بلى، مرتزقة سوريّون، في ناغورني كاراباخ وليبيا… وغداً في الجبهة التركية التالية.
بالتأكيد، هم ليسوا من سلالة من يظهرون في الشريط السينمائي (المرتزقة)، الذي بطبيعة الحال يؤسطر القدرات الفيزيائية والسلوك الأخلاقي لـ (المرتزق الأميركي) الذي يمثّله سيلفستر ستالون وجيسون ستيتام وغيرهما، ذلك المصنوع سينمائياً وفق (وجبة سياسية) مدعّمة بـ (مكياج الأهداف السامية)، فمرةً يقوم ريتشارد بورتون مع روجر مور وكتيبة المرتزقة في شريط (الوز البريّ، 1978)، بعملية في إفريقيا لتحرير رئيس مظلوم، لتعود الكتيبة في مرة أخرى بقيادة ستالون 2011، للقيام بعملية في أميركا اللاتينية لإسقاط حاكمٍ ديكتاتور وطاغية.
المرتزقة في المخيال السينمائي الأميركي هنا، تؤكّد تلك الصورة التي ستشكّل دائماً، الملصق المجمّل لسمعة (شركات الخدمات الأمنية) التي تحتّل مكاناً ملحوظاً في بنية الآلة العسكرية والأمنية للعديد من الدول الكبرى أو تلك الطامحة نحو تكبير نفسها.
(بلاك ووتر/ أو أكاديمي – اسمها الآخر -)، ستشكّل حضوراً بارزاً في العمليات العسكرية الأميركية في العراق وأفغانستان، وسيكون تمويلها ملحوظاً في موازنة البنتاغون، ومثلها الشركات الأوروبية والروسية وغيرها، حيث يتم إدراج بند بعنوان (الخدمات الأمنية) في موازنات وزارات دفاع تلك الدول.
وفق القانون الدولي (ليس للمرتزق الحق في وضع المقاتل أو أسير الحرب – القاعدة 108 -)، غير أنَّ البروتوكول الجديد الذي أُضيف للقانون، ويختصّ بتعريف المرتزق ويحدد صفاته التي منها رغبته (في تحقيق مغنم شخصي… وتعويض مادي يتجاوز بإفراط ما يُوعد به المقاتلون… المادة 47)…إنَّ هذا البروتوكول يصعّب إلى حدٍ كبير تقديم البراهين التي تقود إلى إثبات (شخصية المرتزق)؟
دخلت تركيا بقوّة إلى (سوق المرتزقة) مع ضلوعها المباشر بالأحداث في سورية، عبر تأسيسها ورعايتها لـ (ميليشيات) عسكريّة شكّلت ذراعها الممتد في مختلف الجبهات. ووفق الطريقة الممنهجة المعروفة إعلامياً بـ (الحافلات الخضراء)، كان يصار إلى إغلاق الجبهات العسكرية، بعد معارك ينتصر فيها الجيش السوري بدعمٍ روسي، عبر ترحيل عناصر الميليشيات و(توطينهم) في محافظة إدلب الخاضعة للنفوذ التركي عسكرياً وأمنياً.
على هذا النحو، تحوّلت إدلب إلى (مجمّع) كبير لـ (الميليشيات) التي تشكّل عناصرها (المادة البشرية) التي ستعتمدها تركيا في سياق إدارتها لحروبها في سورية، ومن ثم في جبهات بعيدة ترتسم راهناً ما بين ليبيا غرباً وناغورني كاراباخ في الشمال الشرقي.
مع بداية الأحداث في ربيع 2011، فتحت تركيا حدودها واستجلبت (مرتزقة) من مختلف أنحاء العالم، تم تشكيلهم في إطار تنظيمات (النصرة وداعش والسلطان مراد والزنكي وأهل الحق…) وغيرها. وبطبيعة الحال سيكون عنوان (الجهاد) هو المعتمد في خط إنتاج الحافز الذي يدفع بـ (شيشاني) أو (إيغوري) لترك بيته وبلاده والقدوم إلى سورية ليقاتل حتى الموت!
ها هنا، لا يبدو تعريف (المرتزق) وفق القانون الدولي، مستقيماً مع حالة لا تحرّكها بالأصلِّ الدوافع المادية الشخصية، بل الدوافع الإيديولوجية – الدينية – المذهبية، التي يُصار إلى إنتاجها على النحو الذي لا يجد فيها (المؤمن) إلاَّ كونها (أمراً إلهياً)، ليجد نفسه تلقائياً في أتون الحرب!
في تاريخ سورية المعاصر، ومنذ تأسيس منظمة (القاعدة، 1988) وأخواتها، كانت (المادة السوريّة من العنصر البشري) في هذه المنظمة من درجة متواضعة، فـ (السوق السوريّة) كانت فقيرة أو خاملة في ذلك الوقت، وظلت على خمولها إلى أن انفلشت في السنوات التسع الماضية، ولكن منهجية (الحافلات الخضراء) جعلتها مُحتكرة من تركيا وتحت سيطرتها بنسبة غالبة وكبيرة.
توضّب تركيا، في إطار هذا الاحتكار، مقتنيات السوق السورية وتخضعها لمتطلباتها الاستراتيجية، وبعد مرور هذه السنوات يبدو المنسوب (الجهادي) متراجعاً أمام تقدم المنسوب (المادي)، الذي حوّل (المجاهد) تحويلاً نهائياً إلى (مرتزق)، لكن ليس من مرتبة سيلفستر ستالون أو ريتشارد بورتون، بل من مرتبة تليق بمرتزق متوضّع في ذيل ترتيب دول العالم المتخلف!
من كانوا يوصفون بـ (المجاهدين) يتم تجنّيدهم الآن كـ (مرتزقة)، ولكن مع الاحتفاظ بـ (راية الجهاد) مرفوعة فوق كتائبهم، ليس خجلاً من ماضٍ كان؟ بل تأميناً لسيطرةٍ تامة و(احتكارٍ) ضامن لعملية تحويل المجاهد إلى مرتزق، بماركة مسجّلة تركية حصريّة.
في القرن الثالث قبل الميلاد، حارب هانيبعل المرتزقة عندما كان شابّاً تحت إمرة أبيه. ولمّا أصبح قائداً لجيوش قرطاجة، وفي حربه ضد روما، عاد واستجلب مرتزقة ليعتمد عليهم في فصول خططه الحربية…
لمَ لا…؟ ألاِّ يتحدّر القرطاجيون من شاطئ سورية، تلك البلاد التي سجّلت في بداية تاريخها السومري أول حالة ارتزاق في التاريخ!
المرتزقة السوريّون الآن في ليبيا، قرب قرطاج، ولكنهم ليسوا بإمرة هانيبعل… بل تحت قيادة أردوغان!
أحييك.
ولك التحية