يُروى أن الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، في العام 1981، خاطب المرأة التونسيّة طالباً منها عدم ارتداء الحجاب قائلاً: انظري إلى الدنيا من غير حجاب.
تندرج الحادثة، في إطار السجلّ الاستثنائي والإشكالي في آن، الذي حفره الحبيب بورقيبة في تاريخ تونس وتاريخ الدولة الحديثة في العالم العربي عموماً. سجلٌ تأسس من لحظة صدور قانون / مجلّة الأحوال الشخصيّة في العام 1956، وتواصل بإجراءات وقوانين (ثوريّة) لم تتوقف إلاَّ مع عزل بورقيبة واحتجازه في منزله في العام 1987. والمفارقة الملفتة هنا تبدو في أن الأنظمة ذات الأيديولوجية (التقدميّة) التي كانت تستلهم أفكارها وبرامجها من (الماركسيّة: اللينينيّة والماويّة) إلى مختلف التجليّات اليسارية والاشتراكيّة في العالم، هذه الأنظمة (الناصريّة والبعثيّة) كانت تتجه في إجراءاتها وقوانينها نحو مناطق قريبة، وأحياناً مشتركة من / مع مرجعيّات الإسلام السياسي، فيما كان بورقيبة يعاكسها في الاتجاه، ويُرجم سياسياً من – الجماهير الثورية – كـ (رجعي) مناهض لليسار والاشتراكية والتقدميّة!
دون أدنى شكّ، كانت الناصريّة حينها (من 1954 وحتى 1970) في ذروة حضورها، ومن غير الممكن أن تتقبل حضوراً مغايراً لها ومتمايزاً عنها وندّاً لزعيمها، وخصوصاً من رئيس سينصح قادة الشعب الفلسطيني بالقبول بقرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947.
يندرج استذكار بورقيبة، هنا وعلى هذا النحو، لاعتبارنا أن ما يجري في تونس الآن، والذي بدأ بـ (انتفاضة رئاسيّة) دستوريّة، هو في معناه الأخير فصل متجدد من المواجهة التي شطرت جيل الاستقلال إلى جبهتين متقابلتين ومتواجهتين، الأولى بزعامة الحبيب بورقيبة والثانية بزعامة صالح بن يوسف، وذلك إثر توقيع معاهدة (استقلال تونس الداخلي) مع فرنسا في الثالث من حزيران من العام 1955. حيث سيكون التاريخ الذي بدأ فيه الصراع بين الشطرين، والذي سيأخذ أشكالاً متعددة، كما ستتعدد الجهات المشتركة فيه في مواجهة بورقيبة، من الحزب الشيوعي إلى (الإسلاميين) بمختلف تنويعاتهم ومرجعياتهم، وخصوصاً بعيد اغتيال بن يوسف في العام 1961.
من المؤكد أنَّ الانتفاضة الرئاسيّة التي قام بها الرئيس قيس سعيّد، تستهدف حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي، والتي تعتبر مسؤولة وعلى نحو مباشر عن الوضع الذي وصلت إليه تونس خلال ما يزيد عن عقد كامل بدأ مع اشتعال محمد البوعزيزي، بنار الفقر والقهر والاستبداد وانغلاق الأفق في أواخر العام 2010، واستمر خلال هذه السنوات يستولد الأزمات المتلاحقة المعيشيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والصحيّة – وباء كورونا – والثقافيّة في إطار حلقة مغلقة لا يمكن الخروج منها إلاّ بكسرها.
سيناريو (الربيع التونسي)، الذي بدأ باحتجاجات شعبيّة تنتمي في أغلبها إلى مرجعيّات مدنيّة ويساريّة، حول الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة المترديّة الناتجة من سياسات زين العابدين بن علي، تحوّل مسار الأحداث فيه على نحو متسارع باقتحام حركة النهضة لمشهده وتوضّعها في مركزه بأسلحتها الدينيّة والماليّة والاعلاميّة التي كان من الواضح أنّها تُستجلب من المستودعات الاستراتيجية لدول منها تركيا وقطر، مسؤولة عن البرنامج الراهن لحركة الإخوان المسلمين المُعتمدة في (وثيقة أوباما) كبديل ملائم للأنظمة والدول المستهدفة، ومن المؤكد أن (السجل البورقيبي) تمكّن من الاحتفاظ بنفسه كمرجعيّة أمّنت للقوى المواجهة لحركة النهضة حضوراً منع اجتياح تونس وإسقاطها وإعادة إنتاجها بعيداً عن شخصيتها ومحتوى (الدولة) فيها.
خلال العقد الماضي، تحولّت تونس إلى بيئة مصدّرة لـ (الإرهابيين)، حيث شكّل (التوانسة) أحد الأعمدة الرئيسة في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الأمر الذي غيّر وجه تونس الأخضر والحسن، لينقلب صحراويّاً وبشعاً، ومُغطى بـ (حجاب) حركة النهضة ونِقابها.
الانتفاضة الرئاسيّة التونسيّة، ستواجَه دون أدنى شكّ، محليّاً واقليميّاً ودوليّاً، وسيتم اعتبارها مهددة للديمقراطيّة والحقوق السياسيّة، غير أنَّ عوامل نجاحها راجحة وبيّنة تماماً، وخصوصاً عند الرأي العام التونسي، الذي عليه أن يستعيد انتفاضته التي لا زالت نيران البوعزيزي تنيرها. وإذا كان قيس سعيّد يستعيد بانتفاضته هذه فصولاً من البورقيبية، التي كانت مطعونة على الدوام بسبب موقفها من الصراع مع إسرائيل، غير أنَّ المنصّة التونسّية الراهنة تضع الرئيس سعيّد على يسار بورقيبة وخصوصاً بالنسبة للمسألة الفلسطينيّة، فيما يبدو راشد الغنوشي على يمين بورقيبة رغم حجاب النهضة ونقابها السميك والطويل الذي فقد قدرته على التمويه.
عندما قال بورقيبة: انظري إلى الدنيا من غير حجاب. من قال إنّه كان يخاطب المرأة؟
ربما خاطب تونس الخضراء بوجهها الحسن… وجهها الذي رسمته أليسار مملكة قرطاجيّة وقفت ندّاً لروما، ثم افتدتها احتراقاً قبل حفيدها المعاصر محمد البوعزيزي بأقل من ثلاثة آلاف عام بقليل.