سِرُّ الخروج من الحصار
-1-
عندما ترتفع الجدران حولك، من كل الجهات، محاصرةً وجودَك وحياتك، ومنهكة أفاقك، بدعوة أولئك (المبشرين) بارتفاعها في السماء أو انغراسها في الأرض… عندما تكتمل حلقة الحصار، وتبدأ بالانكماش الوحشي زاحفة رويداً… رويداً لتطبق على صدرك، وتشلّ حركتك ولتحاول قتل أنفاسك.
لا يكون لك بدٌّ من: الغناء.
الغناء؟ وحده، من يريك كيف تلوي الجدران خواصرها وتلوذ بعيداً مرعوبة من موسيقى الروح، وكيف تتكسّر حلقة الحصار وتتفكك أواصرها كلما تَواصَلَ الإنشاد داكّاً أساساتها، ولاحقتها الكلمات…
الغناء؟
وحده، مَن يضعك، مرة جديدة: خارج الأسوار.
-2-
يعرف فايز خضور، هذا (السرَّ) ويمتهنه، منذ أن دَندن ودَوزن أُولى إيقاعاته من نحو نصف قرن ويزيد، وهو يواظب مرة، تلو المرة، على الخروج من الحصار، كلما بدا له أنَّ الجهات تضيق عليه، وأنفاسه بدأت تتقطع من فعل الاكتساح الممنهج لـ (الخيال) الذي لا بدّ، إذا ما استمر، أن يضعه ويضعنا جميعاً أسرى (واقع) لاطئ في فيء جدارٍ غليظ… سميك، لا يفتأ ترتفع مداميكه مع كل أفق مُغتصَب من الخيال، ومع كل حركة متواطئة مع (بطشه) بملاعب الرياح.
يكشف فايز خضور سرَّه مرة جديدة، ويثب كالطائر (الحرّ) نحو (مراياه) التي ليست سوى (أغانيه) التي تضعه، ودائماً، في فناء الحريّة.
مراياه: أغنياته،
وأغنياته: حريته.
-3-
إذا كان هذا (الطائر الحرّ) صياداً استثنائياً، فإن استثنائيته تفقد فرادتها، بفعل التكرار، إذ يتحول الصيد إلى (وظيفة) تحاصره في حركته، وتنقص من معنى حريته، إذ تُجبره بـ (الفريسة): تفكيراً بها، وبحثاً عنها، وملاحقة لها، وقبضاً عليها… وافتراسها؟
آنذاك:
مَنْ يفترسُ مَنْ، عندما تحاصَر الفرادة داخل أسوار الرتابة؟
يشمئز (الحرّ) من (وظيفته) فيشهر (سرَّه) ليلقي فريسته بعيداً ويتحرر منها:
[يُسقط الصيدَ من حضنه مثخَناً،
كلما اعتلجت في الحشا
شهوةٌ للغناء.]
هكذا يتمرّى فايز خضور بأغنياته، فيبدو مستوطناً جبال الريح، حرّاً… من دون الفرائس… وإغوائها.
-4-
أمام حشرجات الكلام الشعري السائد، وتلعثم الألحان بالتصنّع الحداثوي، يصل فايز خضور في مرايا الطائر الحرّ إلى إفراط غنائي، لعله يحمل في أحد معانيه رؤيته إلى الشعر.
-5-
منذ الحلاّج في (يا نسيم الروح)، على ما أظن واثقاً، لم يقارب شاعرٌ الشين ويغنيها ويموسقها كما فعل فايز خضور (راجع المقطع – ش -).
-6-
لا تأتي القصيدة مقطّعة على عدد الأحرف الهجائية، مصادفة… لا أبداً.
يغني فايز خضور الشعر، ولكنه لا يرتجل الحريّة، بل يصوغ أبجديتها على نحو صارم.
-7-
يتفنن فايز خضور بإغرائك وإغوائك بالحريّة، إذ تكتشف أنها ليست بعيدة وقصيّة… ومستحيلة، يكفي أن تتلمس ذاتك و (تتمرّى) بها… وتغني.
-8-
مرايا الطائر الحرّ: دعوة للخروج من الحصار.
خريف 2009.
المقطع الخاص بحرف الشين من ديوان: مرايا الطائر الحرّ
-ش-
مُدْنَفٌ يدعو لعينيِه العَشى،
لو رأى حُسناً يُضاهي من على النارِ مشى…!!
حدَّثوه بكلام راقَهُ مغزاهُ،
عن ظبي، تأنَّى،
وتجلَّى الله لمَّا نَمَّشّ…!!
صاغه ورداً وشمساً،
وندى عَذْباً،
تَسَاقى ثَغرَهُ خَمراً،
تهادى… وانتشى…
سيّدُ الحزن الموارى،
كلَّما وافاه غَيمٌ،
هَلَّ بالدمع خَفُراً،
وخَطَا خَطوَ الرَشا،
كيف ساموهُ عذاباً،
كافِرَ الوخْز،
وخلّوا عُشبَ عينيِه يبيساً،
مَنْ بِهِ ظُلْماً وشى…؟!!
يا طيورَ الشَّجوِ، رُفيِّ حوله أُنساً،
عَسَاهُ، إن رآكِ اْنتعشَ…!!
واذكري الحُرَّ لَهُ،
في محفِلِ الطير،
أراهُ كلَّما ذِكْرٌ أتاهُ، اْرتَعَشَ…!
ومضى يَخْمشُ وجهاً،
بِيَدٍ جارحةِ الظُّفرِ..
وياما خَمَّشَ…!!
لم يكن يَرْهَبُ نارَ الخَلْقِ،
في تَسيارِه العاشقِ،
ياما جاهَرَ الناسَ،
وياما وَشْوَشِ…!!
جَمْرُهُ بَردٌ على محبوبِهِ،
والثلجُ من محبوبِهِ،
جَمرُ الحَشَا…!!
لم يَشَا أمراً سَبَاهُ،
أَبَدَ الدهر، دَهِيراً،
قَبلَمَا الغالي يَشَا…!!