مسار جلجامش

لواء اسكندرون: قصّة مأساويّة

بين تركيا وفرنسا و (الكتلة الوطنية)

(ليس الخطر الشمالي بأقل خطراً من الجنوبي القائم في فلسطين. وإذا ظننا أنَّه لا توجد لنا قضية عملية سياسية اقتصادية إلاّ قضية فلسطين فقد برهنا على أننا لا نعي حقيقة قضايانا، فنحن نعرّض أنفسنا لخطر ساحق داهم في الوقت الذي نعالج فيه خطراً واحداً مداهماً. قضية الأمة قضية واحدة، فإذا لم نع إلاّ جزءاً واحداً منها فلسنا قائمين على أساس صحيح وليست خططنا صحيحة يمكن أن تنقذ المصير القومي) –  أنطون سعادة

مدخل

كانت سورية بعد الحرب العالمية الأولى مركز التصادم السياسي والاقتصادي بين فرنسة وبريطانية. وكان من نتيجة هذا التصادم بين المصالح الاستعمارية مزيداً من التمزق والتشرذم في شعبنا قادنا إلى كوارث قومية كانت أولها المؤامرة الاستعمارية في مسألة سلخ لواء الاسكندرون. وبعد الحرب العالمية الثانية كانت النتيجة اغتصاب فلسطين. وتتشابه الأدوار في كلتا المسألتين. فشعبنا الذي كان فاقداً أي تنظيم باستثناء الحزب السوري القومي الاجتماعي، شعبنا هذا واجه مؤامرات الاستعمار المتعاون مع الطبقة الرجعية الخائنة وكانت الكوارث القومية.

المطامع التركية في سورية

ظهرت المطامع التركية إثر معاهدة لوزان (1923) بعد الحرب العالمية الثانية. وذلك حين أبدت تركية رغبتها في السيطرة على منطقة الموصل في شمال العراق. وهي المنطقة الاستراتيجية الغنية بحقول النفط. ولكن رغبة الحكومة البريطانية في ذلك الوقت بالمحافظة على المنطقة لمواصلة احتكاراتها النفطية وسيطرتها على العراق. أفشلت مساعي تركية خصوصاً بعد وقوف عصبة الامم بجانب العراق بناء للتعليمات البريطانية. (1)

بعد عشر سنوات ظهرت المطامع التركية في الاسكندرون بالرغم من أن مسألة الموصل بقيت عالقة بسبب تصلّب الموقف البريطاني واستمرار مطالبة الأتراك بها. لكن الصورة في الاسكندرون اختلفت فقد عرضت فرنسة عرضاً سخياً للأتراك في معاهدة انقرة (1921) وأعطتهم امتيازات خاصة في السنجق. وأقامت لهم نظاماً خاصاً. وأصبحت اتفاقية أنقرة من الأسباب الرئيسية التي تذرعت بها تركيا في مطالبتها بلواء الاسكندرون في الثلاثينات. أما الأسباب التي حدت بفرنسة لتوقيع اتفاقية أنقرة في 20 تشرين الأول 1921، فهي رغبتها في تلك الفترة أن يكون لها تأثير مباشر في بحر ايجة وآسيا الوسطى في وجه محاولات بريطانية التي كانت تدعم اليونان في خلافاتها مع تركيا. لذلك توثقت العلاقات بين فرنسا وتركيا وبدأت الزيارات والمحادثات بين مصطفى كمال وفرنكلين بويون التي أثمرت في الوصول إلى معاهدة انقرة حيث تمتع السكان الأتراك بحرية إنماء ثقافتهم، واعتبرت اللغة التركية لغة رسمية. وهكذا اقتطعت فرنسة من الاراضي السورية 180 كيلومتراً مربعاً كهدية إلى تركيا. وتشير الاحصاءات الرسمية الفرنسية في تلك الفترة أن عدد سكان سنجق الاسكندرون كان حوالي 220.000 نسمة، نسبة الاتراك فيهم 87000 ألف نسمة فقط أما الباقي فكانوا من السوريين. (2)

مطامع جديدة

اغتنمت تركية الوقت المناسب للتحرك والمطالبة بمناطق جديدة. فبعد تصفية المقاومة الكردية في شمال سورية وانشغال الفرنسيين في ثورة جبل الدروز سنة 1925. وضع الأتراك مطالب جديدة بأراضي جديدة. وبعد سلسلة من المفاوضات بين فرنسة وتركيا تم الاتفاق في 22 أيار 1929 على تقسيم المنطقة بين تركية وسورية على أن تنال تركية 1/5 من الأراضي ويترك القسم الباقي إلى سورية (3). ولكن هذا الاتفاق كان بدون شك اتفاقاً مرحلياً ما لبث أن نقضته تركيا وطالبت بمناطق جديدة اخرى.

بين سنوات 1929 و 1936 اهتمت تركية بسكان السنجق وبنمو الثقافة التركية فكان الطلاب الأتراك في السنجق يذهبون إلى تركية للدراسة على نفقة الحكومة التركية. وكانت الزيارات للسنجق متواصلة من قبل المسؤولين الأتراك وانتظرت تركية الوقت المناسب للتحرك من جديد لضم اللواء اليها. وكان ذلك بعد توقيع المعاهدة السورية الفرنسية في 9 أيلول 1936 التي وعدت سورية بموجبها بانتهاء الانتداب تمهيداً لإعطائها الاستقلال.

كانت اتفاقية سايكس- بيكو سنة 1916 الطعنة الأولى في جسم سورية. اقتسمت فرنسة وبريطانية بلادنا وكان العراق وشرق الاردن وفلسطين منطقة انتداب بريطانية. والشام ولبنان منطقة انتداب فرنسية. في ذلك الوقت كان شعبنا غارقاً في تمزّقه القومي وتناقضاته الطائفية والفئوية، مسيطراً عليه جماعة اقطاعية تمثل الاقطاع الطائفي العشائري القبلي مفرزة من بقايا الحكم العثماني، ومرسخة وجودها بدعم من الاستعمار الجديد الذي دخل بلادنا تحت اسم الانتداب. هذه الطبقة الطائفية الاقطاعية القبلية لعبت دوراً هاماً في تسليم أرضنا للأتراك في الشمال، ولليهود في الجنوب. وتمزيق شعبنا إلى طوائف ومذاهب.

أعلن عصمت اينونو رئيس الوزراء التركي لنوري السعيد أثناء مروره في اسطنبول في طريقه إلى جنيف عن رغبة الحكومة التركية في حل “مشكلة الاسكندرون” مباشرة مع سورية. وبأنه يرغب في مرور الوفد السوري أثناء عودته من باريس في تركيا لبدء المفاوضات. ونفذ الوفد السوري “الأوامر” وبدأت المفاوضات بصدد الاسكندرون مع وزير الخارجية التركية.

وما لبث أن أعلن هاشم الأتاسي أحد أعضاء الوفد “أن الأتراك في الإسكندرون سيتمتعون بنفس الحقوق والواجبات التي للسكان العرب” . بعد ترك الوفد السوري تركيا شددت تركية الضغط فدعا كمال اتاتورك في خطابه إلى الشعب أخذ مسألة الاسكندرون بجدية لأنها (أراضي تركية)، وطالب وزير الخارجية التركية رشدي اراس عصبة الامم “بمحادثات مباشرة مع الحكومة الفرنسية بشأن الاسكندرون” قبلت الحكومة الفرنسية العرض التركي وبدأت المفاوضات في ظل اتفاقية انقرة حسب طلب تركية وموافقة الحكومة الفرنسية . ثم ما لبث أن رفع الموضوع إلى الجمعية الاممية حيث دافع رشدي اراس وزير خارجية تركيا عن وجهة نظر حكومته معتبراً أن الانتداب لا يشمل سنجق الاسكندرون حسب بنود اتفاقية لوزان، إثر ذلك عيّن السيد سندلر السويدي كمعتمد للجمعية الاممية في اللواء لكي يرفع تقريره عن الوضع، واتفقت فرنسة وتركية على تأجيل البحث في الموضوع الى دورة الجمعية القادمة حتى يتسنى لبعثة سندلر أن ترفع تقريرها عن الوضع في مدة أقصاها شهر شباط 1937 (4)

الوضع الدولي والضغط التركي

من الملاحظ أن الوضع العالمي في تلك الفترة لم يكن يناسب فرنسة فخطر بدء حرب في أوروبة بدأ يظهر وكانت بريطانية وفرنسة بحاجة إلى تركية وصداقتها في المتوسط للوقوف في وجه تهديد موسوليني في منطقة شرق المتوسط. استغل الاتراك الوضع الدولي هذا وقاموا بحملة ضغط جديدة اعلامية دبلوماسية، فبدأت الاجتماعات بين رئيس الجمهورية التركية اتاتورك ورئيس الوزراء ووزير الخارجية ووزير الدفاع. وزار اتاتورك جنوب تركية ومقر القوات المسلحة فيها واجتمع السفير التركي بالسيد فينوا مؤكداً صلابة الموقف التركي.

نجحت الحملة التركية وبدأ الموقف الفرنسي بالتساهل وذلك في رسالة أرسلها رئيس الوزراء الفرنسي إلى السفير التركي في باريس يعلن ” ان فرنسة ترى وجوب الوصول إلى اتفاق حول الاسكندرون وان جمعية الامم لها الحق وحدها في تقرير مثل هذا الأمر”.

قدم سندلر تقريره الذي ينص على أن السنجق يؤلف منطقة مستقلة منفصلة تكون سورية مسؤولة عن السياسة الخارجية وأن يكون لها استقلالاً داخلياً كاملاً، وان لا يكون للسنجق جيش بل حرس محلي للأمن الداخلي. ونص البند الرابع على أن تكون اللغة التركية اللغة الرسمية. وافقت الجمعية الاممية على تقرير سندلر بحضور وفد سوري برئاسة رئيس الوزراء جميل مردم بك الذي صرح إلى الصحف التركية أثناء مروره في اسطنبول في طريقه الى باريس ” ليس بين الامتين السورية والتركية اي عداء كما زعم البعض، إلا ان هناك اموراً أوجبت سوء التفاهم رأينا ازالتها بواسطة المحادثات الدبلوماسية. إن الامة السورية وحكومتها تؤمنان بحسن نيات الامة التركية وحكومتها وتعلقان على هذه النيات الحسنة كل أمل في ان تسفر المحادثات القادمة عن نتيجة موافقة ومرضية ” (5). وسوف نعرض بالتفصيل لمواقف مردم بك وجماعته من شركة ” الكتلة الوطنية” بعد قليل .

الصداقة الفرنسية التركية

وضعت مقترحات سندلر بعد موافقة الجمعية الاممية عليها موضع التنفيذ في 29 تشرين الثاني 1937 وفي اليوم نفسه وقعت فرنسة وتركية اتفاقاً لحماية النظام الجديد في اللواء من الهجمات الخارجية ونصت الاتفاقية الفرنسية التركية الموقعة في أواخر أيار 1937 في مركز جمعية الامم على خمسة بنود. وجاء في البند الثالث ” بيان فرنسي تركي يؤكد اتفاق وجهات النظر بين الحكومتين لتأييد نظام الحدود في معاهدة لوزان وتدعيم السلام بالتعاون في قلب جامعة الامم وتقوية السلامة في البحر المتوسط الشرقي” (6)

وهكذا نالت فرنسة مطالبها ” بتقوية السلامة في البحر المتوسط الشرقي” في وجه مد وسيطرة موسوليني لقاء تنازلاتها لتركية.

إزاء قرارات جنيف احتج النواب في برلمان دمشق لأن ” الامة السورية علقت على الضمير الدولي أسمى آمالها، فهي لا تعترف باي حل يخرق وحدتها ويعرقل نهضتها” (7)

وانطلقت المظاهرات احتجاجاً على قرارات جنيف في دمشق والمدن الشامية الاخرى بينما انطلقت المظاهرات في اسطنبول من قبل الأتراك وأعضاء جمعية هاتاي ابتهاجاً بفوز تركية. في ذلك الوقت أيد الامير عبد الله الاتراك وقام بعد ذلك بزيارة لتركية كذلك كان موقف الفئة الحاكمة في العراق التي ايدت موقف تركيا بناء للتعليمات البريطانية وقام نوري السعيد بزيارات إلى أنقرة.

ورغبة من الزعماء التقليديين في إيقاف المظاهرات أصدر عبد الرحمن الشهبندر بياناً أعلن فيه ” ليل أمس رؤي أن المصلحة الوطنية في الظرف الحاضر تقضي بتأجيل المظاهرات” (8) وادلى وزير الخارجية التركية بتصريح أعرب فيه عن ” محبته للسوريين” فقال: سنطبق اتفاقية جنيف بوفاء واخلاص فقد تبنينا أحسن أسلوب بعهدنا إلى جامعة الأمم بتسوية المسألة لخدمة السلام وتصفية الخلاف السوري نهائيا. وفي هذه القضية تعاونت فرنسة السلطة المنتدبة وتركية الصديقة والجارة لتسهل السبل الى نمو الامة السورية الفتية وتعجيل قبولها في جامعة الامم ولخدمة اراضيها وصيانتها. اما الحوادث التي حصلت في اللواء بين العرب والاتراك نعتبرها سوء تفاهم يجب ان يتبدد ويزول والا يسيء الى مصالح الطرفين اننا نحب السوريين ونتمنى لهم السعادة والرفاهية من صميم أفئدتنا وستساهم تركية في تكبير مرفأ الاسكندرون الذي يرجى له مستقبل باهر، وهي مستعدة لشراء جميع منتجات هذه الارض فلتثق سورية بنا تربح” (9)

بموجب اتفاقية جنيف عينت لجنة للإشراف على الانتخابات في اللواء، فمارست تركية الضغط على اللجنة وأخرجت عدداً من المسؤولين السوريين وعينت مكانهم مسؤولين أتراك. واعتقل عدد من الزعماء السوريين وأخرج عدداً من المساجين الأتراك ويقول تقرير نبيه العظمة المرفوع إلى الحكومة الشامية والمؤرخ في 19 شباط 1938 ” وهكذا بدأت القوة التركية بالازدياد يوماً بعد يوم بسبب الخطط التركية الهادفة المستمرة، وضغط وتهديد الجيش التركي المستمر وكانت الاشاعات مستمرة تصل إلى سكان اللواء عن إمكانية دخول الجيش التركي الذي حشد قواه على حدود تركية الجنوبية في أية لحظة” (10)

في ذلك الجو بدأت المفاوضات بين عادل أرسلان المندوب الشامي في أنقرة والحكومة التركية للوصول إلى اتفاق بتقسيم اللواء بين الشام وتركيا.

تمت الانتخابات في 15 تموز 1938، ففاز الأتراك بـ 22 مقعداً والسوريون بـ 18 مقعداً. والانتخابات هذه طريفة جداً. فقد قسم سكان اللواء حسب الأجناس والمذاهب فكان الأتراك من جهة والعلويين والعرب، والأرمن والروم الارثوذكس والأكراد والأقليات الأخرى في جهات مختلفة. وهكذا تمزق شعبنا أمام سياسة التجزئة التي اعتمدت في الانتخابات وكانت النتيجة أن فاز الاتراك بالانتخابات كأكثرية بين هذه الاقليات المبعثرة وشجع على ذلك اعتماد الكتلة الوطنية في دمشق على تنفير العناصر “غير العربية”، وهكذا أصبح للأتراك الاكثرية الرسمية في اللواء وانتخب عبد الغني تركمان رئيساً للبرلمان وأعلن في أول خطاب له (إن اللواء قد حُرر من الطغيان)وانتخب رئيساً للولاية صديق أتاتورك الحميم تيفور بك سوكما وفي أول اجتماع للبرلمان تغير اسم اللواء الى اسم “هاتاي” التركي وما لبث ان عرف بجمهورية هاتاي وبدأ المسؤولون الأتراك بزيارة اللواء وتنظيم الادارة فيه وتغيرت العاصمة من الاسكندرون الى انطاكية، وبدأت الجمهورية تنفيذ القوانين المدنية التركية. وانضمت “هاتاي” الى تركيا بقرار من البرلمان الذي اجتمع في 29 ايار 1939 وأصبح لواء الاسكندرون الولاية الـ 63 من الجمهورية التركية.(11)

هكذا سلمت فرنسة اللواء الى تركيا باتفاقية صداقة مخالفة لقرار الانتداب الذي نص على تحضير الشام ولبنان للاستقلال. بقيت جمعية الأمم صامتة لهذه الجريمة التي ساعد فيها بشكل رئيسي بالإضافة إلى الظروف الدولية، تفكك العصبية القومية في شعبنا، وتآمر “الكتلة الوطنية” على الشعب ومصيره بالموافقة ضمنا على تصرفات فرنسة وتركية. وهذا ما سنظهره في القسم الثاني من هذا البحث بعد عرض موقف الطبقة الرجعية الممثلة “بالكتلة الوطنية “وموقف سورية الجديدة الممثلة بطلائعها الثورية : الحزب السوري القومي الاجتماعي.

عرضنا في القسم الأول مسألة الاسكندرون عرضاً تاريخياً سريعاً مشيرين إلى المراحل الرئيسة التي مرت بها المسألة الاسكندرونية. يقول سعادة ” ليس فقد لواء الاسكندرون عائداً إلى السياسة الانترنسيونية فحسب، بل الى السياسة الحزبية والعنصرية التي سارت عليها ” الكتلة الوطنية” مضافة الى عوامل السياسة الانترنسيونية” (12)

تتلخص مسائل السياسة الانترنسيونية في أن مصالح فرنسة التقت مع المصالح التركية، في فترة كانت فرنسة بحاجة إلى ” قواعد آمنة” ومناطق صديقة في شرق المتوسط، فاقتطعت من منطقة الشام التي انتدبتها لواء الاسكندرون كهدية الى تركية لربح صداقتها وهذا يبدو بوضوح في مصادقة مجلس الوزراء الفرنسي على ضم الاسكندرون نهائيا الى تركية مقابل فتحها (أي تركية) المضائق للأساطيل البريطانية والفرنسية لتمر فيها الى البحر الاسود كما أُعطي لها حق تحصين الخليج ليكون قاعدة بحرية تلتجئ إليها الاساطيل التركية والفرنسية والبريطانية في حال وقوع حرب.

كذلك يبدو التواطؤ الفرنسي التركي واضحاً في بنود المعاهدة التركية الفرنسية في 23 حزيران 1939 التي تضمنت فيما تضمنت:

تسليم جمهورية هاتاي ما عدا انطاكية لسيادة تركية.

ضمان مصالح الفرنسيين في هاتاي.(13)

ولم تستطع فرنسة الوصول إلى غايتها هذه بسهولة بل شجعت النعرات الطائفية والعشائرية والعرقية التي ساعدت في تمزيق شعبنا. كانت التجزئة الكيانية والعرقية والمذهبية واللغوية الطعنة الثانية التي سددتها فرنسة بعد اتفاقية سايكس بيكو، فأصبحت بذلك أمتنا غير قادرة “على الوقوف كتلة واحدة لتمارس خصائصها وعصبيتها لأنها تخضع لأنظمة الحياة القديمة بكامل خطوطها وأشكالها، فهي تنقسم إلى عشائر وإلى أقاليم وإلى اقطاعات ومشيخات، فضلاً عن انقسامها إلى طوائف متعددة داخل المذهب الواحد، وإلى مذاهب متعددة داخل الدين الواحد” (14)

بدأت فرنسة بتنفيذ سياسة التجزئة إثر دخولها الشام ولبنان، فقد استعملت القوات الفرنسية الفرقة الشركسية المشهورة ببلائها لضرب ثورة 1925 الكبرى، كذلك شجعت السلطات الفرنسية المنتدبة الاشوريين والاكراد في لواء الجزيرة للانتفاض على مركزية دمشق. ودغدغت عواطف المسيحيين (الموارنة بشكل خاص) لإنشاء وطن قومي لهم في لبنان. وشجعت العلويين والدروز للانتفاض على مركزية دمشق.

ومضت فرنسة في سياستها هذه فشجعت قيام شركات سياسية بصفة “أحزاب” للوقوف في وجه المد الشعبي العارم الذي أحدثه ظهور الحزب السوري القومي الاجتماعي في سنة 1935 فنشأت في لبنان مثلاً الشركات التالية: “الغساسنة” و”الطلائع” و”الكتائب” وغيرها.

 هذا باختصار دور فرنسة في المسألة، تآمر مع الأتراك وتمزيق لشعبنا بإنشاء وتشجيع المحاور العرقية المذهبية الطائفية، وتعاون وثيق مع الطبقة الرجعية الخائنة الممثلة “بالكتلة الوطنية” في دمشق والمحاور الطائفية الأخرى في لبنان.

(يتبع قسم ثاني)

————————————————————-

تنويه: ننشر هذا البحث بالاتفاق مع مؤسسة سعادة للثقافة.

المراجع

  1. Mosul Dispute American Journal of International law – volume 20 (1926) page 453 – 464.
  2. The Alexandretta Dispute American journal of international law page 407.
  3. Toymbee Survey of international Affairs 1925 oxford – 1929 page 332-333.
  4. League of National Official Journal January 1937 page 31
  5. النظام الجديد ، الحلقة السابعةعشرة، نيسان 1951، دمشق الصفحة 92.
  6. جريدة “صوت الاحرار” بيروت في 29 أيار 1937.
  7. المرجع السابق عدد اول حزيران 1937
  8. “صوت الاحرار” عدد 10 نيسان 1937
  9. المرجع السابق حزيران 1937.
  10. The Alexandretta Dispute page 421
  11. جريدة يني غون 3 أيلول 1938 انطاكية 423 the Alexandrtta Dispute page
  12. مقال ” الجزيرة بعد الاسكندرون” جريدة “النهضة” بيروت السنة الاولى العدد السادس اكتوبر 1937 .
  13. جريدة ” سورية الجديدة” العددين 19 و 20 العدد الرابع سان باولو – البرازيل سنة 1939
  14. هنري حاماتي ” جماهير وكوارث ” صفحة 50 .

بدر الحاج

باحث ومحقق في شؤون التاريخ السوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق