عاش العالم برمته تفاصيل انتقال اللاعب الأرجنتيني ليونيل ميسي – نجم فريق برشلونة – إلى فريق باريس سان جرمان الفرنسي بصفقة مليونية تضع العقل في الكف – كما يُقال – وانشغل بكل تفصيل من تفاصيل هذا الانتقال، فتربص المفتونون به ينتظرون في المطارات والشوارع وطاردوه بالكاميرات وأغمي على بعضهم من شدة الإعجاب وتعالت أصوات المؤيدين – من العوام – الذين يرون في أسطورتهم النجم الذي يستحق الكثير، بينما خفتت أصوات العاقلين ممن لا زالوا يتمتعون بالقليل من المنطق والفهم في هذا العالم الغريب، ذلك المنطق الذي يدفعهم للتساؤل والاستفهام عن مبررات هكذا تعاقدات ومسوغات إنفاق كل تلك الملايين على أنشطة اخترعت أصلاً للتسلية والترفيه، ولا تتمكن من مواجهة مشكلات البشرية الرئيسية التي تحيط بها من كل جانب (بيئة، صحة، غذاء وماء…)، في ظل توغل البشرية في غياهب الطريق الذي يهدد وجودها والذي فرضته الرأسمالية التي توحشت بتسارع رهيب، بالقدر الذي دفع بالكثير من منظريها للتوقف والتأمل ومراجعة حساباته الفلسفية والأخلاقية، تلك الحسابات التي حدت بهم سابقاً للدفاع عن هذا النظام الاقتصادي السياسي واعتباره النظام الأمثل للبشرية، لا بل دفعت بالبعض إلى اعتباره النظام الذي انتهى تاريخ البشرية عليه ، نهاية لا رجعة فيها، كما هو حال فرنسيس فوكوياما.
لا شكَّ أن المبالغة الفجة في قيمة وصفقات تعاقدات الرياضيين، ليست المبالغة الوحيدة، بل أغلب التعاقدات الأخرى في مجالات الأزياء والتمثيل والطبخ والرسم…الخ، من الأنشطة الترفيهية، بذات المستوى من البذخ والإسراف، وهي نتيجة طبيعية، غير شاذة، عن النظام العالمي الجديد / العولمة /، الذي فرض شروطه على العالم برمته. هذا النظام السائر نحو مزيد من التوحش بخطى حثيثة، فنحن نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام، أدى تدريجياً إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة.
وعبر العالم يلحظ المرء صعوداً غريباً لقواعد تتسم بالرداءة والانحطاط المعياريين، فتدهورت متطلبات الجودة العالية وغُيّب الأداء الرفيع وهُمّشت منظومة القيم وبرزت الأذواق المنحطة وأُبعد الأكفاء وخلت الساحات من التحديات، فتسيدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية وكل ذلك لخدمة أغراض السوق بالنهاية ودائماً تحت شعارات الديمقراطية والحرية الفردية والخيار الشخصي، حتى صار الأمر يذكّر بما كان مونتسكيو يحذر منه ومن وجوب صون الحرية عن الابتذال عندما قال: إن ممارسة الحرية من قبل أكثر الشعوب تمسكاً بها تحملني على الاعتقاد بوجود أحوال ينبغي أن يوضع فيها غطاء يستر الحرية مثلما تستر تماثيل الآلهة.
موجات من التسطيح، تشابه الشخصيات، غياب العقل النقدي، دعاوي الخبرة، الرأسمالية المتوحشة، وهم الكاريزما، عطب المؤسسات، الفساد، تسليع الحياة العامة، الفن الرخيص، أثر التلفزيون، التلوث، التخريب لإعادة الإعمار، العلاقة بين المال والسياسة، الحوكمة، ثقافة الإدارة السطحية ومفرداتها الخالية من المعنى، الابتكار، التمكين، ريادة الأعمال، الاستعمار الاقتصادي، الاوليجارشية، الأزمة المالية، برامج التقشف، الجريمة المنظمة، العلاقة بين المال والأكاديميا تسليع الجامعة.
وقائع تنقل بدقة الانتشار المستشري للتفاهة مع الإيمان بأنها -وان عرضت نفسها لغير المتمعن على شكل فوضى متمثلة في حالات متناثرة- في واقع الأمر نظام مكين، يضرب بجذوره في تربة المجتمع شيئا فشيئا بشيء من المنهجية والاستقرار المرعبين.
هل يعقل أن ترتضي البشرية نظاماً اقتصادياً يكرم ويبجل التافهين، بينما دماء الألوف من أعضاء الكادر الطبي لا تزال طازجة لم تجف في مثاويها؟ تلك الدماء التي بذلت بسخاء في الخطوط الأمامية لجبهتها مع كورونا حماية للبشرية؟
هل يعقل أن ترتضي الإنسانية سيادة أنظمة لا أخلاقية، تجزي العطاء لممثلة أو عارضة أزياء أو راقصة أو رياضي وتجحف بحقوق من يقدمون خدمات جليلة للبشرية، من أطباء ومهندسين ومحامين ومفكرين وفلكيين ومبدعين …الخ؟ هل فرض على البشرية نظام يحول كل نشاط في الفضاء العام / سياسة أو إعلام أو أكاديميا أو تجارة أو عمل نقابي أو غير ذلك /إلى لعبة يلعبها الأطراف فيه، لعبة يعرفها الجميع، رغم أن أحداً لا يتكلم عنها ولا قواعد مكتوبة لها ولكنها تتمثل في الانتماء إلى كيان كبير ما، تستبعد القيم فيه من الاعتبار، فيختزل النشاط المتعلق به إلى مجرد حسابات مصالح متعلقة بالربح والخسارة الماديين /كالمال والثروة / أو المعنويين / كالسمعة و الشهرة والعلاقات الاجتماعية / وذلك إلى أن يصاب الجسد الاجتماعي بالفساد بصورة بنيوية، فيفقد الناس تدريجياً اهتمامهم بالشأن العام وتقتصر همومهم على فردياتهم الصغيرة؟
-نحن نلعب لعبة أعظم من أنفسنا أو نتظاهر بالخضوع لها ونوسع من نطاق قواعدها طوال الوقت أو نخترع لها قواعد جديدة- حسب الحاجة – رغم أنه عادة ما يكون بين الأشخاص الطموحين، أناس ذوو معايير تنشد النجاح الرفيع وآخرون ذوو أخرى متدنية، يبحثون عن النجاح السهل، فإن من يدير اللعبة هي الفئة الثانية عادة لأن أفرادها أقرب إلى ما تتطلبه الطبيعة اليومية للحياة من التبسيط ونبذ المجهود والقبول بما هو كاف للحدود الدنيا، فإن لم يرتفع الثانيين إلى المرتبة العالية للأوائل ،حرصوا على أن ينحدر هؤلاء إلى دركهم والانحدار وهو أمر يحدث بسرعة وبشكل مخاتل، لا يلبث المرء معه، إلا وقد وجد نفسه قد سقط من عليائه، فانضم إلى من في السفح هناك بالأدنى، فالتسفل أيسر من الترفع ولعل سبب اقتران نظام التفاهة بالنظام الرأسمالي البحت، يكمن في موقف الأخير من مسألة تنظيم السوق وضبطه أخلاقياً، حيث تتبنى الرأسمالية الصرفة فكرة النظام التلقائي للسوق الحرة المدارة بأقل قدر ممكن من التنظيم الرسمي، أي تحجيم دور الدولة، بحيث تقوم بأقل الوظائف، فتقتصر على السهر على المرافق الأساسية الثلاثة: وهي الأمن الخارجي والأمن الداخلي والقضاء أو ما يعبر عنه بـ (وظيفة الحارس الليلي) وترك كل ماعدا ذلك لآليات السوق، أي تكريس نظام يسعى لإسباغ التفاهة على كل شيء وتكمن الخطورة الحقيقية للأمر في كون هذه المهمة سهلة وممكنة التحقق بسلاسة إضافة إلى دعم التافهين لبعضهم البعض فيرفع كل منهم الآخر لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار لان الطيور على أشكالها تقع.
لعبة سنلعبها ونحن صاغرين. نظام يتفاخر- زيفا ً- بقضائه على العبودية وتبنيه لقيم الحق والخير والجمال والعدالة والحرية ليباع الإنسان في أسواقه كما تباع البضائع بنظام تسعير وعرض وطلب محددين، ثم لينصحنا بلغة استعلائية صارمة بأن:
ضع كتبك المعقدة جانباً فكتب المحاسبة صارت الآن أكثر فائدة، لا تقدم لنا فكرة جيدة من فضلك فآلة إتلاف الورق ملأى بها سلفاً، لقد تغير الزمان فلم يعد هناك اقتحام للباستيل ولا شيء يقارن بحريق الرايخستاغ كما أن البارجة الروسية اورورا لم تطلق طلقة واحدة باتجاه اليابان ومع ذلك فقد تم شن الهجوم بنجاح. لقد تبوأ التافهون موقع السلطة، التافهون الذين يمكن في عهدهم التعاقد على شراء الإنسان وبيعه بعقود على غرار عقد ميسي.
سيرفض العاقلون تلك النصيحة الاستعلائية مرددين كلام الشاعر لويس بوييه:
/ آه أيتها التفاهة المنتنة، الشعر النفعي، أدب البيادق، الثرثرة الجمالية، القيء الاقتصادي، المنتج المقزز لأمة مستهلكة، إنني أكرهك بجميع قواي الروحية، ‘نك لست بالغرغرينا، بل أنت ضمور عضوي، إنك لست بالالتهاب الساخن الأحمر للأزمنة المحمومة بل أنت الخراج البارد ذو الأطراف الباهتة الذي يقطر كما النبع الذي يجد مصدره في تجويف تسوس عميق.
———————————————
هامش: نظام التفاهة، هو عنوان كتاب من تأليف المفكّر الكندي آلان دونو، عام 2017. وهذا المقال يعرّف بشكل مكثف بهذا النظام من خلال واقعة رياضيّة تتمثل بانتقال النجم الارجنتيني ميسي من نادي برشلونة إلى نادي باريس سان جرمان بمبلغ خيالي.
المقال يعتمد منهجية كتاب نظام التفاهة على نحوٍ ما، كما يأخذ بنسق المصطلحات المحورية والكلمات المفتاحية كما وردت، خصوصاً في مقدمة الطبعة العربيّة، الصادرة عام 2020، التي هي من ترجمة وتقديم: الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري.