهيار اللاحق للإتحاد السوفياتي، ومن بعده منظومة المعسكر الإشتراكي في أوروبا الشرقية. لكنها كانت من العوامل الرئيسية في إستنزاف الإقتصاد السوفياتي وإنهاكه. في آذار 1985 أنتخب ميخائيل غورباتشوف لمنصب الأمين العام للحزب الشيوعي خلفاً لقسطنطين تشيرنينكو الذي لم يستمر في القيادة سوى سنة واحدة بعد أن تولاها خلفاً ليوري أندروبوف. وكان غورباتشوف، البالغ من العمر آنذاك 54 سنة، أصغر الأعضاء سناً في اللجنة المركزية للحزب.

ومن ضمن عملية الإصلاح الجذرية التي باشر بها غورباتشوف تحت شعارات “الإنفتاح” (غلاسنوست) و”إعادة البناء” (بيريسترويكا)، كان لا بد من مراجعة مجريات الحرب الأفغانية كجزء من المراجعة الإستراتيجية للعلاقة مع الولايات المتحدة. وفي تشرين الأول 1985 إتخذت اللجنة المركزية قراراً مبدئياً بالإنسحاب من أفغانستان (12). وبعد مباحثات مطولة، توصلت موسكو وواشنطن الى “إتفاق جنيف” في نيسان 1988. وقد غطى الإتفاق مجموعة واسعة من القضايا ذات الإهتمام المشترك، لكن ما يهمنا منها هنا هو أن السوفيات تعهدوا بتنفيذ قرار سحب قواتهم من أفغانستان في غضون تسعة أشهر من التوقيع على الإتفاق.

بدأ الإنسحاب عملياً في أيار 1988 وإنتهى في شباط 1989. ومع ذلك إستطاعت الحكومة الأفغانية اليسارية الصمود حتى نيسان 1992، عندما أقدم الجنرال عبد الرشيد دوستم وقواته المكونة من الأوزبك على الإنحياز الى “المجاهدين” فتمت السيطرة على كابول. وهكذا إنتهت الحرب الأفغانية بإنتصار فصائل “المجاهدين” ذات الإنتماءات العرقية المختلفة. ودخلت البلاد مرحلة جديدة من الصراعات الداخلية هذه المرة لإحكام قبضة اليد على مقاليد الأمور في البلاد التي كانت تعاني من الفراغ السياسي والأمني والإجتماعي، تُضاف اليها تداعيات حرب مدمرة إستمرت حوالي العشر سنوات.

ويظهر أن الولايات المتحدة، بعد الإنسحاب الروسي وما أعقبه من تفتت الإتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي، لم تعد تُبدي كثير إهتمام بتطورات الوضع الأفغاني الداخلي، وتركت لباكستان والسعودية إدارة هذا الملف من خلال علاقاتهما الوثيقة مع كل الفصائل. فبينما بلغت المساعدات الأميركية للمجاهدين في العام 1987 لوحدها أكثر من 630 مليون دولار، تراجعت في العام 1990 الى 280 مليوناً فقط. وكانت اللامبالاة الأميركية معطوفة على مراجعة سياسية عبّر عنها عدد من مسؤولي الخارجية الأميركية الذين أخذوا يتساءلون عن دور الجماعات الإسلامية الأصولية التي رفضت الإنخراط في أية تسوية أفغانية داخلية تؤمن إبعاد المتطرفين من كلا الجانبين. وتؤشر كلمة أنتوني بيلنسون، رئيس لجنة الإستخبارات في مجلس النواب الأميركي الى مدى ما وصل اليه التفكير الأميركي الجديد: “بعض من أكبر الجماعات وأكثرها تسلحاً هي من الجماعات الإسلامية الأصولية التي يبدو أن أهدافها على نقيض كامل مع أهدافنا. لعلنا كنا قادرين على تجاهل إيديولوجية المتمردين عندما كانوا يقاتلون السوفيات، لكن عندما يُقدمون الآن على مقاتلة أبناء بلدهم فقط ويحاولون أيضاً تشكيل حكومة لما بعد الإحتلال، فنحن سنواجه وضعاً مختلفاً تماماً يتطلب منا قطع كل مساعداتنا العسكرية عنهم”.(13)

كان من الطبيعي أن تعيد الولايات المتحدة النظر في مبادئها الإستراتيجية بعد زوال الخصم الشيوعي عن المسرح العالمي. ولنتذكر أن الصين كانت ما تزال منعزلة على ذاتها، ولم تصبح بعد لاعباً إقتصادياً وسياسياً مهماً. يومها حددت واشنطن مجموعة من التحديات التي تواجهها على المدى المنظور، ما يهم موضوعنا منها “خطر الأصولية الإسلامية”. وقد أدمج هذا المفهوم في إستراتيجية حلف الناتو (طبق في البوسنة لاحقاً). ثم تطورت الرؤية الأميركية بحدود سنة 1996 فبتنا نسمع تحذيرات عن خطر “الحرب الإسلامية المقدسة” على مستوى العالم.

وبينما كانت أفغانستان ما بعد السوفيات تغرق شيئاً فشيئاً في صراعاتها الدموية الداخلية، وفي حين إنشغل الإتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي بلملمة دول المعسكر الإشتراكي السابق في أوروبا الشرقية… كان العالم العربي يعيش تطورات متسارعة أدت الى خلط أوراق تلك العلاقة الخاصة والمميزة بين الولايات المتحدة الأميركية وحركات الإسلام السياسي طيلة عقد الثمانينات من القرن الماضي. علماً بأن الحرب الإيرانية – العراقية كانت قد وضعت أوزارها في آب 1988 من دون أن تتم معالجة أسباب العداوة بين طهران وبغداد.

زمن التغيرات والمواجهات

 

 

 يمكن رصد تغير المزاج الإسلامي العام إبتداء من العام 1991 عندما شنت الولايات المتحدة الأميركية، مدعومة بدول أوروبية وعربية عدة، حرباً ضد العراق بحجة تحرير الكويت التي كان صدام حسين قد إحتلها قبل أسابيع قليلة. يومها أصدر ” الإخوان المسلمون” بياناً شديد اللهجة دعوا فيه الى مقاومة “الكفار المعتدين” والى دعم “إخوتنا في العراق”. ونستطيع أن نفسر هذا البيان من ناحية أن العراق كان حامياً أساسياً لـ “الإخوان” اللاجئين من سوريا، في حين أن “إخوان” الأردن وجدوا تشجيعاً من العاهل الأردني الملك حسين المتحالف مع صدام حسين.

ومن دون الدخول في خلفيات وتفاصيل ما حدث بعد إنتهاء الحرب الإيرانية – العراقية، وبعيداً عن الإتهامات التي وجهتها بغداد الى القيادة الكويتية، فقد أقدم صدام حسين على إحتلال الكويت في غضون ساعات بتاريخ 2 آب 1990، مفتتحاً بذلك مرحلة جديدة من الصراع الدولي في الخليج العربي، لكن هذه المرة مباشرة مع الولايات المتحدة وحلفائها الأطلسيين. يومها كانت أميركا تتربع وحيدة على قمة الهرم العالمي بعد غياب الإتحاد السوفياتي عن الساحة. في حين كان الحلف الأطلسي يبحث عن دور جديد يعوضه خسارة نده الأساسي المتمثل بحلف وارسو الذي لفظ أنفاسه الأخيرة مع تشرذم دول المعسكر الإشتراكي في أوروبا الشرقية، والتي كانت تتهافت للإنضمام الى نادي الأقوياء في الحلف الأطلسي والإتحاد الأوروبي.

لقد أعطيت تفسيرات كثيرة لما دار في اللقاء الذي عقدته أبريل غلاسبي السفيرة الأميركية في بغداد مع صدام حسين بتاريخ 25 تموز 1990 وذلك في ذروة التصعيد الكلامي بين العراق والكويت. ومهما يكن من أمر، وبغض النظر عمّا إذا كان الرئيس العراقي قد فهم من غلاسبي عدم إستعداد الولايات المتحدة للتدخل في الخلافات العربية – العربية، فإن عملية غزو الكويت أعطت واشنطن والحلف الأطلسي الذريعة القانونية والدولية للتدخل العسكري المباشر بهدف “تحرير الكويت” من جهة، والحفاظ على وجود عسكري دائم يمتد من شط العرب في العراق الى مضيق هرمز قبالة سواحل سلطنة عُمان، من جهة أخرى.

مئات الألوف من القوات الأميركية والأوروبية والإسلامية والعربية تدفقت الى منطقة الخليج، وبالتحديد الى القواعد العسكرية المختلفة في السعودية والبحرين وقطر والإمارات، وكذلك الى القواعد الأطلسية في تركيا، هذا الى جانب الأساطيل الأجنبية المنتشرة في الخليج العربي وبحر العرب والمحيط الهندي. وبعد تجاهل بغداد لعدد من قرارات مجلس الأمن الدولي الداعية الى الإنسحاب الفوري من الكويت، شن “التحالف الدولي” إبتداء من منتصف كانون الثاني 1991 ضربات جوية وصاروخية ضخمة ضد القوات العراقية المتمركزة في الكويت أو تلك الموجودة في العراق. وفي 25 شباط أعلن عن “تحرير” كامل التراب الكويتي، وعاد أمير الكويت الى بلاده في 15 آذار بعد أن أمضى ثمانية أشهر في المنفى السعودي.

أهمية هذا الحدث بالنسبة الى بحثنا هذا تكمن في موقف حركات الإسلام السياسي من تمركز القوات الأجنبية (غير الإسلامية) في عدد من الدول العربية والإسلامية، وبالتحديد في السعودية “مهد الإسلام” والتي يُقال إن الخليفة الراشدي الثالث عمر بن الخطاب تعهد بأنه “لن يجتمع في جزيرة العرب دينان”. إختلفت مواقف رجال الدين المسلمين في هذه المسألة. فالشيخ محمد ناصر الدين الألباني عارض من حيث المبدأ التدخل الأجنبي مهما كانت الذرائع، في حين أصدر الشيخ عبد العزيز بن باز وهيئة كبار العلماء في السعودية فتوى تُجيز مثل هذا التدخل. لكن الملفت كان إجماع (أو شبه إجماع) “جماعة الإخوان المسلمين” على إستنكار تدخل القوات الأجنبية.(14) ومن الذين عارضوا التدخل الأجنبي غلب الدين حكمتيار، أحد أبرز قادة “المجاهدين الأفغان”، وقد أعلن تأييده لصدام حسين، ما دفع واشنطن الى وقف الدعم المالي عنه نهائياً… وقد كان حتى ذلك الوقت يحصل على حصة كبيرة من المساعدات الأميركية المقدمة الى “المجاهدين”!!(15)

حدث آخر ألقى بظلاله الدموية على أيديولوجية حركات الإسلام السياسي وعلاقاتها مع الغرب، ألا وهو إنتخابات الجزائر التي جرت في كانون الأول سنة 1991 وحققت فيها “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” إنتصاراً ساحقاً في الدورة الأولى، في حين حلت “جبهة التحرير الوطني” الحاكمة في المرتبة الثانية بفارق كبير. ولما أدركت الحكومة الجزائرية أن المضي قدماً في إجراء إنتخابات الدورة الثانية سيعني حكماً خسارتها للسلطة، عمدت الى إلغاء الإنتخابات كلياً، وحل “الجبهة الإسلامية” وإعتقال كبار قادتها… فإندلعت مواجهات دامية بين الطرفين لم تنته رسمياً إلا في العام 2002 بعد أن تكبدت الجزائر أكثر من 200 ألف قتيل، وملايين الجرحى والمفقودين والمعتقلين والمهجرين.

وقفت فرنسا بكل ثقلها الى جانب الحكومة الجزائرية في تصديها العنيف للإسلاميين. وقد إتخذ شارل باسكوا وزير الداخلية الفرنسي آنذاك موقفاً متطرفاً جداً من الإسلاميين، داعياً الى تقديم كل الدعم اللازم للجزائر بعد أن تحولت المواجهة في العام 1994 الى معركة كسر عظم. أما الولايات المتحدة فقد إلتزمت الحياد في المرحلة الأولى، بل عقد عدد من مسؤولي الخارجية الأميركية لقاءات على مستوى رفيع مع أنور هدام، أحد كبار قادة  “الجبهة الإسلامية”، الذي كان مقيماً في واشنطن.(16) علماً بأن العلاقات الأميركية مع الإسلاميين الجزائريين كانت قوية جداً وتعود الى مرحلة “الجهاد” في أفغانستان حيث شكل “الجهاديون الجزائريون” شريحة أساسية من المقاتلين هناك.

ترددت في تلك المرحلة معلومات تقول إن صفقة ما عُقدت بين واشنطن والإسلاميين الجزائريين، من بنودها الأساسية إجراء مفاوضات بين الحكومة الجزائرية و”الجبهة الإسلامية” مقابل أن يكون هناك تعاون بين واشنطن و”الجبهة” في حال وصول الأخيرة الى السلطة. لكن باريس قابلت هذه “الصفقة” برفض قاطع بحجة أن أي إتفاق من هذا النوع سيؤدي الى تقوية المتطرفين في حوض البحر الأبيض المتوسط. فلم يبقَ أمام واشنطن سوى التراجع، وبدأت بين 1995 و1997 ترى أن إنتصار الإسلاميين في الجزائر سيؤثر سلباً في إستقرار عدد من الدول الحليفة في شمال أفريقيا (المغرب، تونس، مصر). ولذلك تعاملت بإيجابية مع السلطات الجزائرية في أعقاب الإنتخابات الرئاسية سنة 1995 التي أوصلت الأمين زروال الى منصب الرئيس، في حين كانت العلاقة مع “الجبهة الإسلامية” قد دخلت ثلاجة الإنتظار. ومن المهم هنا الإشارة الى أن الحكومة الجزائرية أقدمت في العام 1993 على قطع علاقاتها الديبلوماسية مع إيران بعد أن إتهمت الجزائر طهران بإجراء إتصالات رسمية مع “الجبهة الإسلامية للإنقاذ”.

عامل آخر أضيف الى “إحباط” الحركات الإسلامية، خصوصاً الفلسطينية منها، وهو إتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. إذ تبين أن المنظمة، يمثلها محمود عباس (أبو مازن)، كانت منخرطة في مفاوضات سرية مع إسرائيل في أوسلو إبتداء من العام 1991 برعاية وتشجيع من الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي. وقد تم التوقيع على هذا الإتفاق في واشنطن بتاريخ 13 أيلول 1993 بحضور الرئيس الأميركي بيل كلينتون. لكن الإتفاق واجه معارضة شديدة من قبل عدد من المنظمات الفلسطينية، وبالتحديد حركة “حماس” و”الجهاد الإسلامي”. فكان ذلك بداية الإفتراق بين الحركات الإسلامية والسلطة الوطنية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وتعمقت الجراح الفلسطينية عندما وقع الأردن في تموز 1994 معاهدة وادي عربة للسلام مع إسرائيل.

 ثم إندلعت حرب البلقان (نيسان 1992) عندما وجد مسلمو البوسنة والهرسك أنفسهم عرضة لهجمات إبادة من قبل الصرب والكروات على حد سواء، بينما وقف العالم متفرجاً ومانعاً حصول البوسنيين على السلاح للدفاع عن أنفسهم. منطق الحركات الإسلامية كان يقول: إذا تمكن الغرب من حشد حوالي مليون جندي لضرب نظام صدام حسين وتحرير الكويت سنة 1991، فكيف يعجز عن حماية مسلمي البوسنة من حرب الإبادة التي يتعرضون لها؟ ولبى مئات من “المجاهدين المسلمين”، وغالبيتهم من العائدين من أفغانستان، نداءات حركات الإسلام السياسي للتوجه الى البوسنة، والمشاركة في الدفاع عن “ديار الإسلام”.

ومع أن حرب البوسنة إنتهت بالتوقيع على “إتفاق دايتون” في كانون الأول 1995 برعاية أميركية، إلا ان الإحباط الإسلامي لم يتراجع نظراً الى أن ذلك الإتفاق لم يلحظ قيام دولة إسلامية في البوسنة والهرسك وإنما دولة فيدرالية ثلاثية القيادة لا تعطي المسلمين أية أولوية في بلادهم. كما نص الإتفاق على تفكيك جماعات المجاهدين الذين إلتحقوا بالجيش البوسني المسلم. يومها أذعن بعض المجاهدين لهذه الترتيبات، في حين رفضها آخرون ودعوا الى إستمرار القتال في البلقان. وهكذا وجد “المجاهدون” في البوسنة أنفسهم مرة أخرى “عاطلين عن الجهاد” نتيجة “خيانة” الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية.

أميركا تتبدل أيضاً!

 

 

لم تقتصر التغييرات العاصفة على العالمين العربي والإسلامي فقط، بل دخلت الولايات المتحدة الأميركية نفسها مرحلة جديدة مع فوز الجمهوريين بإنتخابات الرئاسة الأميركية العام 1989، وتولي جورج بوش الأب منصب الرئاسة مدعوماً بتيار شاب من المحافظين الجدد الذين راحوا ينظرّون للقوة الأميركية المنفردة والمطلقة في أعقاب إنهيار المعسكر الإشتراكي وتشرذم الجمهوريات السوفياتية في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى. ففي العام 1992 ألقى صمويل هانتنغتون محاضرة بعنوان “صراع الحضارات” (طورها لاحقاً وأصدرها في كتاب مشهور بالعنوان نفسه العام 1993)، حدد فيها أن الصراع العالمي المقبل سيكون بين الغرب (ومنه الولايات المتحدة) والإسلام. والحقيقة أن عبارة “صراع الحضارات” إستخدمت للمرة الأولى من قبل المؤرخ والمفكر برنارد لويس في أيلول 1990 عندما نشر مقالة في مجلة “أتلانتيك” الشهرية تحت عنوان “جذور التعصب الإسلامي”. وفي الحالتين كان الإسلام هو التحدي الأساسي أمام الغرب الأوروبي والأميركي في مرحلة ما بعد سقوط الشيوعية.

غير أن الإدارة الأميركية في عهد بوش الأب لم تلتزم حرفياً بهذه التنظيرات، لأنها كانت ما تزال متورطة في حصار العراق بعد تحرير الكويت، الى جانب إبقائها على عشرات الألوف من القوات المقاتلة في عدد من دول الخليج العربي على رغم الإستياء الشعبي المتصاعد من ذلك. المنهج السياسي الأميركي في العام 1992 قام على أساس أن الحكومة الأميركية لا تعتبر الإسلام قوة دينية وحضارية معادية، بل هي تفرّق بين الإسلام كدين مسالم وبين الجماعات الإسلامية التي تنتهج التطرف والعنف لتحقيق غاياتها.

في حزيران سنة 1992 كشف إدوارد دجرجيان مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا ما وصف بأنه موقف الإدارة الأميركية من الإسلام. وقيل يومها أن هذا الموقف صاغته الخارجية الأميركية بمساعدة عدد من أهم الخبراء المختصين بقضايا العالم العربي والإسلام.

عُرف ذلك الخطاب بـ “إعلان ميريديان هاوس”، وقال فيه دجرجيان إن الولايات المتحدة ليس لها أي شيء ضد الإسلام “أحد أكبر الأديان في العالم”. وأضاف أن الولايات المتحدة “لا تنظر الى الإسلام بوصفه الخطر المقبل على الغرب”. وشدد على أنه من منظور أميركا “فإنه لا يتم إستبدال المواجهة بين الغرب والإسلام بالحرب الباردة”.

وإعترف دجرجيان بأن تنوع الحركات الإسلامية يتطلب تنوعاً في التعاطي معها. وقال إن الولايات المتحدة ليست ضد الإسلاميين (أي المؤمنين الذين يعيشون في بلدان أخرى ويركزون مجدداً على المباديء الإسلامية)… لكن واشنطن ستعارض كل الذين يستخدمون الدين كغطاء للتطرف والعنف.(17)

لكن هذا الموقف المبدأي لم ينعكس على تصريحات عدد كبير من المسؤولين والمفكرين الأميركيين الذين كانوا يعتبرون أن الإسلام دين عدواني وأن المسلمين “متعصبون وإرهابيون”. غير أن بوش الأب حافظ قدر الإمكان على  التوجه الذي أوضحه دجرجيان، وواصل بيل كلينتون الديموقراطي الذي خلفه العام 1993 السير في الإتجاه نفسه مع بعض التعديلات السطحية… لكن الأحداث سرعان ما إتخذت مساراً مختلفاً تماماً، أجبر الإدارة الأميركية على تعديل نظرتها الى قضايا العالم الإسلامي.

في خضم هذه التطورات، كان الصراع الداخلي في أفغانستان يسير بإتجاه طريق مسدود بسبب عجز أي من الأطراف المحلية عن حسم المعركة لصالحه. الولايات المتحدة إكتفت بمراقبة الأمور عن بعد، تاركة لباكستان والسعودية مهمة المتابعة والتدخل مع جماعات “المجاهدين” المتناحرة. وساهم ذلك في تحول بعض الفصائل الى إنتهاج سياسة معادية للولايات المتحدة، عززتها سلسلة من الأحداث ذات الصلة بإيديولوجيات الجماعات الإسلامية الأصولية: توقيع إتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل الذي إعتبره بعض تلك الجماعات بمثابة تخل عن “الحق الإسلامي” في فلسطين. إندلاع حرب البوسنة والهرسك، وسقوط معظم المدن ذات الكثافة الإسلامية بأيدي الصرب والكروات من دون أن يبذل الغرب الأميركي والأوروبي أي جهد لفك الحصار عن سراييفو. بقاء القوات الأميركية في القواعد العسكرية السعودية حتى بعد تحرير الكويت، ما أثار حفيظة الأصوليين السلفيين، خصوصاً أن السعودية عانت وضعاً إقتصادياً صعباً في مطلع التسعينات إنعكس في حركة إحتجاج شعبية وجدت تعبيرها الأبرز في نمو الجماعات المتطرفة المدعومة بمئات من الذين خاضوا “الجهاد” في أفغانستان وعادوا محبطين الى بلادهم ليجدوا “قوة أجنبية أخرى في ديار الإسلام”!

بعد أقل من شهر على تولي كلينتون مقاليد الرئاسة، وقعت في 26 شباط 1993 عملية إرهابية في نيويورك إستهدفت المبنى الشمالي لمركز التجارة العالمي. كانت الخطة تقضي بتفجير شاحنة في مرآب المبنى الشمالي بحيث ينهار ويصطدم بالمبنى الجنوبي فيتداعيان معاً. فشلت الخطة بتحقيق غايتها الرئيسية، لكنها أدت الى سقوط 6 قتلى. وتم إعتقال الفاعلين والمخططين والممولين الذين تبين أنهم ينتمون الى جماعات إسلامية أصولية متطرفة. وكانت تلك البداية الفعلية الأبرز للمواجهات بين واشنطن وهذه الجماعات، وهي مواجهات ستلوّن عقد التسعينات بأكمله، وستفرض على الولايات المتحدة والغرب الأوروبي إعادة النظر في فحوى علاقاتهما المتشابكة مع حركات الإسلام السياسي.

سبق عملية مركز التجارة العالمي سنة 1993 وأعقبها ما يصح أن نطلق عليه وصف “مناوشات إستخباراتية” بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من جهة وعدد من الحركات الأصولية الإسلامية من جهة أخرى. ولعبت “الجماعة الإسلامية ” المصرية دوراً أساسياً في التنظير والتنظيم، يدعمها في ذلك “الأفغان العرب” الذين عادوا الى بلدانهم بعد إنسحاب القوات الروسية من أفغانستان، ودخول فصائل “المجاهدين” في إقتتال لا ينتهي. وقد أظهرت المعلومات التي كشفت عنها الوثائق الرسمية لاحقاً أن واشنطن أقدمت على إعتقال العشرات من الإسلاميين وسلمتهم سراً الى بعض الدول العربية الحليفة لها. وإعتبر ذلك من العوامل الإضافية التي دفعت الجماعات الإسلامية الى حسم موقفها من الولايات المتحدة، والتحول الى إستهداف المصالح الأميركية في العالم.

نعتقد بأن سنة 1995 كانت الحد الفاصل في رسم ملامح العلاقة الإشكالية بين الولايات المتحدة (ومعها الدول الغربية الأوروبية) وبين حركات الإسلام السياسي عموماً، والحركات الأصولية الجهادية تحديداً. في 13 تشرين الثاني 1995، وقع إنفجار في مدينة الرياض إستهدف مقر البعثة الأميركية لتدريب الحرس الوطني السعودي أسفر عن مقتل 5 أميركيين. أعقبه إنفجار آخر في الخبر قرب مدينة الظهران بتاريخ 25 حزيران 1996، إستهدف الأميركيين أيضاً وأدى الى مصرع 19 منهم. أشارت أصابع الإتهام آنذاك الى أطراف عدة، كأيران والأقلية الشيعية في شرقي السعودية وجماعات أصولية محلية معادية للوجود الأجنبي في ديار المسلمين… لكن إتضح في ما بعد أن هذه العمليات هي جزء من المواجهة الجديدة التي أخذت معالمها تبرز شيئاً فشيئاً منذ ذلك الوقت.

في هذه الأثناء وقعت مجموعة من الأحداث بلوّرت حدة هذا الصراع وأعطته أبعاداً جديدة مختلفة. في أيلول 1996 حسمت حركة “طالبان” المدعومة من باكستان المعركة في أفغانستان لصالحها، وتراجعت قوات “التحالف الشمالي” بقيادة أحمد شاه مسعود الى المناطق الشمالية. وكانت واشنطن قد أيدت هذا التحالف ضد “طالبان” ذات التوجهات الأصولية المتطرفة. وسبق ذلك إقدام إسرائيل على شن هجمات عسكرية واسعة ضد لبنان في نيسان 1996 بعملية أطلقت عليه إسم “عناقيد الغضب”، أثارت مشاعر الحقد الشديد في العالمين العربي والإسلامي بسبب المجازر البشعة التي إرتكبت بحق المدنيين اللبنانيين. أما في البلقان، فقد ضغطت واشنطن لفرض “إتفاق دايتون” في تشرين الثاني 1995 لوقف القتال في البوسنة. وكان ذلك على حساب مسلمي البلاد، ذلك أن الخطة كانت تنص على سحب جميع “المجاهدين” العرب وغير العرب الذين تدفقوا الى البلقان لنصرة “إخوتهم في الدين”.

غير أن التطور الأبرز في تلك الفترة كان في تركيا حيث فاز “حزب الرفاه” ذو التوجه الإسلامي العلني في الإنتخابات العامة التي جرت العام 1995. وهكذا وجدت واشنطن نفسها أمام معضلة تتمثل في كيفية التعامل مع رئيس الوزراء الجديد الإسلامي نجم الدين أربكان، وفي الوقت نفسه الحفاظ على دور الجيش التركي (ثاني أكبر جيش في الحلف الأطلسي) الضامن لعلمانية الدولة. يومها طلع ريتشارد مورفي، نائب وزير الخارجية الأميركي، بعبارة “النموذج التركي” (وهي العبارة نفسها التي تترد حالياً مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، الإسلامي أيضاً). قامت نظرية مورفي على إمكان التعايش مع الإسلاميين الأتراك في الحكم طالما أنهم ملتزمون بالتعددية السياسية وتداول السلطة. بل بالإمكان إستخدام “النموذج التركي” هذا وسحبه على الدول العربية والإسلامية المجاورة، بحيث يتم تشجيع الحركات الإسلامية المعتدلة على المشاركة في العملية الديموقراطية على حساب الأنظمة الإستبدادية الفاسدة في المنطقة!!(18)

إلا أن حكومة أربكان لم تعمّر طويلاً. تولى السلطة في حزيران 1996، ليواجه على الفور ضغوطاً داخلية متشعبة كان يقف خلفها القادة العسكريون الذين أجبروه في النهاية على التنحي في حزيران 1996. ومع أن واشنطن لم تكن معنية مباشرة بهذه المناورات الداخلية، إلا أن الإنطباع المؤكد لدى الرأي العام الإسلامي هو أن الإدارة الأميركية لم تكن في وارد قبول قيام حكومة إسلامية في دولة أطلسية محورية مثل تركيا، تماماً كما وأنها لم تكن لتقبل قيام دولة إسلامية مستقلة في البوسنة والهرسك… في قلب أوروبا!

وإستكملت واشنطن صورتها “المعادية” للإسلام السياسي بإقرار قانون مكافحة الإرهاب في 10 شباط 1995. ومع أن القانون الذي تقدم به السيناتور الديموقراطي جو بايدن (نائب الرئيس الأميركي الحالي) بإسم الرئيس كلينتون لم يذكر حركات الإسلام السياسي بالإسم، إلا أنه كان من المفهوم على نطاق واسع أن الهدف الفعلي هو “الجماعات الإسلامية المتطرفة والإرهابية”، حسب المفهوم الأميركي الرسمي. وألحقت الحكومة الأميركية ذلك القانون بسلسلة من العقوبات الإقتصادية والسياسية ضد إيران والسودان وعدد من الحركات الإسلامية “المعادية” لعملية السلام في الشرق الأوسط. هذا الى جانب تصنيفها كلاً من إيران والعراق وليبيا والسودان وسورية دولاً “داعمة للإرهاب”. وكان مقياس واشنطن في التعامل مع حركات الإسلام السياسي هو موقف تلك الحركات من إسرائيل ومن عملية السلام التي كانت ترعاها وفق آلية “إتفاق أوسلو”. ولا بد من الإشارة أيضاً الى أن العام 1996 شهد إنخراطاً أميركياً فاعلاً في الحرب الأهلية الجزائرية، طبعاً لصالح النظام، ما إستتبع معاداة الإسلاميين الجزائريين للولايات المتحدة ومشاركتهم الفعالة في عدد من العمليات ضد المصالح الأميركية والأوروبية.

لم تأت هجمات 11 أيلول 2011 في نيويورك وواشنطن من فراغ، بل كانت أجهزة المخابرات الأميركية والأوروبية على دراية وثيقة بأن الجماعات الإسلامية المنضوية تحت لواء “القاعدة” تسعى الى إستهداف المصالح الأميركية حول العالم… وإن كانت هذه الأجهزة قد إستبعدت تماماً أن تكون العمليات المتوقعة على هذه السوية المعقدة والدقيقة من التخطيط والتنفيذ، وفي قلب أهم المؤسسات الإقتصادية والعسكرية في الولايات المتحدة نفسها. في حزيران 1998، سلمت الحكومة الأميركية أربعة من عناصر “الجماعة الإسلامية”، كانت قد إعتقلتهم في ألبانيا، الى السلطات المصرية للتحقيق معهم. وفي آب 1998، تعرضت السفارتان الأميركيتان في دار السلام (تنزانيا) ونيروبي (كينيا) لعمليات تفجير أسفرت عن مئات القتلى والجرحى، بينهم أميركيون لكن غالبيتهم من السكان المحليين.

تفجير السفارتين كان ملفتاً للنظر من ناحيتين: الأولى أن العمليتين جاءتا في الذكرى الثامنة لنزول القوات الأميركية الى الأراضي السعودية. والثانية أنه للمرة الأولى يرد إسم أسامة بن لادن وإسم أيمن الظواهري علناً، ومرتبطين بعمليات “القاعدة” ضد المصالح الأميركية. وهكذا بات بإمكان الولايات المتحدة أن تحدد بوضوح هوية “العدو الإسلامي” الذي تواجهه بدلاً من الإكتفاء بمجموعة فضفاضة من الأوصاف لشريحة متنوعة الإيديولوجيات من حركات الإسلام السياسي.

جاء الرد الأميركي على تفجير السفارتين سريعاً جداً، إذ أعطى الرئيس كلينتون أوامره في 20 آب 1998 بقصف أهداف عدة في السودان وأفغانستان على أساس أن تقارير المخابرات المركزية الأميركية تؤكد وجود معسكرات لتنظيم “القاعدة” في كلا البلدين. ومع أنه تبين أن الأهداف السودانية التي أصيبت بالقصف الصاروخي الأميركي لم تكن سوى مصنع مدني لإنتاج الأدوية، إلا أن واشنطن أصرت على تحميل الخرطوم جزءاً من مسؤولية تواجد عناصر وقياديين من “القاعدة” على أراضيها.

وفي تطور منفصل شكلاً، لكن المرتبط موضوعاً، وقع الرئيس كلينتون في 31 تشرين الأول 1998 “قانون تحرير العراق” الذي يجيز دعم المعارضة العراقية ضد نظام صدام حسين.  وفي 16 كانون الأول 1998 شنت القوات الأميركية والبريطانية أربعة أيام من القصف المركز على أهداف عراقية بذريعة أن بغداد لم تلتزم بقرارات مجلس الأمن الدولي، وأنها تعرقل مهمة المفتشين الدوليين الباحثين عن أسلحة الدمار الشامل في العراق!

وبينما كانت عمليات الكر والفر الإستخباراتية دائرة بين الأميركيين وحلفائهم من جهة وجماعات “القاعدة” من جهة أخرى، شهد العام 2000 حملة إعتقالات واسعة في صفوف الإسلاميين في عدد من الدول العربية والإسلامية بالتعاون المباشر بين السلطات المحلية والأجهزة الأمنية الأميركية. وعادت “القاعدة” في تشرين الأول 2000 لتضرب من جديد مستهدفة السفينة الحربية الأميركية “كول” أثناء توقفها في ميناء عدن للتزود بالوقود. أسفرت العملية الإنتحارية بزورق سريع عن مقتل 17 بحاراً أميركياً، وإصابة السفينة بأضرار جسيمة كادت أن تغرقها.

وبات المسرح الدولي مفتوحاً على إحتمالات عدة في خضم هذه المواجهة التي أخذت تنذر بعواقب وخيمة على المنطقة. كان القرن الحادي والعشرون (القرن الأميركي، حسب المحافظين الجدد) يبشرنا بعالم أحادي سترسم ملامح مستقبله الولايات المتحدة الأميركية كونها القوة الأعظم على وجه الأرض، والقادرة على فرض إرادتها بالترهيب أو الترغيب على جميع الدول. ولعل هذا ما يفسر فظاعة الصدمة وعمق الشعور بالكارثة عندما تابع الأميركيون، بل والعالم أجمع، هجمات “القاعدة” في قلب أميركا صبيحة يوم 11 ايلول 2001.

فصل جديد مختلف! رائحة الأنتقام والدم طغت على منطق السياسة والمحاسبة. لغة العنف حلت مكان الديبلوماسية والقانون الدولي. محور الخير، كما حدده بوش الإبن، في مواجهة محور الشر… ولا مجال للتسويات أو للحلول الوسط. وبهذه العقلية الإستئصالية غزت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأطلسيون أفغانستان، ثم تابعت واشنطن “فتوحاتها” بإتجاه العراق، لكن هذه المرة من دون تفويض من مجلس الأمن الدولي.

ماذا بعد غزو أفغانستان والعراق؟

 

 

بين هجمات “القاعدة” في نيويورك وواشنطن وما تلاها من غزو أميركي – أطلسي لأفغانستان سنة 2001، وبين الإحتلال الأميركي – البريطاني للعراق من دون أي تفويض دولي سنة 2003، وصلت علاقات الولايات المتحدة الأميركية والغرب مع المسلمين عموماً وحركات الإسلام السياسي تحديداً الى الحضيض… طبعاً بإستثناء عدد من الدول الإسلامية المرتبط وجودها أساساً بالسياسة الأميركية. وتعززت هذه الهوة السحيقة بين الطرفين بمجموعة كبيرة من الدراسات والتصريحات الرسمية، لمسؤولين وباحثين وأكاديميين غربيين، تشدد على إستحالة التعايش مع الإسلام في القرن الحادي والعشرين الذي أطلقوا عليه صفة “القرن الأميركي”.

ومع ذلك وجد في صفوف الباحثين الأميركيين من دعا الى تجنب التعامل مع العلاقات الغربية – الإسلامية بشكل سطحي، وبالتالي عدم النظر إليها من منطلق أحادي. وإعتمد هؤلاء على مقولة مشهورة للمفكر الأميركي الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد عندما قال: “إن عصرنا هو عصر عدة إسلامات، بينما هو من ناحية أخرى عصر الإمبراطورية الأميركية المتفردة، أو عصر القطب الوحيد كما يطلق عليه المحافظون الجدد”. (19) وإعتبر هؤلاء الباحثون أن المحافظين الجدد هم الذين يبالغون في وصف الخطر الإسلامي الشامل على أميركا، وذلك بهدف “تبرير القسوة التي تمارسها (أي أميركا) لحماية مصالحها الإقتصادية والسياسية التوسعية”. (20)

وإستعاد الباحثون جزءاً من تاريخ العلاقات الأميركية – الإسلامية منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية، فوجدوا أنه “في كل اللحظات الحرجة كان الأميركيون يعثرون على الإسلام القابل للتشكل لخدمة إحتياجاتهم. فالعلاقة مع السعودية منحتهم إسلاماً ملكياً رجعياً وقمعياً تعاونت معه أميركا دون شكوى حتى الآن. في حين كان الجهاد المدعوم أميركياً ضد السوفيات في أفغانستان على العكس داعياً للمضي قدماً في العنف بدلاً من مجرد الإسلام القمعي، وسانده الأميركيون بحماس ومولوا ودربوا دعاته من كل الجنسيات. وفي الوقت ذاته إحتاج النظام المصري التابع الجديد وقتئذٍ إسلاماً مدجناً وأليفاً لتأييد الحكومة اليمينية السلطوية التي تعتمد سياسات (…) تسهل فرض تسوية قاسية على الفلسطينيين”. ووصل هؤلاء الباحثون الى نتيجة مفادها: “في كل مرة إذن، كان الإسلام يتكيف مع مشاريع القوة الأميركية، بحيث كان دوماً إسلاماً مختلقاً من البداية ليتناسب مع إحتياجات اللاعبين المحليين”. (21)

في أواخر العام 2003، أصدرت مؤسسة “راند” للأبحاث الإستراتيجية في الولايات المتحدة كتاباً للباحثة الأميركية شيريل بينارد تحت عنوان “الإسلام الديموقراطي المدني: شركاء، موارد وإستراتيجيات”. الكتاب أعد برعاية وحدة البحوث الوطنية الأمنية في المؤسسة. وللتذكير فقط نشير الى أن شيريل متزوجة من زلماي خليل زادة، السفير الأميركي (من أصل أفغاني) السابق في كل من الأمم المتحدة وأفغانستان والعراق، ما يعني أن الخلاصات التي توصلت لها المؤلفة في هذه الدراسة المهمة جداً لا بد وأن تحمل جوانب معينة من التوجهات السياسية والأمنية والإستراتيجية الأميركية الرسمية، بشكل أو بآخر.

الفكرة المركزية في كتاب بينارد أن التهديد الإسلامي يتطلب ردة فعل مختلفة عما كان معمولاً به حتى تلك الفترة. وترى أنه “لمواجهة هذا التهديد يجب أن يحوّل صناع الإستراتيجية الأميركية الإسلام نفسه الى إحدى الأدوات (…) بإختصار هي تدخل الى حقل الإستخدام الأستراتيجي للإسلام لخدمة الأغراض السياسية والإقتصادية الأميركية”. (22) وهي “تستحضر إسلاماً طيعاً يمكن تحويله أداة لمواجهة إسلام المقاومة، وخدمة الأهداف الأميركية طائعاً”. (23) كما شاركت بينارد بدراسة في كتاب آخر، دعا فيه المؤلفون الى “صناعة شبكات المسلمين المعتدلين لإحداث التوازن مع الجهاديين. فالحاجة إذن هي (…) لإسلام يُصنع في أميركا ثم يُصدّر الى العالم الإسلامي”. (24)

وأخيراً تصل بينارد الى نتيجة مفادها “أن الإسلام الذي تحتاجه الإمبراطورية الأميركية الآن لن يكون فقط إسلاماً مصنوعاً لخدمة الأغراض الأميركية، بل إسلاماً مصنوعاً في أميركا. فجوهر الأمر يقوم على التوجه الى الباحثين المسلمين المهاجرين الذين تركوا العالم الإسلامي للإقامة في الغرب. سيطلق أولئك تفسيرات أهدأ للإسلام تقيده في المجال الشخصي، وتحرم الإيمان من أي قدرة على تحفيز المسلمين على مقاومة التدخلات الغربية في الأراضي الإسلامية”.(25)

المعادلة الأميركية الجديدة إذن هي: إسلام أميركي معتدل في مواجهة إسلام مقاوم أو إسلام متطرف. صحيح أن إدارة بوش الإبن لم تأخذ علناً بهذه التوصيات، إلا أن المؤسسة الأميركية الرسمية بكل تفرعاتها عملت على زرع البذور الكفيلة بتحقيق بعض من تلك الطموحات. ولذلك تم التركيز على تعميق الشرخ المذهبي التاريخي بين الشيعة والسنة (في العراق ولبنان وباكستان واليمن والساحل الشرقي للخليج العربي… وغيرها)، وفي الوقت نفسه تحويل دفة المواجهة في المنطقة من صراع عربي – إسرائيلي الى صراع عربي – إيراني ذي أبعاد عرقية ومذهبية.

ولننظر الآن الى بعض الدلالات المعبرة التي عرفتها المنطقة في أعقاب الإحتلال الأميركي للعراق. العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني أدلى بتصريح صحافي في كانون الأول 2004 حذر فيه من وصول حكومة موالية لإيران الى سدة الحكم في بغداد لأن ذلك سيؤدي الى “إنشاء هلال يخضع للنفوذ الشيعي يمتد الى لبنان ويُخل بالتوازن القائم مع الشيعة”. (26) وإنضم الرئيس المصري حسني مبارك الى هذه الجوقة بعد فترة، ليدلي بحديث الى تلفزيون “العربية” السعودي في نيسان 2006، يعتبر فيه “أن ولاء الشيعة العراقيين لإيران أكبر من ولائهم لبلادهم”. وبين هذا وذاك، وقعت عملية إغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في بيروت بتاريخ 14 شباط 2005. وعلى الفور وُجهت أصابع الإتهام الى سورية وحليفها الأساسي في لبنان “حزب الله”، مع كل ما يحمله ذلك الإتهام من إثارة للغرائز المذهبية بين السنة والشيعة والعلويين.

في 19 كانون الأول 2003، أعلن العقيد معمر القذافي أن ليبيا ستتخلى طوعاً عن كل المواد والمعدات والبرامج التي يمكن أن تساعد في إنتاج الصواريخ بعيدة المدى وأسلحة الدمار الشامل. ولا شك في أن الغزو الأميركي – البريطاني للعراق ساعد في “إقناع” القائد الليبي بالتعجيل في هذه الخطوة التصالحية مع الغرب. وخلال أشهر، قدمت الولايات المتحدة وبريطانيا كل ما يمكن لمساعدة السلطات الليبية في التخلص من مواد ومعدات البرنامج النووي. وهكذا عاد القذافي الى الحظيرة الدولية المقبولة أميركياً وأطلسياً… ولو الى حين! وكلنا على دراية بما آلت إليه أمور ليبيا حالياً!!

إن الخطة الأميركية للسيطرة على مقدرات المنطقة وثرواتها كانت في طريقها للتحقق لولا وجود عقبات تتمثل في إيران وسورية ومنظمات المقاومة اللبنانية والفلسطينية أمثال “حزب الله” و”حماس” و”الجهاد الإسلامي”. وقد أثار قلق الولايات المتحدة وحلفائها المحليين أن ما عُرف بإسم “محور الممانعة” تمكن من تجاوز الحساسيات المذهبية السنية – الشيعية، فإستطاعت إيران أن تعقد علاقات وثيقة مع النظام السوداني كما عكفت على بناء صلات قوية مع مجموعة من الحركات الأصولية السنية في العالمين العربي والإسلامي. أما “حزب الله” فكان يعزز تعاونه مع المنظمات الإسلامية الفلسطينية على كل الأصعدة، خصوصاً العسكرية، سواء في لبنان أو في فلسطين المحتلة.

لذلك كان لا بد من العودة الى العمل على صيغة الإسلام الأميركي المعتدل في مواجهة الإسلام المقاوم أو الإسلام المتطرف. ومن أبرز الخطوات في هذا المجال إصدار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 مستهدفاً سورية والمقاومة اللبنانية حصراً. في الوقت نفسه إنتشرت أبحاث سياسية لمراكز دراسات “سورية” تمارس التحريض المذهبي العلني تحت غطاء “أعمال أكاديمية”، وكلها تتناول “البعث الشيعي” و”النفوذ الإيراني الشيعي في سورية” و”خطط تشييع السوريين”… وغيرها. وقد أصاب الدكتور هيثم مناع، المعارض السوري البارز، كبد الحقيقة عندما قال في معرض تقييمه لأحداث سورية الأخيرة: “الإدارة الأميركية خسرت معركتها مع “حزب الله” في لبنان، وخسرت معركتها مع إيران بخصوص النووي. وهي تعوّل الآن على تحويل الثورة السورية الى نوع من الحرب بالوكالة ضد الدور الإيراني في المنطقة”.(27)

الغرب الأميركي والأوروبي كان يشعر بالقلق البالغ من جراء تطور عمل المنظمات الإسلامية الواقعة خارج تصنيف “الإعتدال” أو “الإرهاب”. “حزب الله” في لبنان إستطاع أن يجمع بفعالية بين العمل العسكري المقاوم من ناحية والعمل السياسي النيابي من ناحية أخرى. وهو نموذج حذته “حماس” في الأراضي الفلسطينية المحتلة عندما حققت فوزاً ساحقاً في الأنتخابات العامة في كانون الثاني 2006، وهي الإنتخابات التي شهد المراقبون الأوروبيون المستقلون أنها كانت الأكثر ديموقراطية ونزاهة وشفافية في العالم العربي.

ولمواجهة هذه التطورات غير المناسبة للإستراتيجية الأميركية في المنطقة، كان لا بد من رفع وتيرة المواجهة وتكريس الإنقسام المذهبي على المستوى الشعبي، الى جانب ضرب قوى الممانعة في لبنان تحديداً. دخلت إسرائيل على الخط عندما شنت حرب الثلاثة والثلاثين يوماً ضد لبنان في تموز 2006. لقد كشفت وثائق “ويكيليكس” لاحقاً أن هذه الحرب كان معداً لها سلفاً، ولم تأت رداً على عملية نوعية نفذها مقاتلو “حزب الله”. وتبين أيضاً أن دول الإعتدال العربية كانت متورطة ومشاركة في هذه الحرب التي لم تؤد – لسوء حظ الأميركيين والإسرائيليين وعرب الإعتدال – الى النتائج المرجوة في إطار الخطة العامة لمشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي كان من المفترض أن يولد من رحم “الفوضى الخلاقة”، حسب تعبير وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك كوندوليسا رايس.

 

 

 

علاقة جديدة… علاقة متجددة!

المدخل الأساسي والأهم للعلاقة المستجدة التي تريدها الولايات المتحدة مع حركات الإسلام السياسي سيكون من خلال “جماعة الإخوان المسلمين”، بوصفها أكبر تلك الحركات، وتتمتع بتنسيق على مستوى قيادي يتجاوز المحلي والوطني يوفره التنظيم الدولي لـ “الجماعة”.(28) وقد ركزت الديبلوماسية الأميركية أنظارها منذ البداية على “الإخوان” في مصر نظراً الى أنهم الأكثر تنظيماً، والأشمل عدداً، والأوسع نفوذاً وتأثيراً على الإسلاميين الآخرين في العالمين العربي والإسلامي. يُضاف الى ذلك طبعاً، البعد التاريخي التأسيسي للجماعة المصرية. ذلك أن “تحسن العلاقة بين واشنطن وجماعة الإخوان يمكن أن ينعكس إيجابياً على علاقة وموقف القوى السياسية الإخوانية في عدد من الدول العربية تجاه العلاقة مع الولايات المتحدة، وفتح خطوط إتصال معها، خاصة أن الجماعة في مصر هي الجماعة المركزية في العالم الإسلامي”.(29)

وتُظهر الوثائق الرسمية الأميركية، التي كشف عنها موقع “ويكيليكس” أخيراً، أن المسؤولين الأميركيين كانوا يتابعون شؤون “الجماعة” في مصر منذ سنوات، ويرصدون بدقة تطور علاقاتها مع السلطات المصرية طوال عهدي أنور السادات وحسني مبارك. غير أننا سنقتصر هنا على السنوات العشر الماضية التي هي محور دراستنا هذه.

في وثيقة تعود الى تاريخ 31 أيار 2001، وقعها السفير الأميركي في القاهرة آنذاك تشارلز كورتزر، إشارات الى ضرورة التمييز بين الصقور والحمائم في “الجماعة”. وتقول الوثيقة إن جيل الشباب “يريد فتح حوار” مع الإدارة الأميركية. (30) أما البرقية المؤرخة في 21 حزيران 2001، فتتحدث عن “صلات جيدة” بين “الإخوان” ونظام حسني مبارك.(31) ولعل ما جرى في الإنتخابات العامة في مصر سنة 2005 يؤكد هذه الملاحظة، إذ أن نظام مبارك أبدى تسامحاً جزئياً فخاض “الإخوان” المعركة النيابية بصفة مستقلين وحققوا فوزاً ملفتاً بإيصالهم 88 نائباً الى مجلس الشعب.

وهكذا إنفتحت أمام المسؤولين الأميركيين السبل “الشرعية” للإتصال مع “الإخوان”، كونهم أكبر كتلة نيابية بعد الحزب الوطني الحاكم. وتكشف برقية بتاريخ 31 أيار 2007 أن عضو الكونغرس الأميركي ديفيد برايس إلتقى في القاهرة جميع رؤساء الكتل النيابية بمن فيهم رئيس كتلة “الإخوان” في مجلس الشعب محمد سعيد الكتاتني. وبذلك يكون برايس ثاني عضو كونغرس يلتقي الكتاتني بعد مندوب الكونغرس ستاني هوير. وربما جاءت هذه اللقاءات تلبية لدعوة وجهها الكتاتني نفسه في 15 كانون الأول 2006 الى الحكومات الغربية، ومن بينها الإدارة الأميركية، لإجراء “حوار بناء” مع “الإخوان”.(32) وتؤكد برقيات عدة صادرة عن السفارة الأميركية أن الكتاتني “مصدر وثيق الصلة بالسفارة ويلتقي بمسؤوليها دائماً”.(33)

كما تُظهر الوثائق الرغبة “الإخوانية” في الإجتماع مع الأميركيين مجدداً من خلال الكشف عن تذمر “الجماعة” لعدم دعوتها الى المشاركة في لقاء ممثلة الكونغرس بيتي ماكولم مع مجلس الشعب المصري في العام 2007. وهو تذمر أثار إهتمام السفارة الأميركية فخصصت جزءاً من إحدى برقياتها لشرح الموقف “الإخواني”، على إعتبار أنه “تطور لافت منهم تجاه السياسيين الأميركيين (…) ليس فقط الإخوان باتوا ينوون الإجتماع معنا، بل أنهم أصبحوا يشتكون من عدم منحهم هذه الفرصة أيضاً”.(34)

قبل أن تكشف وثائق “ويكيليكس” هذه التفاصيل كلها، كان المسؤولون الأميركيون “يبررون” اللقاءات مع “الإخوان” بأنها تأتي في سياق الإتصالات العادية التي يعقدونها دورياً مع “النواب المستقلين” بغض النظر عن إنتماءاتهم التنظيمية. وكانوا يشيرون دائماً الى أنه لا يوجد قانون أميركي يحظر التعامل مع “الإخوان” على غرار ما هو موجود بحق جماعات إسلامية أخرى مثل “حزب الله” و”الجهاد الإسلامي” و”حماس”، علماً بأن هذه الأخيرة تُعتبر “الجناح الفلسطيني” لـ”جماعة الإخوان المسلمين”. وليس من الضروري هنا إعطاء أهمية خاصة لحضور بعض قادة “الإخوان” خطاب أوباما الشهير في جامعة القاهرة… لكنه مجرد مؤشر إضافي!

خطاب أوباما كان المفتاح السحري لتشريع أبواب الحوار. غير أن الأطراف المعنية كانت تستعد وتنظم وتخطط بإنتظار أحداث مفصلية معينة للإنتقال من الإتصالات السرية أو غير المباشرة الى الإعتراف الرسمي والعلاقات المباشرة والعمل المشترك ذي الأبعاد الإستراتيجية. لن ندخل الآن في طبيعة “الربيع العربي” ولا في خلفياته المتشابكة، وإنما نقول إن أحداث تونس ومصر واليمن وسورية والبحرين أمنت الخلفية المسرحية المناسبة التي مكنت الولايات المتحدة من تقديم عملها الدرامي الجديد لجمهور المشاهدين في العالمين العربي والإسلامي، ودور البطولة الأولى فيه لحركات الإسلام السياسي.

لم يكن مستغرباً أن تبرز في تونس ومصر، ثم في ليبيا وسورية، فروع “الإخوان المسلمين” من ضمن الحراك الشعبي الذي شهدته تلك الدول. ذلك أن الإسلام السياسي يشكل رافداً إجتماعياً مهماً في العالم العربي، بغض النظر عما إذا كانت تنظيماته تحظى بالشرعية القانونية للنشاط العلني. وفي حين كان مأزق واشنطن في السابق أنها لا تستطيع تجاهل الدعوات الى الديموقراطية في الدول الأخرى بينما لا تسمح بتهديد حلفائها غير الديموقراطيين (تونس ومصر على سبيل المثال)، فإن بروز “الإخوان المسلمين” كقوة أساسية تملأ جانباً من الفراغ السياسي الناجم عن سقوط زين العابدين بن علي وحسني مبارك أتاح لها (أي لواشنطن) فرصة الإنتقال الى التعامل العلني مع الإسلام السياسي.

في أواخر حزيران 2011 أعلنت واشنطن رسمياً أنها قررت إستئناف الإتصالات مع “جماعة الإخوان المسلمين” في مصر. ووصف أحد المراقبين هذا القرار، الذي أكدته وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في مطلع تموز 2011، “أن من شأن الإعتراف بالجماعات التي تجد آراؤها قبولاً لدى الناخبين حتى وإن تعارضت مع القيم الليبرالية الغربية أن يساعد الولايات المتحدة على إستعادة زمام المبادرة وضمان بقاء تأثيرها”. (35) وكالعادة تباينت ردود فعل مسؤولي الجماعة حول الموقف الأميركي. ففي حين قال المتحدث الرسمي بإسم الجماعة الدكتور محمود غزلان إن الجماعة لم تتلق حتى الآن أي طلب أو إتصال من الولايات المتحدة لإجراء حوار بشكل رسمي، أعلن نائب المرشد العام الدكتور رشاد البيومي أن الجماعة ترفض أي إتصالات رسمية مع الولايات المتحدة كحكومة، وأنه إذا حدث أي إتصال مع الحكومة الأميركية فسيكون عبر وزارة الخارجية المصرية. (36) وهذا موقف مفهوم  بسبب سلبية نظرة غالبية الشعب المصري الى السياسة الأميركية في المنطقة. يُضاف الى ذلك أن موقف “الإخوان” الرسمي حريص على عدم الظهور وكأن “الجماعة” عادت للإرتباط بالغرب.

ومع أن المحللين السياسيين الغربيين يرون أن من النقاط الإشكالية في القرار الأميركي مسألة علاقة “الإخوان” المصريين بحركات إسلامية فلسطينية، والموقف من إسرائيل ومعاهدة كامب ديفيد… إلا أن عماد جاد، الباحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية يقول “إن أميركا قد تستخدم أيضاً إخوان مصر للضغط على “حماس” لقبول أشياء معينة إذا لزم الأمر”.(37)

إن القرار الأميركي بإستئناف الإتصالات مع “الإخوان” هو الترجمة العملية للإتجاه الإستراتيجي الأميركي بالتعامل مع (ولن نقول إستخدام) الإسلام السياسي المعتدل في مواجهة الإسلام السياسي المقاوم أو المتطرف أو الإرهابي. وهو الإطار العام للتحرك الأميركي المقبل في ضوء تطورات المنطقة. “إن التعاون الأميركي الراهن (مع “الإخوان”) أخطر من التعاون في المراحل السابقة، لأنه في السابق كان تعاوناً تكتيكياً لأغراض محددة وقصيرة الأجل. أما اليوم فإنه ليس لواشنطن في خضم الفوضى العارمة التي تضرب العالم العربي خيار آخر، لأنه ليست على المسرح العربي قوة منظمة غير “الإخوان المسلمين”. هو الآن، إذن، خيار إستراتيجي”.(38)

يخطيء من يعتقد بأن التوجه الأميركي الجديد نحو الإسلام السياسي المعتدل هو من نتائج وصول أوباما الى البيت الأبيض. فالأمور لا تجري بهذه البساطة في أروقة صنع القرار الإستراتيجي للولايات المتحدة. الأشخاص، مهما إرتفعت أهميتهم، يسبغون على المواقف السياسية طابعاً مميزاً، لكن الخطة الإستراتيجية العامة يكوّنها مسؤولون وأكاديميون وخبراء على مدى أشهر، وربما سنوات. والأكيد أن النقاش الدائر في واشنطن كان وما يزال حول فوائد وأضرار العلاقة مع حركات الإسلام السياسي، خصوصاً وأن هناك من يرى أن “القاعدة إيديولوجية أفلست”، على حد تعبير نائب رئيس مجلس الأمن القومي الأميركي دنيس ماكدونوه،(39) ما يتطلب مخططات مغايرة للتعامل مع المسلمين الأميركيين وغير الأميركيين.

وعلى رغم أن القرار السياسي حُسم لجهة إستئناف الإتصالات مع “الإخوان المسلمين”، إلا أن ثمة أسئلة كثيرة مطروحة على الإدارة الأميركية: كيف يتم التفريق بين الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف؟ وكيف تكون الموازنة في العلاقة مع الحكومات التي قد لا تكون ديموقراطية وشفافة والعلاقة مع الحركات الإسلامية المعتدلة؟ وما هي أفضل السبل لتشجيع الإصلاح السياسي من دون أن نطلق مارد القوى الثورية من عقاله؟ والحقيقة أن هذه الأسئلة كانت قيد البحث والنقاش منذ تسعينات القرن الماضي، وقد توصلت الإدارات الأميركية المتعاقبة الى بعض الأجوبة التي وُضعت موضع التنفيذ الفعلي في دول كانت ظروفها تسمح بذلك.

أحد الأجوبة المهمة كان ضرورة وجود “نموذج إسلامي” يجري البناء على منواله. وقد أشرنا سابقاً الى دعوة ريتشارد مورفي في العام 1995 الى إعتبار تجربة “حزب الرفاه” التركي بقيادة نجم الدين أربكان ذلك النموذج المرتجى، غير أن الظروف لم تسمح بنضوج تلك الفكرة الريادية. لكن الوضع تبدل في العام 2001 عندما تأسس “حزب العدالة والتنمية” في تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان على أساس برنامج يميني محافظ ذي ملامح إسلامية. وللتذكير فقط نشير الى أن “حزب العدالة” وُلد من إندماج “حزب الفضيلة” و”حزب الوطن الأم” وقسم من “الحزب الديموقراطي” وشخصيات وطنية وإسلامية متنوعة، قبل أن يخوض إنتخابات العام 2002 ويحقق فيها فوزاً كاسحاً.

ومن ناحية أخرى، كانت الجهود تُبذل على أصعدة عدة وبمستويات مختلفة بهدف تأطير العمل الإسلامي الديني – السياسي في مؤسسات لا تربطها علاقات مباشرة مع الأنظمة العربية والإسلامية، كما هي الحال مثلاً في منظمة المؤتمر الإسلامي. أي أن تكون على أيدي علماء دين يتمتعون بحضور واسع إجتماعياً وفكرياً وفقهياً، ويحافظون على تماس مباشر مع نبض الشارع ونشاطات الحركات الإسلامية الجماهيرية. ولذلك تأسس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي عقد مؤتمره التأسيسي في لندن خلال تموز 2004. والإتحاد الذي يرأسه الشيخ يوسف القرضاوي، أحد أبرز رموز “الإخوان المسلمين” المصريين، ينشط الآن إنطلاقاً من قطر (وبتمويل منها)، وبات يلعب أدواراً سياسية مؤثرة في تطورات “الربيع العربي”، السلمية منها وغير السلمية.

وفي العام 2006، أشرفت الخارجية الأميركية على تنظيم مؤتمر في بروكسل بين “المسلمين الأوروبيين والمسلمين الأميركيين” شاركت فيه “الجمعية الإسلامية لأميركا الشمالية” المقربة جداً من “جماعة الإخوان”. وقد مثل المسلمين الأوروبيين في المؤتمر عددٌ من القيادات المحسوبة على التيار “الإخواني”. ودعمت المخابرات المركزية الأميركية هذا التوجه بإصدارها تقييماً يعتبر أن “جماعة الإخوان” تُظهر بوضوح “دينامية داخلية ملفتة، وقدرة تنظيمية، وذكاء إعلامياً”. إلا أن الحكومات الأوروبية كانت تراقب بقلق هذا التقارب الأميركي – الإسلامي، من دون أن تكون قادرة على منعه!(40)

إذن نحن بتنا أمام “نموذج إسلامي” تمثله وتروج له تركيا الأطلسية، وغطاء فقهي علمائي يقدمه الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين بقيادة شخصيات “إخوانية” بارزة كالقرضاوي وراشد الغنوشي زعيم “حزب النهضة الإسلامي” التونسي (وقد كان لاجئاً في لندن قبل عودته الى تونس)، ومنظمة سياسية فاعلة هي “جماعة الإخوان المسلمين” تحت مظلة التنظيم الدولي العابر للحدود الوطنية الإقليمية. وهكذا تكون قد إكتملت عناصر “الإسلام السياسي” المقبول أميركياً، ولم يبق سوى تحديد ساحات المواجهة مع “الإسلام المقاوم” أو “الإسلام المتطرف”، على أن يُترك للظروف الموضوعية والذاتية مجال تعيين أشكال تلك المجابهة: حراك شعبي، أو ثورة شعبية، أو تمرد عسكري – مدني، أو تغيير سلمي ديموقراطي… إلخ.

وبغض النظر عن أي من هذه الأساليب، لا تجد واشنطن نفسها ملزمة بالشروط التي كانت تفرضها سابقاً على مشاركة أي من حركات الإسلام السياسي في العمليات التغييرية. شعارات الإنتخابات الحرة، القضاء المستقل، حكم القانون، حرية الصحافة، إحترام حقوق الأقليات، إحترام الحريات الفردية وغيرها من “قيم” الديموقراطية الغربية، ما عادت هي الفيصل في التفريق بين المقبول وغير المقبول. المطلوب فقط هو أن لا تكون هذه الحركات معادية للغرب الأطلسي أو لحلفائه في المنطقة. أما الأمور الأخرى المُختلف عليها، فتعالج في سياق زمني وسياسي آخر. ويبدو أن هناك إلتزاماً بهذا الشأن من قبل حركات الإسلام السياسي المعتدل ترعاه وتضمنه تركيا “الأطلسية الإسلامية” وفق نموذجها الجديد.

وحتى لو أسفر “الربيع العربي”، مرحلياً، عن فوضى دموية وصراعات داخلية ذات طابع ديني أو مذهبي أو عرقي، فإن الغرب الأطلسي وحده الرابح من نواح عدة، أهمها: إسقاط الأنظمة المعادية له أو تلك التي إنتهت صلاحية الإستفادة الإستراتيجية منها، الإستغلال الأقصى للموارد الطبيعية ومشاريع إعادة الإعمار بعد إنتهاء الإضطرابات، الصياغة المختلفة للأنظمة الناشئة على أنقاض الأنظمة المتهاوية، وأخيراً توظيف حركات الإسلام السياسي المعتدل في مواجهات دولية تلوح في الأفق، خصوصاً في الجمهوريات الإسلامية المتاخمة لروسيا، وكذلك في مناطق الصين الغربية حيث تتحرك جماعات الإيغور الإسلامية ذات الأصول التركية ضد الحكم المركزي في بكين.

هكذا تكون العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة الأميركية (ومعها الغرب الأطلسي) وحركات الإسلام السياسي قد دارت دورة كاملة لتعود الى طبيعتها الإستراتيجية بعد أن عانت، ولوقت قصير، من قطيعة دموية منهكة. تركيا تقدم “النموذج” المناسب (كان خطاب مصطفى عبدالجليل رئيس المجلس الوطني الإنتقالي في ليبيا معبراً من على منصة الأمم المتحدة عندما أعلن بالحرف الواحد: “نتطلع الى دولة ديموقراطية إسلامية تستلهم نموذجها من تركيا”)(41). دول الخليج العربية تؤمن الدعم المالي والترويج الإعلامي. الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين والتنظيم الدولي لـ “جماعة الإخوان المسلمين” جاهزان لترسيخ شخصية الإسلام المعتدل الذي تطمح واشنطن في أن يكون سلاحها الفعّال في وجه الإسلام المقاوم أو الإسلام المتطرف. ولعل ما قاله الداعية الإسلامي الدكتور عائض القرني على “تويتر” (آب 2011) يؤشر الى ما تحمله لنا الأيام المقبلة: “شكراً جزيلاً لحلف الناتو لدعمهم الثوار في ليبيا وإسقاط القذافي. أدعو لحلف الناتو بالصحة والعافية لأن دعاء الصائم مستجاب”.(42)

 

هوامش

1- راجع النص الإنكليزي والترجمة العربية في جريدة “البشاير” المصرية، 4 حزيران 2009

2- مجلة “وجهات نظر” – القاهرة، 6 حزيران 2010.

3- لمزيد من التفاصيل عن تحول سيد قطب نحو التطرف يمكن العودة الى كتاب:

Sayyid Qutb and the Origins of Radical Islam, By John Calvert. Hurst & Company, London 2010.

4- “عودة الإخوان المسلمين الى الحضن الأميركي”، مجلة “الديبلوماسي” –  لندن، العدد 134، حزيران 2011.

5- جون كالفرت، مرجع سابق. صفحة 261.

6- “مدارس إسلامية في تركيا تمثل نموذجاً في التعليم الديني المعتدل” (موقع على الإنترنت).

7 و8 و9 و10 و11- راجع كتاب:

Political Islam and the United States, By Maria do Ceu Pinto. Ithaca Press, London 1999.

12- صحيفة “الغارديان” البريطانية، 28 أيلول 2011.

13- ماريا بينتو، مرجع سابق، صفحة 149.

14- جريدة “الحياة”، لندن، 12 أيلول 2011.

15- ماريا بينتو، مرجع سابق، صفحة 156.

16- المرجع السابق، صفحة 242.

17- المرجع السابق، صفحة 206.

18- المرجع السابق، صفحة 169.

19- مجلة “وجهات نظر”- القاهرة، عدد حزيران 2010.

20- المصدر السابق.

21- المصدر السابق.

22- ريموند ويليام بيكر، مجلة “وجهات نظر”- القاهرة، عدد حزيران 2010.

23- المصدر السابق.

24- المصدر السابق.

25- المصدر السابق.

26- جريدة “الحياة”، لندن. 9 كانون الأول 2004.

27- جريدة “الأخبار”، بيروت. 16 أيلول 2011.

28- “التنظيم الدولي للإخوان المسلمين” بدأ كمكتب تنفيذي للجماعة في عهد مرشدها الأول حسن البنا، وهو يضم فروع الجماعة في الدول العربية والأجنبية. حُل التنظيم لاحقاً بسبب ظروف الصراع السياسي مع الرئيس المصري جمال عبدالناصر، ثم أعيد إنشاؤه في أواخر الستينات الماضية، وبات يُعرف بإسم “التنظيم العالمي للإخوان المسلمين”. لكن بعض الإخوان ينكرون وجوده أصلاً. ولذلك يحيطه نوع من الغموض، غير أن المؤشرات العملية تدل على وجوده بالفعل.

29- د. محمد مجاهد الزيات، “المصري اليوم، 8 تموز 2011.

30- أرنست خوري، جريدة “الأخبار” اللبنانية، 12 نيسان 2011.

31- المرجع السابق.

32- المرجع السابق.

33- المرجع السابق.

34- المرجع السابق.

35- وكالة “رويترز”، 2 تموز 2011.

36- موقع “العربية نت”، 30 حزيران 2011.

37- وكالة “رويترز”، 2 تموز 2011.

38- “عودة الإخوان المسلمين الى الحضن الأميركي”، مجلة “الديبلوماسي”-  لندن، العدد 134، حزيران 2011.

39- جريدة “نيويورك تايمز” الأميركية، 3 آب 2011.

40- راجع التفاصيل في مجلة:

The New York Review of Books. March 10, 2011.

41- جريدة “الحياة”، لندن، 17 أيلول 2011.

42- جريدة “الحياة”، لندن، 12 أيلول 2011.

أحمد أصفهاني

باحث وكاتب من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق