إنَّ الانتخابات، ستكون بين دونالد ترامب والديمقراطية!
هذا ما قاله بيرني ساندرز، في وقت سابق للثالث من تشرين ثاني، واضعاً مصير الديمقراطية الأميركية قيد (النهاية) إن فاز ترامب!
من المؤكّد أنَّ السيناتور ساندرز، المرشّح لمرتين متتاليتين، والمنسحب لمرتين متتاليتين، في العام 2016 لصالح هيلاري كلينتون وفي العام 2020 لصالح جو بايدن… ساندرز الذي يُوصف بـ (الأحمر) ليساريته الاجتماعية التي لامست (الاشتراكية) في بعض عناوينها… من المؤكّد أن لا شيء يجمعه مع ترامب، بل هو مثال متكامل عن التناقض معه… لكن ومع ذلك ثمّة ما يبدو مشتركاً أو، على الأقل، متشابهاً بين الاثنين!
دونالد ترامب، ليس جمهوريّاً بالمعنى التقليدي. هو (مستقل) تحت يافطة الحزب الجمهوري.
بيرني ساندرز ليس ديمقراطيّاً بالمعنى التقليدي. هو (مستقل) تحت يافطة الحزب الديمقراطي.
يجتمع الاثنان في كونهما يتواجهان، كل بمفرده، مع (الدولة العميقة). التي وإن تُرى بوضوح في فضاء الحزب الديمقراطي إلاَّ أن نفوذها موجود ولها جذور راسخة في أرض الحزب الجمهوري.
(الدولة العميقة)، التي منها (مجتمع النخبة) في الحزب الديمقراطي، هي من أسقطت ساندرز أمام كلينتون وبايدن على التوالي، لأنَّ (عناوينه الاجتماعية) مفرطة في مضمونها، وتكاد تكون اسكندنافية لا تناسب المجتمع الأميركي. خطابه الشهير في 10 أيلول 2010، الذي استغرق ثماني ساعات ونصف وقدم فيه حيثياته في معارضة قانون تخفيض الضرائب وتأمين بطالة العمل إلى مختلف مفردات الرعاية الاجتماعية. هذا الخطاب هو من جعله مرشحاً رئاسيّاً، ولكنه وَضَعَه مسبقاً، في مواجهة النخبة الديمقراطية، ومعها الدولة العميقة.
بالمقابل، تمكّن ترامب من الفوز في الانتخابات الرئاسية عام 2016، مفاجئاً الدولة العميقة وأركانها ومعبّراً نجاحه في الوقت نفسه، عن تنامي تيارٍ تمردي عليها، سيبقى مخلصاً لدونالد ترامب حتى في أكثر الأوقات التي اتخذ فيها قرارات خاطئة أو لا شعبية، ومنها خصوصاً قراراته المتعلقة بمواجهة وباء كورونا. وستؤدي مواجهته للدولة العميقة طوال مدة رئاسته، إلى تغيير الصورة النمطية عن الديمقراطية الأميركية التي يبدو تحريرها من برنامج (الدولة العميقة) في غاية الصعوبة، رغم الجرأة غير المسبوقة لرئيس أميركي في إعلان حربه عليها.
وإذا كان من الممكن تنسيب ترامب إلى (السلالة السياسية) للحزب الجمهوري، باعتباره يمثل (الرجل الأبيض) المتحدّر من أصول أوروبية، ويؤمن بتقاليد أميركية خاصة وبقيم شاملة، يمكن في الوقت نفسه ملاحظة كيف أن ترامب عمل على رفع منسوب (المكوّن الهويّاتي – من الهويِّة) في دماء هذه السلالة (نظرته إلى الأميركيين من غير الأصول الأوروبية)، محاولاً إيقاظها وتجهيزها لتبدو كـ (هويِّة عميقة) في مواجهة (دولة عميقة).
وفق ترتيب جبهة المواجهة بهذا التقابل، يمكن تفسير وجود (خونة) من الحزب الجمهوري في الجهة المقابلة مثل ميت رومني وجورج بوش، وسابقاً جون ماكين، الذين تظلّ (الدولة العميقة) قادرة على استقطابهم، بكونها متمرّسة في التنقيب المتواصل عن منابع السلطة وهياكلها لتأمين السيطرة المتواصلة عليها في تجاوز لمحددات الهويَّة.
استسلم بيرني ساندرز لهيمنة (الدولة العميقة) دون أن يسمّيها، فيما يتمرد ترامب عليها ولا يتورع عن اتهامها بالاسم عندما يقتضي الأمر ذلك. هكذا فعل عندما قال (الدولة العميقة ستؤخر إعلان التوصل إلى لقاح لفيروس كورونا إلى ما بعد 3 تشرين ثاني – تاريخ الانتخابات -…)، وهذا ما حدث تماماً!!
إذا وضعنا جانباً الأحاديث المنسوبة لسياسيين أو مفكّرين عبر التاريخ، يشيرون فيها إلى (جهة ما) تتحكم بمصير الدول والمجتمعات. (جهة) لا أحد يتمكن من تسميتها وتحديدها تماماً…؟ إن تركنا هذا الأمر جانباً بكونه يحيل إلى نظرية المؤامرة، نرى أنَّ علم السياسة الحديث يقرُّ بأنَّ مصطلح ومفهوم (الدولة العميقة) المتداول راهناً، هو من عنديات التجربة التركية والعائدة إلى مصطفى كمال آتاتورك، والتي تشكّلت للدفاع عن إصلاحاته فيما إذا تعرّضت للتهديد بإلغائها، وقد شهدنا بالفعل، وخلال تاريخ تركيا الحديث تدخل الجيش مع مؤسسات وجهات أخرى لإحباط محاولات إلغاء إصلاحات آتاتورك ولأكثر من مرة، إلى أن تمكّن رجب طيب أردوغان من الوصول إليها وتدمير هياكلها الكبرى واستبدال جذورها وبذورها بأخرى نقيضة.
لكن، كيف تمكّن أردوغان من فعل ما لم يتمكن غيره من فعله؟
برأينا، تمكّن أردوغان من تدمير (الدولة العميقة) التي تحمي إصلاحات آتاتورك، بتوسّله (الهويّة العميقة) الواصلة تاريخياً إلى الحقبة السلجوقية، والمعبّرة عن نفسها في الحقبة العثمانية، والمؤطرة حديثاً في تنظيم حزب العدالة والتنمية.
إن كان المثال التركي يشير إلى تمكّن (الهويِّة العميقة) من القضاء على (الدولة العميقة) المناقضة لها، فهل ستشهد الولايات المتحدة فصولاً مستقبلية خاصة من هذه المواجهة التي لا تزال ترجّح كفة (الدولة العميقة)، فيما يحتاج ترامب، دون أدنى شكّ، إلى (حزمة عقائدية) إضافية تمكّنه من استكمال وتجهيز (الهويِّة العميقة) الأميركية، والتي يبدو أنه نجح راهناً في إيقاظها ووضعها في حالة تمرد على (الدولة العميقة) الأميركية بقوتها المفرطة والاستثنائية.
اختطف باراك أوباما، في خطاب النصر في تشرين ثاني عام 2008، ابراهام لينكولن من تاريخ الحزب الجمهوري، تحت عنواني محاربة العبودية ولملمة جروح الأمة… المفارقة أنَّ هذين العنوانين من بنية الهويَّة الأميركية المرتسمة في النظام الفيدرالي، وهما راهناً خارج متناول دونالد ترامب…
إذاً، إلى أين سيصل في حفرياته ليصل إلى جوهر الهويِّة العميقة؟
لا بدَّ سيحفر عميقاً للوصول إلى فلسفة وعقيدة الموجات الاستيطانية الأولى، الموازية نظرياً للاستيطان السلجوقي / العثماني في آسيا الصغرى: تركيا.
هل يتشابه التاريخ إلى هذه الدرجة فعلاً؟
لا بدَّ من تتمة ما… قادمة؟
عزيزي نزار:
فرضية صائبة ومقاربة مليئة بالحيوية، لا سيما ذلك التوازي والتشابه بين الرئيس الأميركي ترامب من جهة وبين ساندرز والرئيس التركي أردوغان من جهة ثانية. الدولة العميقة في مواجهة الرئيسين الأميركي والتركي، الثاني انتصر عليها في نزالها الذي أخذ شكل انقلاب على الديمقراطية والأول ما زال يعالج انقلابها الديمقراطي -المزور في رأيه- على حكمه، وأما ساندرز فلم يعد عن كونه نسمة صيف باردة مرت على وجه السياسة الأمريكية الملطخ بالمساحيق.
التشابه بين الأميركي ترامب والتركي أردوغان مغر من جانب ما يتميز به كلاهما من شعبوية تعتمد على الغرائز السياسية الجمعية وتعمد الى اثارتها كلما اقتضى الأمر. ومع أن النرجسية هي أيضا سمة يشتركان فيها، إلا أن نرجسية الأميركي تشكل خطراً على كامل الكوكب وسكانه. ومع وجود ضرورة لدى الطرفين لحضور فكري وتنظيري ما، يصاحب عادة ويبرر ويرَّشد أيضا ذلك الجيشان المليء بالعواطف السياسية، خصوصا لدى الرئيس ترامب، وما ينفرد به من رؤية مبتسرة ومحكومة بمنطق الربح والخسارة محسوبا بالبنكنوت أساساً. لقد بتنا نعرف الكثير مما تمت المجاهرة به عن صفات ترامب وما يتميز به من صلافة الجهل واعتداد العقل التبسيطي اعتداداً مطلقاً بذاته. وهو رغم افتقاره الشديد إلى عقل يرشد من صورته التي تسبب دائما حرجا بالغا، لا يبدو أنه يعيه أو يأبه به، إلا أنه لم يستطع احتمال شخص له مثل تلك القدرة ولو كان مشابها له في يمينيته العدوانية، مثل بولتون الذي لم يستطع من جهته، احتمال جهله وتواضع مدركاته كشخص يشغل رتبة رئيس الدولة الأعظم على وجه الأرض. وقد سمعناه يحذر من أن ترامب بات يشكل خطرا على الأمن القومي الأمريكي، ويطالب القيادات الجمهورية بالتصريح العلني بحقيقة فوز الديمقراطي بايدن بالانتخابات الرئاسية. وفي الوقت ذاته، راح ترامب يحرض أنصاره على الخروج لحماية الانتخابات من السرقة حسب تعبيره، فاحتشدوا في شوارع العاصمة في تظاهرة وصفها ب “المليونية”. ولن يطول انتظارنا حتى نرى كيف تتطور الأمور في بلاد بات انشقاقها عميقاً وحاداً، بصورة غير مسبوقة.
وفي هذا اختلاف آخر عن الحالة التركية.
أشكرك وأتطلع بشوق الى إضاءتك القادمة للمسألة
يتجه ترامب لتكريس نفسه زعيماً شعبوياً، من خارج المنظومة السياسية الثنائية الأميركية التقليدية وهذا ما سيؤدي إلى تغييرات لا يستهان بها في الصراع الدائر في المجتمع الأميركي.
تشومسكي يحذّر من (الرجل الأبيض) وثقافته ويلمح عنصرية قادمة؟
سننتظر بعض الوقت لنراقب اللحظة التي سيكون فيها ترامب خارج البيت الأبيض؟
هل سيمارس دور الزعيم؟ وكيف؟
وأسئلة أخرى كثيرة.
إضافتك أسعدتني كما شعرك دائماً