حالة راهنة
(مشهدٌ واحدٌ من مسافتين)
I
شرفة
من شاغر الفراغ المحدّث حكماً،
تستمد التيارات الصاعدة والهابطة، عبثها.
في بحرٍ بلا رؤوس، بلا خلجان، بلا مرافئ، بلا شطآن …
دوارات من الخلاء تبتلعنا وتتقاذفنا.
مولدة مع كل زوغان، زوابع مغشية القيم والمفاهيم تليق بمحور الغرق …
في الاستعصاء المتوسّل ثوب القدر… الشرُّ أفضل من الغباء…!
الشرّ … يستلزم نفقاً أخلاقياً، وقوة إرادة، وروح مغامرة.
الغباء… يذعن للغرائز كأي حيوان في حظيرة، ورث سياج صاحبها، مقتنعاً أنه يتفاعل باسم الحق، على طريق الخير المؤدي للجمال.
يلوك افتخاره باستمرار، ويخرخر انتصاراته ويستعرض قدرته على سحق جميع أولئك المختلفين معه ولو بمذاق الطعام …!
سناجقنا المذعِنة لخدر الولاء، والتي استطابت المعونات والسلل وعلب الزكاة الرمضانيّة، كما يستطيب النمل نفايات الكائنات العملاقة العابرة فوقه،
لن تتذوق طعم الاستحقاق يوماً؟
ما دامت ترث بالتعود لعق قبضة سيف الباب العالي الطويل.
هذا السنجق المفيد،
يحتاج مزيداً من الأشرار
وأقل عدداً من الأغبياء ……!
II
وسط الزحام
ما نفع هذا المطمر الهائل من الثورات والعقائد التي أتت أو نبتت في سورية كلها، من بحرها في الغرب إلى رافديها في الشرق، والتي أفنت عمرها في جدل فلسفي عن الدولة والسلطة، وأهرقت دمها ودم غيرها على هذه الأرض التي شهدت شتى ألوان الصراعات وأطولها، وأكبر عدد من الاحتلالات والغزوات في التاريخ وما تزال …؟
ماذا فعل التشرذم السرطاني لرياح اليسار، المحمّلة بغبارِ طلعِ القطب المتجمّد، يحمر العيون بقوالب مصبوبة جاهزة عن نمط الإنتاج، لم تنتج إلاَّ الأنظمة الفاسدة بمواصفات على (إيزو) قياسها…؟
فبدا المنتج ككلب أعمى يجسّ مزابل تلك الأنظمة، علّه يشتَّم رائحة اللينينية والستالينية والتروتسكية، التي تعفّنت وخرجت كعملة من التداول في بقايا النظام الخالدة …؟
ماذا بقي من حزب سعادة العظيم في جوهره وحقيقته ودقة بنيانه بعد استشهاده، والذي عجز كل تراب العالم عن ردم تلك الحفرة التي فُتحت في الثامن من تموز 1949، والتي وقع فيها الحزب نفسه، بعد تعرضه لغزو (فرديّات) مفرطة في الشخصَنة والنزوع في التبعية، راهنة كل ذلك الألق والألم وقوداً لفرديتها، والتي حذّر من خطورتها سعادة العارف والرائي، في كل خطبه ورسائله ووصاياه…؟
وكان أن غاب جوهر العمل النهضوي، الذي هو عمل تغييري وجذري بامتياز.
عملٌ يتطلب حواراً صراعيّاً مع السلطة التي رقّمت الناس افتراضياً، وامتّصت قوة فعلهم، وأصبح الحزب مكوناً هشاً للسلطة، يستنسخ ممارساتها نهجاً واتجاه، حتى في أصغر تشكيلاته…؟
نسوا أو تناسوا أن للنهضة أكتاف رجال وقلوب نساء، لا إماء وجواري وخصيان…!
وهل يبقى الصراع الفكري في الأدب السوري إن قرأَته الإماء والجواري… كتاباً …؟
ها هم خلطة ساذجة من الفقه الخميني والعروبي والوهابي واليساري واليميني.
حسب أقرب بردعة تليق بقياس من يمتطيها،
يستنسخون ديكتاتوريات تافهة …!
من اليسار المتسلّق العفن واليمين المتحجّر المتربّص، ووسط اليمن واليسار المتأرجح، ولدت النخب الثقافية / السلطة الأولى في وعي المجتمع والرابعة في قيادته، والتي انتشرت فيها الأميّة عشرين ضعف انتشارها في الأوساط الشعبية والعفوية والفطرية.
استحالت ورشات عمالة للموزاييك والزخرفة والتبليط، في قصور النفوذ والمال والسلطة.
وما أكثرهم في بلاد الفقراء.
المثقف هو العارف مغطّساً بالكرامة، ينتقد دون حساب، يطلق ناراً / نوراً تطهّر كل رذيلة تتحرك، يطرح الأزمة بالسؤال والتحليل والاستفهام، يخلخل السائد المتبلّد. لا يردد صدى حمم السلطة الحاجبة بدخانها الأسود، رسائل الحب والحريّة …!
أين السؤال الذي يصرخ، شارخاً مهجة السماء…؟
ماذا فعلنا، وماذا فعل كل هؤلاء، لأمة عمرها آلاف السنين من إنتاج النور…؟
استباحها الطغاة واستهلكها الفساد، وسابت مراعي ومستنقعات داشرة تحت سطوة الأطماع وشذّاذ الآفاق…؟
ماذا فعل كل هؤلاء ليتركوا شعباً يرتعد في ظله، يصفق لكل قادم، ينسجم معه كأنه أباه، يقبل الذل والقهر ويسهم فيه طواعية وعفوية، ويتلذذ بالديانة والنميمة والوشاية…!
شعب من نسل عظيم، أصبح محط احتقار على أبواب الأمم…!
انحدرت النخب لمستوى الرعاع غير مأسوف عليها، في طريقة التفكير والطموح والأحلام المتصاغرة يوماً بعد يوم.
لم يبق لأيّ عاقل أيّ مكان، فالحقول تزهر بالخطر والحرمان والإلغاء، ففر هائماً من الزمان والمكان، حتى غدا آلة كاسحة تزيل كل ما حولها دون تفكير. فقط يكفر بتاريخ ولادته في مسقط رأسه.
وباتت الدولة أكبر كذبة تواظب الأنظمة على روايتها كشهرزاد، ولكن دون ديك يصيح معلناً الصباح، للسكوت عن الكذب المباح!
فالدولة إمارات وعلامات لكنها لا تلمس، إله خفي لم يحقق أحد وجوده، إلاّ طنين الرسالات التي تبشر بالاستسلام قبل الاستلام …
لا سلام عليكم يوم تموتون وفي اللحظة القاتلة تبعثون أحياء.
هل يشبع من يأكل من مائدة الطموح،
طالباً ما وراء العرش…؟؟