مسار جلجامش

سورية والولايات المتحدة الأميركيّة

بين أنطون سعاده وتشارلز كرين

اشتُهر مقال أنطون سعاده: سقوط الولايات المتحدة من عالم الانسانيّة الأدبي، وقُرِأ كثيراً وتمت استعادته في مناسبات كانت تقع فيها حوادث تذكّر بما تضمنه. على أنَّ هذه الاستعادة المتكررة له، كثيراً ما تتغافل عن ملاحظة الظروف التي كانت سائدة، عندما كتب سعادة مقاله، والأسباب المباشرة التي دفعته لذلك، ولذلك يبدو المقال من دون هذه الإشارات وكأنه (تنبؤات مجردة) مطلقة لا علاقة لها بسبب تاريخي محدد!!

كتب سعاده مقاله في الأول من أيار 1924، عندما كان في العشرين من عمره. وواضح أنَّ مناسبة المقال، هي (مصادقة الولايات المتحدة الأميركية على وصاية فرنسة على سورية)، أي أن المسألة تتعلق بمصير سورية وليس بـ (مصير أميركا) وأوضاعها. المقال، لا من قريب ولا من بعيد يتناول بحثاً أو تحليلاً حالة أميركا وما ستؤول إليه في المستقبل. سعاده، لم يستشرف سقوط الولايات المتحدة، بل قال – حينها – أنها سقطت أدبياً، أي أخلاقيّاً.

ما هي القصة؟ وما هي الخلفيات؟

مع نكوص الحلفاء بوعودهم، مع نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918، بعدم منح البلاد التي (لا يتكلم أهلها التركيّة) الاستقلال والحرية والسيادة، والتي كانت تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانيّة، ومنها سورية، التي كانت تشير إلى بلاد الشام. وكان مؤتمر الصلح منعقداً في باريس (1919)، ارتأت الولايات المتحدة إرسال لجنة دوليّة لاستفتاء سكان سورية والوقوف إلى رأيهم بصدد مصيرهم.

كانت الولايات المتحدة، حتى ذلك الوقت، ذات سمعة ممتازة، على النقيض من سمعة فرنسا وبريطانيا السيئة جداً، بحكم ممارساتهما الاستعمار لحقبة طويلة على شعوب وبلاد أفريقيا وآسيا. واشتُهرت في ذلك الوقت (مبادئ ولسون) الرئيس الأميركي، المشكّلة من 14 بنداً، والتي وردت في خطاب ألقاه أمام الكونغرس في 8 كانون ثاني 1918، والتي ينصّ البند 12 منها على ما يلي: (ضمان سيادة الأجزاء التركيّة، وإعطاء الشعوب الأخرى غير التركيّة التي تخضع لها حق تقرير المصير، وحريّة المرور في المضائق لجميع السفن بضمان دولي.)

لجنة كينغ – كرين في سورية

اقتراح الولايات المتحدة بتشكيل اللجنة، كان وراءه هوارد بلس رئيس (الكلّية السّورية الانجيليّة) التي سيصبح اسمها اعتباراً من العام 1920، الجامعة الأميركية. كان بلس موجوداً في باريس ومشاركاً في مداولات جلسات مؤتمر الصلح بخصوص مصير سورية، وقد كان موثوقاً من النخب الثقافية السوريّة.

وافقت دول الحلفاء شكليّاً على الاقتراح الأميركي، ولم تساهم في تشكيل الوفد الدولي كما يقتضي الاقتراح، ما جعل الرئيس الأميركي يقوم بتشكيل لجنة أميركية عُرفت في التاريخ السياسي باسم لجنة (كينغ – كرين)، نسبة إلى هنري كينغ وتشارلز كرين.

جاءت اللجنة إلى سورية وبدأت عملها في 10 حزيران من مدينة يافا، وأنهته في 21 تموز 1919، حيث غادرت من ميناء مرسين. قدمت اللجنة إلى الحكومة الأميركيّة، ما توصلت إليه في اجتماعاتها ومقابلاتها مع الوفود والأهالي في مختلف المدن التي زارتها. كانت التوصيّة الأولى تتمثل باستقلال سورية (بلاد الشام) واتحادها مع العراق.

انتظر السوريون أن تعلن الولايات المتحدة النتائج التي توصلت إليها لجنة (كينغ – كرين)، وأن تستخدم هذه النتائج في مواجهة فرنسا وبريطانيا في مؤتمر الصلح. لكن ذلك كله لم يحصل، بل تم وضع توصيات اللجنة في خزانة السياسة الأميركية المقفلة، واستخدمتها في مقايضات سياسيّة مع كلتا الدولتين وخصوصاً مع فرنسا. ولم يتم الإعلان عن مضمونها إلاّ بشكل جزئي في العام 1922، ولم يسمح بنشرها رسمياً وعلى نحو كامل حتى العام 1947.

هكذا انضمت الولايات المتحدة إلى فرنسا وبريطانيا ونكصت بوعودها، وتنكّرت لنتائج أعمال لجنة أميركية هي من شكلتها، فضلاً عن انقلابها على مبادئ ولسون ومعياريتها وأخلاقها.

من دفع ثمن ذلك كله؟

طبعاً، سورية.

تشارلز كرين، أحد قطبي اللجنة، كتب مقالاً في العام 1923، حول عمل اللجنة ومصير سورية وسياسة الحلفاء والغرب عموماً. يُعتبر المقال وثيقة مرجعية مهمة عن تلك المرحلة، وفيه يبين كرين دون أي لبس خيانة الحلفاء لمن دعمهم في الحرب، كما يبين ما توصلّت اللجنة إليه، وكيف لم تأخذ به الولايات المتحدة.

إنَّ مقالة تشارلز كرين، تقدم لنا مساعدة منهجية خاصة لقراءة مقالة أنطون سعادة، قراءة مرتبطة بحدث تاريخي محدد، وليس كما تُقرأ على نحوٍ مجرد.

قراءة وتساؤلات

1-كتب تشارلز كرين مقاله عام 1923، وقبل خريف ذلك العام (راجع الهامش الخاص بالمقال)، بينما كتب سعاده مقاله كما هو واضح في الأول من أيار 1924.

هل هذه الأسبقية تشير إلى أن سعاده ربما قرأ مقال تشارلز كرين؟ لكن إن كان قرأه فعلاً، لماذا تأخرّ في كتابة مقاله حتى مطلع صيف 1924؟

علماً أنَّ عصبة الأمم، كانت قد أقرت الوصاية والانتداب الفرنسي والإنكليزي عام 1922، والولايات المتحدة دولة مؤسسة لعصبة الأمم. فهل كتب تشارلز كرين مقاله تعقيباً على هذا القرار، وإن جاء متأخراً، فيما انتظر سعاده حتى أقرّ الكونغرس القرار لاحقاً؟

2-تشارلز يدين الغرب أخلاقياً، ويعتبره يسير على إرث بيلاطس البنطي الذي (عرف الحق، ولكنه عمل ضده) عندما سلّم المسيح للصلب قبل أقل من ألفي عام (وقت كتابة المقال)، وتشارلز في الواقع يبتعد عن تسمية أميركا، في الوقت الذي يسمي أوروبة بالاسم.

سعادة من جهته، يخصص الولايات المتحدة بالاسم ويدينها أخلاقياً، لأنه يعتبر فرنسا ساقطة أخلاقياً من زمان ومثلها بريطانيا.

الملاحظة الرئيسية هنا، تتمثّل في طبيعة الإدانة التي جاءت مشتركة في المقالين.

3-ما يميّز مقالة سعادة هو استشرافه لطبيعة السياسة الأميركية المستقبلية بخصوص سورية.

يقول مثلاً: (وغداً إذا لاقى الأميركيون من الوطنيين السوريين إعراضاً ونفوراً جزاء إقدامهم على امتهان كرمة سورية، فقد لا يمنعهم شيء عن أن يتهموا السوريين بالتوحش والهمجية، وأن ينسبوا إليهم كل فرية هم براءٌ منها.) كما يتميّز سعادة بإشارته إلى التناقض ما بين التبجح بالديمقراطية وطبيعة السياسة الأميركية. فضلاً عن إشارته الدامغة على تأثير (الدولار) والهوس بجمع الثروة الذي يعمي البصيرة الأخلاقيةّ الأميركيّة.

خلاصة: لم يكتب سعاده مقال: سقوط الولايات المتحدة من عالم الإنسانيّة الأدبي، لأسباب تتعلق بظواهر تخصّ الولايات المتحدة وحالتها. بل لأسباب تخصّ موقفها وسياستها تجاه المسألة السوريّة في ذلك الوقت. وهذا الموقف يعبّر عن سقوطها الأدبي، وليس عن سقوطها كدولة وتفككها ونهايتها!!

تشارلز كرين

مقالة تشارلز كرين

(في مجلة “عالمنا الأميركية) (*)

سعى الحلفاء في فرساي لتنفيذ المعاهدات السرية التي عقدوها، ولما نُفًذت واحدة منها أصبح لا

مناص من تنفيذ جميع المساوئ الباقية، فقد كان “شرفهم” مرتبطاً بها، ولكن “شرفهم” لم يكن مرتبطاً بالبيانات العلنية التي حررّوا بها شعوب العالم. مع أن ذوي الحل والعقد منهم قد شعروا – وهم الساسة المحنّكون – بنمو الديمقراطية في زمن الحرب. على افتراض أن لا مساس بشرفهم – شرفهم السياسي – كان يجب أن ينقضوا كل النقض تصريحات كالتي فاه بها مستر لويد جورج في 5 كانون الثاني (يناير) سنة 1918 قائلاً:

“ولن نحارب لنحرم تركيا من عاصمتها ومن أراضي تراقيا وآسيا الصغرى الغنية المشهورة التي يسود فيها العنصر التركي. ثم، إننا لا نعارض في بقاء السلطنة العثمانية في مواطن العنصر التركي وعاصمته الآستانة، مع حياد المضايق الموصلة بين البحر الأسود والبحر المتوسط وجعلها دولية. وإن بلاد العرب وأرمينيا والعراق وسورية وفلسطين هي في حكمنا جديرة بأن يُعترف بظروفها القومية الذاتية”.

على أن العهود المقطوعة في البيان الإنكليزي – الفرنسي، الصادر في 8 تشرين الثاني سنة 1918، قد جاءت أكثر جلاء، وقد نشرت في سورية وأبلغت إلى الحكومات الأخرى، وهي:

“إن الغاية التي ترمي إليها فرنسا وإنكلترة، في الشرق الأدنى، من الحرب التي أثارتها المطامع الألمانية في العالم، هي الضمانة النهائية التامة لتحرير جميع الشعوب المظلومة من الترك منذ أمد طويل، وإنشاء حكومات وإدارات وطنية تستمد سلطتها من الإدارة الحرة لتلك الشعوب نفسها ومن اختيارها الخاص”.

ولتحقيق هذا الأمر، إتفقت فرنسا وإنكلترة على التشجيع والمساعدة في إنشاء حكومات أهلية في سورية والعراق اللتين حررّهما الحلفاء الآن، وفي الأقطار التي ما زالوا يجاهدون لتحريرها، وعلى الإعتراف بتلك الحكومات حالما يتم إنشاؤها مع رغبتهما عدم تعيين أي شكل لشعوب هذه الأقطار: فلا همَّ لهما سوى أن تضمنا بعونهما ومساعدتهما الفعلية حسن سير الحكومات والإدارات التي يختارها الأهالي، وأن تضمنا النزاهة،.. بل العدالة للجميع، وتسهّلا تقدم البلاد الاقتصادي بتشجيع الهمم الوطنية وإثارتها، وأن تعزّزا نشر التعليم، وتقضيا على المنازعات التي استثمرها الترك زمناً طويلاً. هذه هي المهمة التي أخذت الحكومتان الحليفتان على عاتقهما إنجازها في الأقطار المحررة؟

وكان وراء هذه التصريحات العمومية – التي انتشرت انتشاراً واسعاً – عهود بين الحلفاء والعرب، وأخصهم عرب سورية، الذين اشتركوا في الحرب ضد بني دينهم الترك، مفاد هذه العهود أن سورية ستصبح حرة، متحدة، مستقلة، بعد الحرب.

وبناء على الاعتقاد بأن وقت انجاز تلك العهود قد دنا، جرت ربيع سنة 1919 دعوات في جميع سورية وفلسطين لمؤتمر يجتمع في دمشق وينفّذ الوعود التي أعطيت. فانتخبت هيئة ممتازة من الرجال، من مسلمين ومسيحيين، واجتمع المؤتمر لتأسيس الحكومة الجديدة, وكان التنظيم والمناقشات والطرائق العملية والمبادئ التي أعلنت تباهي بها أي هيئة من هذا النوع. وقد انتخب فيصل – قائد الجيش العربي الذي اشترك مع الحلفاء – ملكاً، وطلب المؤتمر أنه يجب أن تكون سورية متحدة مستقلة بما فيها فلسطين، لتمتد من جبال طوروس إلى العقبة ومن البحر المتوسط إلى الصحراء.

إن جميع تلك الأنحاء يتكلم أهلها العربية بشكل واحد، والشعب مختلط بالتزاوج، وبين الأهلين صلات رحم، والتجارة تنتقل حرة في جميع أقطارها منذ عصور. وقد رجا المؤتمر – للأسباب نفسها – أن يدخل العراق في ذلك، وطلبوا إذا كان لا بد من وصاية على تلك البلاد أن تكون للولايات المتحدة، لأن ما جرى في كوبا والفيلبين يعرفه حتى البدو في الصحراء. وطلب السوريون عند تعذّر الحصول على الإستقلال. أو على وصاية الولايات المتحدة، أن تكون الوصاية لإنكلترة، فقد كانوا يعتقدون أن إنكلترة تتجنب التدخل في أمر لغتهم ودينهم وقوانينهم الذاتية وتربيتهم وعاداتهم، ولا يثقون مقدار ذرة بالفرنسيين، ويقولون أن الشرق يفقد كل بلاد تقع تحت حكمهم. فهذا الشعور كان وما زال قوياً لدى جميع المسلمين في البلاد العربية لأنهم يعتقدون أن الفرنسيين لا يفهمون من دينهم أكثر مما يفهمه المحمديون من النصرانية.

لا معنى للقول بأن هذه الشعوب غير أهل لتحكم نفسها بنفسها، فالكلية الأميركية التي هي من خيرة معاهد العلم والتربية، ما زالت تخرّج لسورية برئاسة الدكتورين بلس – الأب وابنه – رجالاً من جميع الأديان والعناصر،.. مدربين علماً وأخلاقاً. وقد قام نحو عشرين من خريجيها بخير الخدمات في جزائر الفيلبين، وكثيرين سواهم ذوو مقامات رفيعة في القاهرة، بينهم كبار رجال التجارة والصحافة وأصحاب المناصب الهامة في الحكومة المصرية، وجميعهم وطنيون متحمسون يسهل انتقالهم إلى سورية حالما تتحرر وتتحد. وقد عاش كثيرون من السوريين آجالاً طويلة في أميركا، وسرّهم أن يغتنموا الفرص التي سنحت لهم فيها من دون أن يحملوا الحكومة دائماً على التدخل في شؤونهم، ومع ذلك فقد شربوا روح أميركا وعاداتها السياسية، ورجعوا إلى بلادهم وهم يحنّون إلى الأرض التي أقاموا مؤقتاً فيها.

إن هذه الشعوب هي، ولا ريب، أعظم أهلية لتحكم نفسها بنفسها من البلغار والصرب واليونان عندما حصلوا على استقلالهم، وهي على الأقل تماثل أهل الفيلبين في استعدادهم اليوم للحكم الذاتي.

ثم يجب أن لا ننسى البلاد الموضوعة الآن تحت موضع البحث – سورية وفلسطين – فهي ليست كأي بلاد أخرى في العالم، لأن لكل ما يحدث فيها شأناً، فهي العصب المركزي السياسي الأعظم إحساساً، فإذا ساء سير الأمور فيها تهيّج العالم كله سريعاً، وهذا هو الموقف فيها الآن.

لقد كان الشرق منذ أربع سنوات، وعلى الأخص الشرق الإسلامي، في خير حالة روحية معقولة،.. لأنه كان يشتاق حقيقة إلى التفاهم مع العالم الغربي، وأثرت فيه المبادئ الأربعة عشر تأثيراً عميقاً كأساس للتسوية، ولكن نكوص الحلفاء عهودهم نكوصاً تاماً، وعدم احترام شيء من رغبة تلك الشعوب، وتبديدهم بأفظع طريقة همجية كل مظاهر للحرية أو الاستقلال،.. كل هذه الأمور جعلت، اليوم، في الشرق كله تيار كره عميق ضد الغربيين.

عندما تأكد الدكتور هوارد بلس سنة 1919 أن صحته في خطر، وأراد أن يقدم الخدمة الأخيرة للبلاد التي وقف حياته عليها، وأحبه الجميع فيها، طلب من الرئيس ويلسون أن يحمل الحلفاء على تعيين لجنة منهم لدرس رغائب أهالي سورية وفلسطين قبل المجازفة في وضع أي خطة نهائية لإدارة تلك البلاد، فوافق الحلفاء إسمياً على ذلك. ولكن الفرنسيين لم يوافقوا حقيقة على أي تحقيق، وأجّلوا تعيين أعضائهم في اللجنة، آملين أن يتوصّلوا إلى تقرير الأمور بالطريقة التي يريدونها قبل أن يصل أي رأي من الشرق. ولكن الرئيس ويلسون عزم نهائياً على تنفيذ هذا العمل. وحمل اللجنة الأميركية على السفر وحدها، وهو خير ما كان يمكن أن يعمل ما دام القصد الرئيسي هو الحصول على رأي  حر مطلق. فسافر القسم الأميركي من لجنة الوصايات الدولية في تركيا، ووصل إلى بئر السبع في 6 حزيران سنة 1919، وبعد شهرين بلغ حلب، بعدما زار نيّفاً وثلاثين مدينة، واستجوب أكثر من ألفي وفد من نيّف وثلاثماية قرية، وقُدم له نيّف وثلاثة آلاف عريضة في الطريق، وذلك ما لا يمكن أن يتم أفضل منه نظاماً وصراحة ووضوحاً في أيّ ولاية من الولايات المتحدة. وكانت الجماعات حاضرة دائماً، وعارفة ماذا تريد.. وكيف تعرب عن رغائبها. وكانت جميع العناصر والأديان والمهن والطبقات الاجتماعية والإقتصادية ممثّلة. وقد ركب وفد من البدو ثلاثين ساعة متواصلة ليصل إلى المكان المعين في الساعة المعينة، وكانت الثقة بالبعثة الأميركية قد بلغت حدّاً يؤثر أعظم تأثير في الشعور. بلى،.. إذ لم يسبق للشرق أن فتح عقله وقلبه إلى مثل تلك الدرجة. وقد جرى كل ما أرادوه وانتظروه – وهم على الحق في ما انتظروا – فقد دونت أقوالهم تدويناً طبق الأصل، وترتبت ونظمت واستخرجت منها توصيات، اعتقد مستخرجوها أنها تؤدي إلى سلام سريع، وإلى تقدم هناك، فلو فشلوا لكانو مسؤولين عن الفشل، ومهما كان نوع الفشل سيكونون وحدهم المسؤولين من دون أن يلحق بالعالم الغربي شيء من التبعة.

وعلى كل حال، كانت الخطة التي وضعت للسير عليها غير ذلك كله، فإنه عندما كان الأعضاء الأميركيون في لجنة الوصايات يبذلون أقصى الجهد لإستخراج رأي حر تام حول آمال السوريين ومخاوفهم، أُجري كل شيء في باريس لإبطال أعمالهم. فلما أُعد التقرير ودرسه المتخصصون في المسائل الشرقية درساً دقيقاً ووافقوا عليه، كانت البلاد التي يتناولها قد بيعت لأعظم الطالبين. وقد كان من الصعب دائماً، لسوء الحظ، التوصل إلى معرفة الحق في ذلك القسم من العالم.

ومن المحتمل أن هذه الحكاية قد نسيها الآن ما يسمى العامل المسيحي إسماً، ولكن موظفاً أوروبياً في فلسطين، في الزمن الغابر، سأل مرة: “ما هو الحق؟”، وعندما عرفه عمل ضده. وما زال العالم حتى الآن يتألم من عمله السيئ. ومن دواعي الأسف أن أرباب المناصب تتسرب إليهم أرواح أسلافهم، لأن أرباب المناصب الأوروبيين لم يتقدموا، كما يظهر، منذ عهد بيلاطس البنطي. وهذا ما يوضح إلى أي درجة كان كرههم العميق لظهور الحق هناك.

وفي خلال ذلك نشأ تيار شعور عميق بكره الغربيين في الشرق كله، فكل تسوية كان يمكن قبولها سريعاً منذ أربع سنوات لم تعد الآن ممكنة. ونشأ نفور يحتاج إلى سنين عديدة لملاشاته، فالموقف الآن يحتاج إلى عمل سياسي آخر لا يمكن إجراؤه بواسطة الرجال المسؤؤلين الآن عن مصالح أوروبا. والشرق يسأل، لماذا يلح هؤلاء الأوروبيين الذين عرقلوا شؤونهم الخاصة في القدوم إلينا لإستلام شؤوننا؟ ولماذا تلح فرنسا، التي لا تستطيع مباشرة الاهتمام بشؤونها في بلادها، على إضافة حمل جديد إلى أثقالها بإدارة بلاد برمتها،.. في حين أن الشعب وجميع جيرانه غير مصممين على السماح لها بالبقاء؟ لماذا توضع أعباء نفقات المجازفات العسكرية والمالية على بلاد فقيرة صغيرة، نصف قاحلة، ذات موارد لا تستحق الذكر؟؟.

ولماذا لا نطلب من الدول ذات العلاقة في هذا الأمر أن تحافظ على وعودها الصريحة، وعلى الأخص بعدما أصحب أشرف عمل تهذيبي تبشيري تقوم به أميركا منذ خمسين سنة في الشرق الأدنى مهدداً بعداوة للغربيين وعداوة المسيحيين أثارها خرق تلك التصريحات والوعود العلنية.

إن تصريح فرنسا البسيط بأنها تعطي لمبشرينا ومدربينا الحماية نفسها التي كانت لهم من الترك لا قيمة له ما دام وجودها في سورية يثير العداوة في وجه الغربيين فيما وراء حدود الإدارة الفرنسية. لماذا لا نطلب من فرنسا حالاً أن تطلق سراح الدكتور شهبندر وسواه من الموقوفين معه؟ إننا لا نستطيع أن نبعث الذين أهلكتهم الرشاشات من قبورهم، لإظهارهم مجدداً في رأس اجتماعات عمومية طُلب فيها استقلال سورية ووحدتها قبل أن تتقرر مسألة الوصايات.

إن المظاهرة العمومية التي جرت قبل عيد الفصح في دمشق أقنعتني – كمندوب أميركي سابق – بالإستياء العميق من الاحتلال الفرنسي، وقد قال المتظاهرون:

“إننا مقيّدون أعظم تقييد، فلا يسمح بأي كلمة – من أي نوع كانت – غير حسنة لفرنسا، ولا حرية للصحافة ولا للاجتماعات – وهذا بعد الثورة الفرنسية بمائة وخمس وعشرين سنة – وليس بوسعنا إيصال أي كلمة إلى الخارج، فيجب أن تنقلها أنت”.

وهذا ما أسعى أنا لإجرائه. ولا شأن الآن بإرسال لجانٍ في فرص معينة للتحقيق في أماكن معينة من الشرق المتخبط، بل يجب على الأقل أن يؤخذ الأمر بجملته. وأول ما يجب إجراؤه بعد إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين، إعادة طبع وعود الحلفاء، وتقرير لجنة الوصايات في تركيا، وتقرير الأميرال برستول عن احتلال اليونان، في إزمير. ويظهر أن كل تقرير حسن الوضع، يُوضح الموقف بجرأة وجلاء، يتعرقل أمره سريعاً حالما تتململ منه أي وزارة خارجية.

إن حالة العالم الحاضرة، وهياج الشعور القومي، هما شر زمن يُحاول فيه تنفيذ سلطة سياسية على شعب غاضب، حانق، قوي، له ألوف من بني دينه ينتشرون في ألوف من الأميال، ويهتمون بأمره كل الاهتمام.

————————————-

(*) مأخوذة عن حسن الحكيم، “الوثائق التاريخية المتعلقة بالقضية السورية في العهدين العربي الفيصلي والإنتدابي الفرنسي (1915-1946)”، دار صادر، بيروت 1974، ص 478. ولم يرد لدى حسن الحكيم تاريخ المقالة، علماً أن متنها يفيد بأنها كتبت بعد عودة كرين من دمشق، أي بعد عيد الفصح، وبما أنه يدعو في المقالة إلى إطلاق سراح الدكتور شهبندر… فهذا يعني أنها نشرت قبل 12 تشرين الأول 1923 (تاريخ إطلاق سراح الشهبندر).

ولدى مراجعتنا “International Index to Periodical”  لتحديد رقم وتاريخ عدد مجلة  “Our World” ، لم نعثر في هذا الدليل حتى على اسم تشارلز كرين بين الذين كتبوا مقالات في المجلة المذكورة. وليس بإمكاننا، في الوقت الحاضر، تحديد طبيعة الخطأ: هل هو تقني، نتيجة سقوط الاسم سهواً في التركيب الطباعي، أم عن سوء نية. ولكننا، وبعد مراجعة بيليوغرافيا كتاب:

 “The King-Crane, Harry N. Howard Commission” ، منشورات خياط، بيروت 1963، لاحظنا ورود لائحة طويلة من المقالات التي دارت حول التكتم على أعمال لجنة (كينغ – كرين) وإخفاء الوثائق المتعلقة بالموضوع. وكذلك الإشارة إلى أن تقارير اللجنة بقيت مكتومة منذ العام 1919 ولم تنشر رسمياً إلا في العام 1947، وهي ليست كاملة. فهل سقوط اسم تشارلز كرين من أرشيف الدليل أعلاه ليس خطأً تقنياً في الطباعة؟

أنطون سعاده

سقوط الولايات المتحدة من عالم الإنسانية الأدبي

أنطون سعاده

المصدر الأصلي: المجلة، سان باولو، السنة 10، الجزء 4، تاريخ: 1/5/1924. 

الولايات المتحدة هي الدولة الغربية الوحيدة التي كان يُنتظر منها أن تكون مثالاً صالحاً للتمشي على سياسة جديدة عادلة فيما يختص بالاستعمار واقتطاع الشعوب اللذين أُنشئت لهما بعد الحرب أساليب جديدة وبدعٌ جديدة. فبعد أن ظهر للشعوب المقتطعة خداع الدول الأوروبية لها، حوَّلت وجهها شطر الولايات المتحدة التي بدا من مجاهرتها بحقوق الشعوب الضعيفة وتصريحها بوجوب إلغاء المعاهدات السرية والسير على طريقة الباب المفتوح وغير ذلك، أنها دولة نزيهة لا ترغب إلا في العدل العام طبقاً للحقوق الأولية للأفراد والشعوب. ولكنها بعد مصادقتها على وصاية فرنسة على سورية مع ما تعلمه عن مآتي الظلم والاستبداد القبيحة التي تجريها تلك الدولة الأوروبية في سورية، سقطت من عيون السوريين خصوصاً والشرقيين عموماً قشور جديدة، وتنبهوا إلى شؤون أخرى غير التي كانوا يعرفونها سوف تغيّر اعتقادهم تماماً، إذا لم تكن قد غيرته بعد، بشأن الثقة الأدبية بالولايات المتحدة وسلامة نيتها، كما تغيّر اعتقادهم بشأن الثقة الأدبية بسائر الدول الغربية.

الولايات المتحدة هي الدولة التي كان يرجو العالم أن تكون صلة التفاهم السياسي والأدبي بين الشرق والغرب، فخيبت رجاءه بصورة محزنة جداً. والشرق الذي كان يعتبر الولايات المتحدة صديقة له، يرى الآن أنّ هذه الصديقة لا تفرق في شيء عن أخواتها الغربيات الطامعات في التلذذ بالاستعمار والاستعباد. فإذا نفر الشرقيون من الولايات المتحدة بعد ما بدا لهم منها، فالذنب في ذلك ليس ذنبهم بل هو ذنب الولايات المتحدة وحدها. فالشرق كان يريد أن يحب الولايات المتحدة وأن يحتفظ بصداقتها، ولكنها هي التي صرمت حبال المحبة وأبت أن تكون محبوبة ومحترمة من الشرقيين.

الولايات المتحدة هي أول أمة صفعت ولسن في وجهه وهزأت بمبادئه. ومع ذلك فإن صحافتها لم تخجل من نفسها عندما رمت الألمان بكل فرية. لأن السفير الألماني أبى أن ينكس علم بلاده احتراماً لموت ولسن، الذي سبّب تداخله في شؤون أوروبة تعاسة وطنه. وكان الأجدر بتلك الصحافة أن تخص بتقريعها الأميركيين لأنهم هم أول من ضرب بولسن ومبادئه عرض الحائط.
إنّ اعتراف الولايات المتحدة رسمياً بوصاية فرنسة على سورية، وهي الدولة التي أرسلت لجنة فاحصة للوقوف على آراء السوريين في تقرير مصيرهم وعلمت من هذه اللجنة أنّ كل حماية أو وصاية أو انتداب وما شاكل يكون ضد إرادة السوريين وشعورهم الوطني، لم يكن يخطر في بال أحد بعد أن أقلقت الولايات المتحدة راحة الأرض والسماء تبجحاً بنزاهتها ومساعدتها للإنسانية. بيد أنه يمكن السوريون الآن أن يحمدوا الله والظروف لحصولهم على مثل هذا الاختبار المفيد. وسيكون هذا الحادث عبرة لأمم الشرق كلها.

الرئيس الأميركي ولسن

الظاهر أنّ لمعان الدولارات قد أعمى بصيرة الأميركيين حتى أنهم أصبحوا يوافقون على الاعتداء على حرية الأمم بدمٍ بارد وعجرفة متناهية، غير حاسبين أنّ مثل هذا العمل الشائن الذي يأتونه جارحين عواطف أمم كريمة كانت تعتبر الأميركيين وتعتقد فيهم الإخلاص الذي أفلس في الغرب إفلاساً تاماً، هازئين بشعور تلك الأمم صافعينها في وجهها جزاء محبتها لهم، وبين تلك الأمم من قد ضحت بكثير من شبانها وزهرة رجالها في سبيل الذود عن شرفهم وعلمهم أثناء الحرب العالمية الهائلة التي كان المحور الذي تدور عليه الذود عن الحياة لا عن الشرف، عمل معيب يسبب سقوط مرتكبه.

لا أدري ما هي الأعذار التي يبرر بها الأميركيون عملهم الشائن بمصادقتهم على وصاية فرنسة على سورية تجاه أنفسهم. ولكني أدري شيئاً حقيقياً ثابتاً، وهو أنه لا شيء يبرر هذا العمل تجاه العالم. وأعتقد أنّ عملاً كهذا لا مبرر له في الحالات الاضطرارية وغير الاعتيادية، فكيف في الحالات التي لا اضطرار فيها، خصوصاً والعمل المشار إليه ليس له صفة المصادقة فقط بل صفة المشاركة بالاعتداء على حرية سورية وحقوقها أيضاً، لأن الولايات المتحدة قد اتخذت هذه المصادقة وسيلة لجعل رعاياها مساوين لرعايا الدولة المعتدية في الامتيازات التي يطلقون عليها أحياناً «حقوق الامتيازات». وهكذا تكون الولايات المتحدة قد اشتركت فعلاً في الاعتداء على حرية سورية، لأنها قد اشتركت في الامتيازات التي هي نتيجة ذلك الاعتداء.

والآن لننظر في هذه الامتيازات وما هي فائدتها للولايات المتحدة ورعاياها حتى تستحق الاهتمام الذي علقته هي عليها، ورضاها بأن تضع نفسها في صف الدول المعتدية على حرية الأمم وحقوقها، وأن تتحمل عبء مسؤولية الاعتداء أمام العالم المفتح العينين والتاريخ، رغماً مما تعلمه عن وخامة عاقبة مثل هذه المسؤولية التي جربت أن تتحملها دولة هي أعظم من الولايات المتحدة في كل شيء، وهي ألمانية، فجرّتها هذه المسؤولية إلى العاقبة التي يعرفها العالم كله، مع أنّ ألمانية لم تقدم على تحمُّل تلك المسؤولية اتي حنقت لها الأمم كلها بالاعتداء على البلجيك إلا مضطرة بالضرورة الحربية المستعجلة.

مما لا يخفى على الأميركيين فضلاً عن السوريين أنّ عدد رعايا الولايات المتحدة في سورية قليل جداً لا يكاد يؤبه له، وأنّ هذا العدد على قلّته كان قبل مصادقة الولايات المتحدة على انتداب فرنسة لسورية يتمتع بامتيازات كثيرة قائمة على محبة السوريين للأميركيين لاعتقادهم فيهم أنهم أبناء أمة منزهة عن المطامع الأشعبية، بعيدة عن المطامح الاستعمارية، راغبة في العدل بين الأمم والشعوب، لا ترغب في الاعتداءات ولا تميل إلى إحداث الانشقاقات، ولا تعمل على نصرة الظالمين. فأينما وُجد أميركيون في سورية كانوا موضوع احترام الأهالي وإكرامهم اللذين لا ينالهما أجنبي آخر، سواء كان متمتعاً بامتيازات استعمارية أو لا. ولا أكون مبالغاً إذا قلت إنّ بين الوطنيين أنفسهم من كان يحسدهم على المنزلة التي كانت لهم في قلوب الأهلين والإكرام الذي كانوا يلاقونه عندهم أينما كانوا وحيثما وجدوا. وإنّ الفرنسيين أنفسهم الذين يتمتعون بامتيازات استعمارهم، يكادون يذوبون حسداً وقهراً، لأنهم رغم امتيازاتهم الاستعمارية لا يلاقون من الارتياح والانشراح ما يلاقيه الأميركيون الذين لا امتيازات لهم، بل هم يجدون صعوبات كثيرة من جانب الوطنيين. فماذا كان ينقص الأميركيين في ذلك الوقت، وماذا ربحوا من الامتيازات التي طلبتها لهم حكومتهم من فرنسة مقابل مصادقتها على انتدابها لسورية؟

نعتقد أنّ الشيء الوحيد الذي كان ينقص الأميركيين في سورية هو إيجاد أمور تنفّر السوريين منهم وتحملهم على كرههم. فكل ما قام في الماضي من الأمور المقصودة وغير المقصودة لتحويل السوريين عن محبتهم للأميركيين كانت نتيجته الفشل التام. أما الآن فالأميركيون أنفسهم نجحوا، وكان نجاحهم باهراً جداً. ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نهتف مع رصيفتنا مرآة الغرب الشهيرة قائلين «فلتحيى الدولارت الأميركية!» ليس شيئاً صعباً على الأميركيين. إنهم أرادوا أن يكونوا مكروهين من السوريين، إننا نقرّ ونعترف بأنهم نالوا ما يبتغون.

الأميركيون أرادوا أن يكونوا مساوين للفرنسيين في سورية، فليكن لهم ما يريدون. فالسوريون لا يخسرون مقابل ذلك شيئاً، ولكن الأميركيين يخسرون شيئاً هاماً. إنهم يخسرون مركزهم والثقة التي كانت للوطنيين بهم. وغداً إذا لاقى الأميركيون من الوطنيين السوريين إعراضاً ونفوراً جزاء إقدامهم على امتهان كرمة سورية، فقد لا يمنعهم شيء عن أن يتهموا السوريين بالتوحش والهمجية، وأن ينسبوا إليهم كل فرية هم براءٌ منها.

من يمنعهم؟ أضمائرهم وقد ماتت؟ أقلوبهم وقد تحجرت؟ أعواطفهم وقد اضمحلت؟ أأدمغتهم وقد نضبت؟ أإنسانتهم وقد أمحلت؟ أنوابغهم المصلحون والأرض خلاء منهم الآن؟ لا. لا شيء ولا أحد يمنعهم. وغداً يسجل التاريخ أنّ الولايات المتحدة العظمى قد سقطت من عالم الإنسانية الأدبي كما سقطت فرنسة العظمى. ولتكن الولايات المتحدة على ثقة من أنّ الدولارات، مهما كثرت وفاضت، فهي لا يمكنها أن تعمي بصيرة التاريخ.

ليست هذه أول مرة تُقدِم فيها الولايات المتحدة على مس كرامة السوريين وإهانة شعورهم الوطني، بل المرة الأولى كانت عندما صادق مجلسها على وعد بلفور بجعل فلسطين وطناً قومياً لليهود. وقد احتمل السوريون تلك الصدمة غير المنتظرة بصبر جميل، حتى جاءت هذه الصدمة الأخيرة بالموافقة على استعمار فرنسة لسورية، وهو ما كان بعيداً عن تقدير السوريين لنوايا الولايات المتحدة بُعد الأرض عن السماء. ولكن الظاهر أنّ للولايات المتحدة من وراء ذلك غرضاً خاصاً غير الامتيازات التي أتينا على ذكرها، وهو أن تبيّن للعالم أنها دولة مصابة بقحط هائل في رجال السياسة والإصلاح إلى حد أنه لم يكد يوجد في طول بلادها وعرضها رجل واحد قام يندد بهذا العمل العدائي ضد شعب صغير مسالم لم يتأخر عن تقديم الألوف من رجاله فداء شرف الولايات المتحدة والعلم الذي يظللها. ومن هذه الوجهة أيضاً قد بلغت هي ما تبتغيه.

إنّ موافقة الولايات المتحدة على استعمار فرنسة لسورية ظلم مجاني واعتداء على حرية سورية وحقوقها لا مسوّغ لهما على الإطلاق. وعمل كهذا يُعدُّ أقبح أنواع الظلم والاعتداء، وليس من العجب أن يسبب سقوط الدولة التي تأتيه، ولكن العجيب الغريب أن تظل الولايات المتحدة بعد العمل المذكور الذي أقبلت عليه تتبجح بديموقراطيتها وعدلها ونزاهتها، حاسبة أنّ العالم يقنع بمجرد الكلام الفارغ والادعاء البعيد عن الحقيقة. ولكن يمكن الولايات المتحدة أن تثق من أنها ترتكب بحسبانها هذا خطأً فاضحاً، وتبين عن عيٍّ مخجل. فالناس يفهمون جيداً أنّ مساعداتها المالية للأمم ليس عملاً إنسانياً ما زالت تشترك في الاعتداء على حرية تلك الأمم وحقوقها الطبيعية.

يجب على الولايات المتحدة أن تفقه أنها بموافقتها على استعمار سورية قد أساءت إلى هذه إساءة لا يمحوها بذل الدولارات، لأنها إساءة تعمدت الولايات المتحدة إتيانها دون أدنى مسوغ بعد أن صرفت في درسها أشهراً وسنيناً. وكان الأجدر أن تضعها جانباً إذ لا حاجة لها بها، فكانت أبقت على تلك المنزلة السامية التي كانت لها ولرعاياها في قلوب السوريين والشرقيين والعالم. ولكن من أين لنا بمن يجعلها تصغي لصوت الحق ويقنعها بوجوب الإسراع إلى التكفير عن إساءتها؟
في الساعة التي أمضت الولايات المتحدة صك المصادقة على استعمار فرنسة لسورية، مع ما تعلمه بما يحلّ بسورية من ويلات ذلك الاستعمار، أمضى التاريخ حكمه وسقطت الولايات المتحدة سقوطاً أدبياً مخجلاً. وستظل الولايات المتحدة ساقطة إلى يوم يغيّر فيه الأميركيون ما بأنفسهم.

ومهما يكن من الأمر، فإن حادثة هذه المصادقة ستبقى لطخة سوداء في تاريخ الولايات المتحدة، لا يزيلها منه شيء حتى يزول التاريخ نفسه.

—————————————————–

هامش: المعلومات الواردة في هذا الملف، يمكن الرجوع إليها، في كتاب نزار سلّوم: المسألة السّوريّة / استراتيجيات في المختبر، الصادر عن دار فكر للأبحاث والنشر، بيروت، 2004.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق