العالم الآن

هويّات العصر القادم

يتقدم المشهد… تفكك الأيديولوجية الأخيرة للغرب، تفكك الليبرالية الديموقراطية التي اختارها فرانسيس فوكوياما كتوضّع أخير للغرب، في مسار طويل ابتدأ مع نهاية عصر الحروب النابليونية، وتصاعد ايديولوجيات تقدم للعالم بديلاً عن الايديولوجية التي سيطرت منذ عصر الفتوحات الكبرى للغرب بعد اكتشاف العالم الجديد، وهي الديانة المسيحية التي كانت الايديولوجية المقدمة لسكان العالم الجديد لصناعة فضاء ثقافي مقارب أو يشبه الفضاء الثقافي لأمم الغرب الأوروبي، لتقصير مساحة العداء تجاههم من سكان العالم الجديد، فضاء ثقافي يوحد الغرب القديم “الأوروبي” مع الجديد “الأميركي” ويساعده على بسط هيمنته، وتكريس فضائه لإخماد ثقافة أية هوية متصاعدة من السكان المحتلين إزاءهم.
في هذا العصر لم تكن الايديولوجيات التي قبضت في عصر لاحق على المشهد الاقتصادي والسياسي والثقافي قد بزغت في أوروبا، أعني بها الأيديولوجيات الاشتراكية أو القومية أو الديموقراطية الليبرالية والتي قادت ومنذ منتصف القرن التاسع عشر صناعه المناخ والفضاء الثقافي والسياسي والاقتصادي الذي هيمن على العالم لاحقاً.
حتى الحرب الروسية الأوكرانية التي لا تزال مشتعلة، ومجيء ترامب في ولاية ثانية بعد انتخابات 2024، الذي ترافق بانحدار حاد لمسارات الديموقراطية الليبرالية التي حاول الغرب رسمها على أنها المآل الأخير.
ما يمكن مشاهدته عبر العالم اليوم ورصد الهوية المسيطرة على فضائه، هو تصاعد القبض الملحوظ على الهوية الدينية لصناعة تمايز ثقافي يقدم إلى العالم كخيار أخير في وجه الفراغ الايديولوجي الذي كرسه ترامب في حربه على كل التفصيل الايديولوجي لليبرالية الديموقراطية منتزعاً توافقاً أسطورياً من شعبه على تلقف الهوية الضائعة، الهوية المسيحية.
في ظل تصاعد أرثوذكسية روسيا، والبلقان، والعالم الأرثوذكسي لصناعة هوية خاصة، وفي ظل تصاعد الهندوسية كهوية، وفي ظل تصاعد الهوية الإسلامية، واليهودية ،أحس الغرب أنه يفتقد للهوية التي أسست لثقافته المعاصرة، والقائمة على قاعدتين مؤسستين هما الفلسفة الرومانية اليونانية، والمسيحية الغربية، وعليه ابتدأ بمحاوله القبض واستعادة هذه الهوية، التي يمكن ملاحظتها بسهوله في أميركا التي لم تغادرها في الأساس لكن تم القبض عليها وتحييدها لزمن في ظل هجوم اتخذ شكلاً من التدمير المنهجي لأسس الكنيسة عبر تقديمها فضائحياً في حالات أصبحت الآن معلنة، والكنيسة نفسها اعترفت بحدوثها، وجعلها تتكور على نفسها في محاولة لصون الذات، بل إنها أحياناً جلدت نفسها في محاوله للتكفير عما حدث.
وفجأة اكتشف الغرب “الأميركي خصوصاً” أنه لم يعد يملك أيه هوية يقدمها للعالم، استنفذ كل هوياته الأيديولوجية، استنفذ مناخه الثقافي، لم يعد مسيطراً ولا يملك أي شيء يعطيه للعالم من جديد، سوى استعاده هويته المؤسسة، الهوية المسيحية.
في نهاية المشهد، يبدو لي أن هذه الهوية سيتم تفويضها لإعادة رسم المناخ الثقافي للعالم، إزاء الثقافات الهوياتية المتصاعدة التي رسم هنتنغتون حدودها وحدود نفوذها فيما عرفه بحدود الدم، أو حدود تصادم الحضارات.
الهويات الدينية وجدت…لتبقى.

حيدر كاتبة

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق