لا نريد أن نجلد مواقف القادة العرب بعد قمة الرياض مما يرتكب من عدوان همجي وجرائم حرب في غزّة بعد عملية “طوفان الأقصى” للمقاومة الفلسطينية. فهذه المواقف لم تستمر بالسلبية نفسها، إنما ساءت أكثر. وقد عبرت رئيسة وزراء العدو السابقة “غولدا مائير” ذات يوم عن هذه المواقف أفضل تعبير (بعد حرق الأقصى في آب/ أغسطس 1969)، قائلةً: “لم أنم طوال الليل، كنت خائفة من أن يجتاح العرب إسرائيل أفواجاً من كل مكان، ولكن عندما أشرقت شمس اليوم التالي، علمت أن باستطاعتنا أن نفعل أي شيء نريده”.. ولا ننسى أنها نفسها من قالت بأنها تتمنى أن تستيقظ يوماً ولا تجد “طفلاً فلسطينياً واحداً على قيد الحياة”، وفعلاً فإن استهداف الأطفال الفلسطينيين واغتيالهم قرار سياسي ساري المفعول دائماً وأبداً، وهكذا تستمر محرقة أطفال فلسطين وقد تجاوز عدد الضحايا من أطفال غزة والضفة الـ 5000 ضحية.
قبل كل شيء علينا الاعتراف بثوابت سياسيَّة تاريخيَّة لن تتغير أمنياً وعسكرياً واقتصادياً؛ كونها تمثلُ أداءً استراتيجياً للقوى المحركة للملفات المشار إليها. فالكثير من الأحداث تظهر على الساحة في زمانٍ ومكانٍ معينين لكنها ليس بالضرورة تستهدف ذلك “الزمكان” ولا يمكن التقيد فيه، فالملفات السياسيَّة الأمنيَّة العسكريَّة الاقتصاديَّة لا سيما ذات تلك الاستراتيجيَّة تكون مترابطة وإنْ تباعدت الأهداف، والبيئة، والأجواء، والنتائج.
يُقال إنَّ السياسة لا ثابت فيها، وتتقلب بتقلب الظروف وتغير المصالح.. والقضية الفلسطينية ليست مسألة بسيطة أو محلية أو حتى إقليمية، ليُصار إلى حلها بمعاهدات تسوية فحسب، فهي أعقد من ذلك بكثير. ومهما تمكّنت القوى الغربية، في أوقات سابقة، أن تميع القضية وتفقدها زخمها وتأثيرها وتدفنها تحت تراب التطبيع أو معاهدات التسوية، أو تجعلها مسألة تخص “الفلسطينيين” أو حتى “أهل غزة” وحدهم، فهي لن تنجح في تصفيتها… وعلى ذلك فإن الأمور قبل “طوفان الأقصى” لم تعد كما بعدها.
ففي حين كان أسلوب المقاومة الفيتنامية “الفيتكونغ” يقوم على أساس الهجمات الخاطفة في الأدغال ومن ثم الاختباء في خنادق تحت الأرض، تكشف المقاومة الفلسطينية خلال مواجهتها البريّة للاحتلال، أنَّها استلهمت أسلوب المقاومة الفيتنامية وأضافت عليها نظرتها المتطورة في المواجهة القائمة، وبالرغم من الدخول البري لنخبة جيش الاحتلال إلى القطاع ومن محاور متعددة بهدف تقسيم القطاع إلى مربعات أمنية، غير أن بقاء هذ التمدد البري للاحتلال دونه عقبات، أولاً، بسبب شراسة المقاومة الفلسطينية من جهة، وثانياً، لقرار أتخذه محور المقاومة يمنع انكسار “حماس” في غزة، وفي حال حصول ذلك فهذا يعني دخول قوي لحزب الله وفصائل المقاومة العراقية واليمنية في حرب شاملة مع العدو الصهيوني لمنع تصفية “حركة حماس” في غزة.
تحاول الإدارة الأميركيَّة بالتوافق مع عدد من الدول الأوروبية الترويج لفكرة تأسيس ما يسمى بـ “ممر إنساني” بين قطاع غزة ومصر يسمح بانتقال المدنيين الفلسطينيين من القطاع إلى شمال سيناء أثناء العدوان، الذي يمارسه جيش الاحتلال على غزة. وفكرة التهجير (ترانسفير) كشفتها وسائل إعلام صهيونيَّة وغربية، ثم بدأت الإدارة الأميركية تسهّل حصولها رغم نفيها لتبنيها رسمياً، وذلك بهدف تفريغ قطاع غزة من مواطنيه، ومن ثم تحسين قدرة الكيان الصهيوني على مواصلة حرب الإبادة والتدمير الشامل للقطاع في ظل خنوع دولي وعربي غير مسبوق.
هي فكرة النكبة لا تزال تراود العقل الصهيوني، بعد أن تمَّ تهجير الفلسطينيين سنة 1948 عندما نَزَح أو طُرِد مئات آلاف الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم، وتدمير ما يتراوح من 400 إلى 600 قرية فلسطينية، بالإضافة إلى المحاولات الدائمة لتَهْويد التاريخ الفلسطيني.
ويهدف العدو ومن ورائه الغرب الأميركي وبعض العرب من هذا الترانسفير الجديد إلى تَشْتيت بقية المجتمع الفلسطيني، والاستيلاء على مُمْتَلَكَاته، وإبعاده عن أرضه، وقد رد المتحدث باسم كتائب القسّام، “أبو عبيدة” على هذا الهدف: “نقول للعدو من جهة ونطمئن أبناء شعبنا من جهة أخرى، إن الهجرة في قاموسنا ليست واردة سوى هجرة العودة إلى عسقلان والقدس وحيفا ويافا وكل فلسطين”.
لقد تجاوزت الحرب الشهر بأسبوع وتستمر ملحمة غزة رغم القصف المنهجي الذي دمّر المناطق السكنيّة مع اجتياح بري للجيش الإسرائيلي الذي يرى في مواجهته مقاومة ضارية يخوضها المقاومين معه ومن مسافة صفر.
ويبقى السؤال: كيف ننتقل بالمقاومة من لحظة الانفعال والدفاع الى حقل الواجب والحق والهجوم (الدائم)؟ وكيف يمكن استثمارها في عملية استرجاع ما تم تفكيكه ونهبه والاستحواذ عليه بالقوة؟ هل نقدر على وقف أداة التدمير الشامل؟ وإلى أي مدى تكون فلسفة المقاومة أداة خلاص جماعي من الظلم والاستيطان والاحتلال والاقتدار على الابداع التام والمبادرة من جديد كما في “طوفان الأقصى”؟
ورغم أحقية هذه الأسئلة غير أن السلطة الفلسطينية الممثلة بمحمود عباس، ظلت تعلن بعد كل عملية ضد الاحتلال تقوم بها حماس والفصائل التي معها في غزة، بأنها غير مسؤولة عنها، وهذا سبّبَ رفع الغطاء السياسي الشرعي عن حركة حماس، فاعتبرت خارج الإطار المؤسساتي للسلطة الفلسطينيّة الذي يفترض أن “إسرائيل” تعترف به وفق اتفاقات أوسلو.
واستكمالاً لذلك استثمرت “إسرائيل” خطاب حماس “الإسلاموي” ومشروعها الساعي لمحو “إسرائيل” وتحرير كامل الاراضي الفلسطينية، لتعتبرها مع واشنطن بعيد عملية 7 تشرين أول ” حركة إرهابية” موازية لتنظيم “داعش”.
لم تكن عملية “طوفان الأقصى” بالسهولة التي يتصورها البعض، لأن وقوف القوى الكبرى وفي مقدمتها أميركا وأوروبا مع الكيان الصهيوني، يجعل تداعياتها قاسية على أية دولة تتخذ قرار المواجهة العسكرية مع الاحتلال.. الدرس الفلسطيني رغم توهجه إلا أنه قاسٍ جداً على حركات المقاومة الفلسطينية وخاصة حركة حماس.
كان يمكن أن تكون صور موت أطفال غزة حافزاً للعالم على أن يستعيد إنسانيته، وأن يبعث رسالة لكل مجرمي الحروب أنهم مسؤولون، وكان يمكن أن تتوقف المأساة لو عرف همجيو جيش الاحتلال الصهيوني أن القانون سيحاسبهم ذات يوم، لكن يبدو أن لاِ شيء ما دامت حضارة النازية لا تزال مهيمنة، وما دام القاتل يعتبر نفسه بريئاً.
ففي وقت يثرثر فيه الديمقراطيون في الغرب بحقوق الإنسان والحريات، نرى أنهم تركوا لنا الويلات والحروب والمجازر، وهو ما يجعلنا نستعيد قول جبرا إبراهيم جبرا عشيّة العدوان الغربي على العراق سنة 1991، تلك الضربة المليئة بالحقد والتي نكّلتْ بالبلاد وقتلت الأطفال وأذلَّتْ الناس، قال جبرا “أنا أثق بهذه الحضارة التي فيها شكسبير وميلتون وإليوت وديلان توماس، لكنّ هؤلاء الذين يضربون بغداد لا أعرفهم. أنا حائر كيف أن حضارة أنجبتْ هذه الكنوز الإنسانية قادرة على أن تتحيْوَن إلى هذا الحد”!! وحين سُئلتْ مادلين أولبرايت (وزيرة خارجية أميركا السابقة): هل يستحق الأمر موت مليون طفل عراقي من الجوع؟ أجابتْ نعم إنه يستحق!… فكم ينطبق هذا القول على ما تجنيه يد الغرب بدعم همجية القتل الصهيونية بحق الفلسطينيين عامة والغزاويين بخاصة.. نعم إنه الغرب نفسه، دائماً وأبداً، لم يكن حاضراً يوماً في المواعيد الأخلاقية الكبرى!