العالم الآن

الخيار: لبنان

الانتفاضة الاستراتيجية الفرنسية

يمكن التساؤل، بعد زيارتين «ثوريتين» للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان، إن كان ثمة استفاقة للاستراتيجية الفرنسية يمكن ملاحظتها من المنصّة اللبنانية؟ وعلى النحو الذي يمكّن من  اعتماد مصطلح: الخيار:  لبنان، كعنوان لهذه «الانتفاضة» المتزامنة مع رمزية الاحتفال بمئوية لبنان الكبير، وتدين بالشروع في حركتها الراهنة  للدوّي الهائل لانفجار مرفأ بيروت، الذي سُمِعَ من قصر الايليزيه في باريس.

خرجت فرنسا استراتيجياً من شرقي المتوسط، منذ خمسينات القرن الماضي، عندما بدأ الحضور الأمريكي يطغى إلى حد الامتلاء الكامل، مجاوراً لحضور سوفيتي، سيتقلص مع الوقت إلى أن يصبح روسيّاً في سورية وحدها. وفي الوقت الذي حاول فيه الجنرال ديغول، انتزاع تموضع استراتيجي فرنسي مستقل عن الولايات المتحدة وحلف الناتو عبر ما يُعرف بـ «السياسة العربية» للديغولية، غير أن هذه النزعة التي حافظت على مكانة تقليدية في السياسة الفرنسية قضت نهائياً ـ للمفارقة ـ على يد آخر الديغوليين في الرئاسة: جاك شيراك، الذي سلّم واشنطن الأوراق الفرنسية الاستقلالية باتفاقه الشهير مع جورج بوش في العام 2004.

خلال العقد الماضي، شكّلت ليبيا، أحد أبرز المحطات لسياسةٍ فرنسية، رغم تقدمها الصفوف الدولية التي أسقطت الجمهورية العظمى ورئيسها، إلاّ أنها لم تتمكن من انتزاع مكان راسخ لها على هذه «المنصّة» التي فَلسَفَها برنار هنري ليفي «إسلاموياً» لساركوزي، ولكنها آلت في النهاية إلى أنقرة وأردوغان.!

وفي وقت يبدو الحوض الشرقي للمتوسط كمجال مزدحم بالقوى والإرادات الدولية، مع تنافس محموم على مصادر الطاقة الخبيئة فيه، وعلى طرق امداداتها التي جميعها تتقاطع فيه، من أية جهة أتت، وبملاحظة تموضع راسخ لـ «روسيا» على الشاطئ السوري، وعودة متباهية لـ «الأسطول العثماني» تحت العلم التركي لاختراق خطوط معاهدة لوزان 1923… تبدو الإستراتيجية الفرنسية بحاجة ملّحة لـ «منطقة» غير تشاركية، يمكن أن تعتمدها لإركاز سياستها المتوسطية وتجهيز قدرتها بميزة خاصة تمكّنها من خوض سباق قائم، قد تتغير شروطه في أي وقت، بالقدرة على «وضع اليد». وهو المبدأ الذي يعتمده أردوغان في شمال سورية وليبيا وفي شرقي المتوسط منقّباً عن النفط في عرض البحر.!

وفق هذا المنسوب العالي، الذي اكتمل مشهده بالاتفاق الإسرائيلي ـ الإماراتي المؤول استراتيجياً لصالح الولايات المتحدة، هذا المنسوب الذي يشير إليه بوضوح المرتسم التنازعي للقوى المحتشدة في حوض المتوسط، بدا الخيار: لبنان، كـ «حلِّ» مثالي لإعادة تموضع فرنسي متقدم في هذا المرتسم.

ما هو الاختراق الذي مكّن فرنسا من اعتماد الخيار: لبنان؟.

تمثل هذا الاختراق ـ برأينا – في جانبين رئيسين:

1 ـ في «البيئة السياسية اللبنانية التقليدية» التشاركية بين فرنسا والولايات المتحدة، حيث تمكّن ماكرون من انتزاع تفويض من الولايات المتحدة بـ «تحييد هذه البيئة» عبر أسر قرارها تحت ضغط التهديد بالعقوبات، مع تقديم مصطفى أديب، من خارجها، كأكثر سياسي لبناني «مجهول» وبلا ملامح، وقابل نظرياً لاكتساب ملامح ناتجة من الرؤية الفرنسية.

2 ـ في البيئة غير التشاركية، بل والمناقضة أيضاً لفرنسا والولايات المتحدة، وفيها تمثلّ الاختراق الأهم، حيث تمكّن ماكرون من استقدام حزب الله، إلى قصر الصنوبر كـ «مكون لبناني» مُنتخب، قابل لـ، «المجاورة» ـ وهي مفردة تكثّف الفلسفة السياسية لماكرون ـ مع بيئة سياسية قيد التشكيل، وفق برنامج إصلاحي متدرج زمنياً حتى الانتخابات النيابية المبكّرة.

يفترض الانتباه هنا إلى التغييب المنهجي المقصود للمفردات المرافقة لاسم حزب الله، من مثل: سلاح الحزب، اسرائيل، إيران!!.

يمثل هذا الاختراق المزدوج، الطريقة الفرنسية، غير التقليدية، في عملية إعادة ترتيب «المنصة اللبنانية» التي يفترض أن تشكل الموقع الأهم لاستراتيجية فرنسية تبحث لنفسها عن قاعدة ارتكاز فقدتها في حوض المتوسط منذ أربعينيات القرن العشرين.

لا تَخفى علاقة الرئيس الفرنسي بالفلسفة والثقافة وأعلامها. علاقته مع المفكر الذائع الصيت جيل كيبل معروفة. هذا الفيلسوف المتخصص بتفكيك أعقد المشكلات المرتبطة بـ «الاسلام: الارهاب ومنظماته وفلسفته وأسبابه…» قال ذات مرة لـ ماكرون: إن فلاديمير بوتين تمكن من ضرب ضربته في سورية لأنه يستمع جيداً إلى المستشرقين الروس الذي يعلمون ما لا يعلم هو وغيره.؟

الخيار لبنان: هو العودة الفرنسية إلى نهاية الحرب العالمية الأولى. وبمعنى آخر: إلغاء للمائة سنة التي احتفل لبنان الكبير بمرورها!

إذاً، لنرى كيف سيكون لبنان، وكيف ستكون فرنسا، وإن كان ستتفكك العثمانية المتجددة، وكيف سيتم حسم الصراع في حوض المتوسط؟

‫2 تعليقات

  1. مختصر مفيد يعيد لأمعاء الذاكرة “الليونة” بعد أن “كتمتها” الكوارث المتلاحقة منذ عشرات السنين، والتي من شدتها بتنا لا نميز بين الحق والباطل والحرية والعبودية والجهل والمعرفة والعدو والصديق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق