عندما يُكتب تاريخ دمشق لا بدَّ من التركيز وعدم إغفال أنَّ الدمشقيين لم يستكينوا يوماً للاحتلال العثماني، بل كانوا نداً له، ولا يفوتون الفرصة للتمرد والثورة عليه، ففي عام 1731 انتفض الدمشقيون بقيادة مفتيهم الشيخ “خليل البكري” على الوالي العثماني “عثمان باشا أبو طوق”، ورغم أن هذه الثورة منسية في صفحات التاريخ إلّا أنها أدت إلى عزل الوالي واستبداله بــــــ ” اسماعيل باشا العظم”، الذي يعتبر أول والي في تاريخ دمشق من هذه الاسرة العريقة.
ضريبة “الصليان”
في عام 1831 ثاروا من جديد على الوالي “عبد الرؤوف باشا” بعد محاولته فرض ضريبة عقارية على المسلمين حصراً عُرفت حينها بضريبة “الصليان”، وهي تنص على أن كل رجل مسلم حصراً عليه أن يدفع ضريبة “مصريتين على كل مفتاح”، أي على كل عقار يملكه سواء كان دكاناً صغيراً أو قصراً فاخراً.
هذه الضريبة أغضبت شرائح كبيرة في المجتمع التي كانت ترفض الإفصاح عن أملاكها لأنَّ دمشق حينها كانت تدفع ضريبة واحدة سنوية على البضائع المستوردة من الخارج، فبدأ التمرد بالتجمع في منطقة باب الجابية وقطعوا أوصال المدينة بالحواجز والمتاريس. الوالي العثماني تعامل بقسوة وتواجهت قواته مع المتظاهرين وقتلت 20 دمشقياً، واعتقلت البقية.
وكالعادة عزل الباب العالي الوالي وعين بدلاً منه “سليم باشا” الذي يلقب في اسطنبول بخبير الثورات، وسبق له أن شغل منصب الصدر الأعظم ما بين عامي 1824 – 1828 فقمع ثورة مسلحة في اليونان، وتصدى لتمرد 135 ألف عسكري من الجيش الانكشاري .
في البداية استعمل “سليم باشا ” الترغيب مع الدمشقيين فعيّن أحد أبناءهم “محمد الشربجي الداراني” المعروف بالجوربجي آغا، وكيلاً عن الوالي، ولكن بعد مضي عشرين يوماً كان الجوربجي يهرب ملتحقاً إلى منطقة الميدان ويلتحق بالآغا “ابو عربي الشوملي” ومن هناك انتقل الى عكا ليقود الثورة ضد الوالي الذي كان قد أصدر حكماً بإعدامه.
ترهيب
دمشق التي دخلها الوالي الجديد بخمسة الاف عسكري واتجه نحو القلعة وقصف دمشق بالمدافع، ثم اجتمع مع وجهاء المدينة في 19 أيلول /سبتمبر 1831 وطلب منهم التوجه لدار المفتي “حسين المرادي” والعمل معه على تحصيل الضريبة وإلا فالعقاب بانتظارهم.
ولكن كان القرار برفض الدفع، فيما كان طلب من كاتبه “علي خزنة كاتبي” البدء باحصاء المسلمين لكي يجبي الضريبة، فتحاييل عليه الناس إذ كلما أوقف شخص يسأله عن اسمه يقول له ” أنا بولص” أو “أنا جرجس”، ثم هاجمه أهل حي العمارة فهرب للصالحية حيث كان رجال الحي بانتظاره أيضاً، فعاد للوالي خائباً، ما أدى إلى إرسال قوة عسكرية لمعاقبة أهل العمارة ولكنهم ووجهوا بالنيران التي فُتحت عليهم وبات التمرد واضحاً .
قتل الباشا
هرب عسكر الوالي إلى الجامع المغلق بالقرب من سوق المناخلية، وإلى خان الدالاتية، وحوصر عساكر آخرون في حي الميدان، فجن جنون الوالي ودفع برجاله للاعتداء على الناس وعلى النساء وباتت المعركة والمواجهات تعم معظم أحياء دمشق، فلم يكن من الوالي إلّا باستعمال الخدعة معلناً عن وقف جباية ضريبة الصليان واعطاء الأمان لمن يلقي السلاح، ولكن تحت جنح الظلام تسلل العسكر العثماني إلى القنوات واعتقلوا الكثيرين وشيوخ الجوامع والأعيان، فهاجم الدمشقيون السرايا فهرب الوالي، واستباح الناس الغاضبين السرايا الحكومية، ورد “سليم باشا” بقصف دمشق ليلاً، وسط فوضى اجتاحت احياء دمشق، واستطاع الثوار محاصرة الوالي الذي طلب الامان يوم 22 أيلول /سبتمبر، وقال إنه مستعد لترك القلعة مع 170 من أتباعه المقربين، فوافق الثوار على الطلب وسمحوا له بالمغادرة ليلاً إلى منزل الوالي السابق “محمد باشا العظم”حيث بقي ثلاثة أيام قبل أن ينتقل إلى منزل آل الكيلاني في سوق العصرونية، مع ضمان لحمايته، ولكن العثماني من شيمته الغدر لذا حاول تدبير هجوم مضاد فأرسل مراسلاً يطلب النجدة العسكرية من اسطنبول مع قائمة باسماء قادة العصيان، لكن أُلقي القبض على المراسل وقُتل، عندها قرر أهل دمشق قتل الوالي وحاصروه في المنزل المختبىء فيه وقاوم واستطاع قتل ستة دمشقيين فاضرم الثوار النار في المنزل والتهمت معها الوالي .
الحكومة الوطنية الشامية
بعد ذلك باتت القلعة تحت إمرة الآغا “علي عرمان” زعيم الشاغور، والآغا “ابو خليل الدقاق” زعيم الميدان، وعُيّن قائد جديد للشرطة هو “خالد وردة”، ومفتي جديد هو “حسن تقي الدين الحصني”، وأُطلق على الحكومة المصغرة “الحكومة الوطنية الشامية”.
ولكن الخوف من انتقام السلطان دفع بالمسيحيين لالتزام بيوتهم لثمانية أيام وسلحوا شبابهم لحماية أحيائهم، فيما هرب بطريرك الروم الأرثوذوكس إلى دير البلمند، واختفى كبير حاخامات الطائفة اليهودية، خوفاً على حياتهما في ظل الفوضى، وتحولت دمشق إلى مدينة أشباح، وجُمعت جثث الضحايا المنتشرة في الحارات وبلغ عددها 121، وتولى المخاتير وشيوخ الجوامع والأعيان بحماية الأحياء من الفوضى والنهب، وبعد مرور ثلاثة أيام دون رد فعل من اسطنبول عادت الحياة لدمشق، وشعر الدمشقيون لأول مرة منذ قرون أنهم يحكمون أنفسهم، وأرسلوا معروضاً للسلطان يوضحون فيه ما جرى، وبقيت دمشق تُحكم من أبنائها لثلاثة شهور حتى جاء خبر تعيين والٍ جديد لدمشق هو “حسين باشا”الذي توفي وهو في طريق لدمشق، فعين “علوش باشا” بدلاً منه في منتصف كانون الثاني/يناير 1832، الذي أعلن فور وصوله العفو العام عن جميع المطلوبين.
نتائج
ثورة دمشق أثبتت أنَّ زعماء الشام قادرون على توحيد صفوفهم، وأنَّ ما كان يشاع عن جبروت العثمانيين قد تهاوى أمام إرادة الشعب، ولكن كانت ثورة بلا زعيم حقيقي يقودها ويمثل إرادة الدمشقيين أمام الوالي العثماني، لذلك جاءت أحداث 1860 لتلوث التآخي بين الناس لأنَّ الزعامات بقيت موزعة بين الأحياء والحارات، وتعد الثورة وتداعياتها وخشية الدمشقيين من بطش الدولة من العوامل الرئيسة التي ساهمت في تسهيل سيطرة الجيش المصري على بلاد الشام، حيث وجد الدمشقيون قدوم الجيش المصري منفذاً لهم من انتقام الدولة العثمانية.
وقد أبرزت ثورة دمشق ضعف الدولة العثمانية داخلياً إدارياً وعسكرياً، وعدم قدرة ولاتها على فرض أوامر الدولة على الأهالي، وفي الوقت نفسه عجز الدولة عن تقديم العون لهم وقت الحاجة.
أظهرت الثورة بروز عناصر قيادية محلية تقود الأهالي في مواجهة الدولة، وهذا يشير إلى أن الدولة لم تعد تشكل الحامي الأوحد للسكان، بل أصبحت العصبية المحلية تشكل غطاء حماية ودفاع عن مصالح السكان.