مسار جلجامش

لماذا سيطر الأوروبي على معظم العالم؟

قراءة في كتاب "بنادق، جراثيم، وفولاذ" في ضوء منهجيّة "نشوء الأمم"

قرأت مؤخراً الطبعة الثالثة الصادرة سنة 2017 لكتاب: بنادق، جراثيم، وفولاذ Guns, germs and Steel، علماً أنَّ الطبعة الأولى صدرت عن الكاتب جارد دايموندJared Diamond  في العام 1997.  بعد مقارنة مع كتاب: نشوء الأمم لأنطون سعادة، لفت نظري أمران ، الأول: وهو التطابق في المحتوى، حيث تبين وجود تشابه بين ما كتبه دايموند وما أورده سعادة في كتابه “نشوء الأمم”، وخاصة الفصول الثالث، الرابع، والخامس والكثير مما ذكر في أبواب الفصل السادس، ناهيك عن وجود إثباتات ترجع إلى الجذور، وتستند إلى التطورات التقنية والأبحاث الأنثروبولوجية في دعم مقالات ونظريات وتعريفات سعادة في كتابه. أما الثاني: فهو إمكانية النظر إليه كمرجع لكتابة نشوء الأمة السورية، ذلك أنَّ الكتاب غني بالمعلومات الموثقة عن  الهلال الخصيب مع اعتبار أنَّ جغرافية الهلال الخصيب، بنظر دايموند، تمتد مع أودية دجلة والفرات إلى داخل هضبة الأناضول كلسان متفرع من الهلال.

السؤال الافتتاحي

يبدأ عالم البيولوجيا دايموند دراسته للإنسان وتطوره من سؤال: لماذا أنتج الأوروبي الأبيض أكثر واستعمر أكثرية العالم خارج أوراسيا؟

في إجابته،يعتمد دايموند على تركة الإنسان خلال تطوره واستنباط عمر المخلفات من الكربون المشع (C14). ويحدد بداية الانسان بشكله الحالي سنة 100،000 ق.م. في افريقيا، وتحركه باتجاه الشمال سنة 50،000 ق.م ووصوله عبر الهضبة الحبشية ووادي النيل إلى الهلال الخصيب سنة 40،000 ق.م. ويربط هذا الانتقال شمالاً بإنحسار المد الجليدي عن الشرق الأدنى وجنوب أوروبا بينما شمالها بقي تحت هذا التأثير حتى 11،000 ق.م.

الهلال الخصيب: منصّة البدايات

الزراعة وحالة الاستقرار

استحثت بيئة الهلال الخصيب الدافئة والمعتدلة أمطاراً، وخاصة في وادي ما بين النهرين ووادي الأردن، هذا الإنسان المعتمد على الصيد والتقاط الطعام من النباتات لسد جوعه، على التمييز بين الحشائش المتنوعة لمعرفة إياها تنتج حبوباً أكثر بجهد أقل. بناء عليه، اختار التركيز على بذار القمح والشعير، وأدت تجربته مع الوقت إلى ملاحظة نمو ما تناثر من بذار فبدأ زراعتها بيديه، ومن ثم بالمعزق في حدود سنة 8500 ق.م بعدها تنوع الإنتاج بزراعة الحمّص 8000 ق.م وكذلك العدس ثم إنتقلت زراعة الحبوب من الهلال الخصيب الى اليونان سنة 6500 ق.م والى جنوب شرق أوروبا سنة 6000 ق.م وألمانيا 5000 ق.م وشرقا الى الهند 7000 ق.م ومصر 6000 ق.م.

أما زراعة الأشجار فأخذت وقتاً أطول، ذلك أن عطاء الأشجار البرية يستمر لسنين والاهتمام بها حتى جني الثمار يستغرق سنوات أيضاً، مما يجعل التحدي أقل والاستجابة أبطئ. وتقدّر بداية زراعة الزيتون المدجن سنة 4000 ق.م. والجوز واللوز 3000-4000 ق.م. أما العنب والتين فهذه الأشجار المدجنة، قد إنتقلت غرباً على ضفاف المتوسط و أنتقل النخيل جنوباً إلى العربة ووادي النيل.

تلت زراعة الحبوب التعرّف على نبتة الكتان وزرعها لاستخلاص الخيوط في حياكة الملابس ومن ثم طحن بذر الكتان لإنتاج الزيت بنسبة 40% من وزن البذر.  قبل ذلك استعمل الإنسان جلود الحيوانات وصوفها. أما القطن فلم يكن الهلال الخصيب سباقاً في إنتاجه، بل جاء على الأرجح من الهند الأكثر حرارة.

يتساءل دايموند لماذا لم تبدأ الزراعة في الهلال الخصيب قبل ذلك، سنة 18،500 ق.م او 28،500 ق.م وانتظرت حتى 8500ق.م؟ ويُرجِع السبب إلى انتهاء حقبة البليستوسين  (Pleistocene) وعندها ارتفعت درجة الحرارة في الهلال الخصيب وإلى وفرة الطعام في البراري وسهولة التقاطه وتوافر الصيد حتى زاد عدد السكان وبالتالي الحاجة الى الطعام. وبدات معادلة الجهد المبذول للالتقاط مقابل الكالوري الناتج عن الطعام الملتقط تصبح سلبية.

وخلال فترة التقاط الحبوب أدرك الإنسان في الهلال الخصيب معنى الحصاد والتخزين لمنتوجات الحشائش البرية (ومنها القمح والشعير) قبل البدء بزراعتها، مستعملاً المنجل مع المقبض الخشبي أو العظمي ثم السلة للنقل والتخزين والجاروشة لفصل سنابل القمح عن الحبوب. كما أدرك ضرورة تسخين الحبوب لتخزينها تحت الأرض. حتمت زيادة السكان الانتقال للزراعة وباتت أسهل نتيجة لتكاثر الإنتاج وتوفره خارج موسمه الطبيعي.

تعتبر هذه القفزة النوعية انتصاراً للمزارع على الصياد الملتقط (أسطورة هابيل وقابين)، وتقدم البيئات الزراعية عددياً وتكنولوجياً وقوة، لا سيما انتصارها الباكر على بيئات الصيد والالتقاط التي استمرت طويلاً خارج أوراسيا.

هذا، ويستشهد دايموند بنظرية داروين (الاختبار الطبيعي)، ليعلن أن بيئة الهلال الخصيب طورت القمح البري لينتج أكثر وحبوباً أكبر، وبات الجهد الإنساني المطلوب للتدجين ضمن طاقة هذا الإنسان المتحول إلى مزارع وفي فترة زمنية تناسب مديد عمره. وهذا الجهد أقل في الهلال الخصيب بسبب التغيرات الجينية لبعض أنواع القمح والشعير لم تصل إليها بيئات أخرى.

ويدخل دايموند في حساب الإنتاج من القمح البري في الهلال الخصيب قبل التدجين، فالطن الملتقط في هكتار ينتج 50 كيلو كالوري من الطاقة مقابل 1 كيلو كالوري مبذول للالتقاط وبنسية بروتين 8% – 14% أي أكثر من أي حبوب برية أخرى. أدى هذا إلى التخزين وبالتالي الاستقرار في القرى، والتحول من الالتقاط إلى الزراعة.

إضافة إلى النوعية، امتلكت بيئة الهلال الخصيب المتوسطية 32 نوعاً من الحشائش المنتجة للحبوب من أصل 56 نوعاً على سطح الكرة الأرضية، بينما في بيئة التشيلي المتوسطية إثنان فقط. وهذه البيئة تمتاز بتنوع في تضاريس الأرض من البحر الميت التي تعتبر أخفض منطقة جافة على سطح الأرض، وصولاً إلى جبال زغراروس، مما يسمح بالإنتاج خلال فصل الشتاء في الأول وفصل الصيف في الثاني.

تحول الإنسان في الهلال الخصيب من صياد ملتقط سنة 9000 ق.م إلى أكثرية تمارس الزراعة وتعتمد على الحيوانات الأليفة بحلول 6000 ق.م ويعطي مثالاً تل هريرة على الفرات الأوسط (في الشام حاليا)، حيث أثبتت التنقيبات الأثرية عن قرى مأهولة من 10.000 إلى 9000 ق.م طوال أيام السنة رغم عدم اعتماد الزراعة وذلك لغنى الطبيعة بالحبوب البرية.  تم التعرّف في هذا التل على 157 نوع من النباتات المنتجة للحبوب والبقول والخردل، بعض الحبوب السامة الممكن استعمالها وحبوب للصباغ وأخرى للمعالجة الطبية وبقي الكثير منها غير معروف. ويورد مثلاً آخر في وادي الأردن حيث اكتشفت مخلفات 23 نوعاً من الحبوب ترجع إلى الألفية التاسعة ق.م بينهم القمح والشعير كما نعرفها حالياً.

تدجين الحيوان

لا يستقيم بحث الإنتاج الزراعي دون مواكبته بتدجين الحيوان للغذاء لحماً وحليباً، والسماد العضوي، والنقل والجلد والحراثة والصوف والهجومات الحربية وما يتأتى عن ذلك من جراثيم. فمن أصل 14 حيوان أليف لبوناً ، تم تدجين خمسة في الهلال الخصيب وجنوب غرب اسيا: الكلاب 10،000 ق.م، الخراف 8000 ق.م، الماعز 8000 ق.م، الخنازير 8000 ق.م والابقار 6000 ق.م أما الحصان فبدأ ترويضه في جنوب روسيا 4000 ق.م والجمل في شمال افريقيا والعربة 2500 ق.م. اشتركت شمال أفريقيا ووادي النيل في تدجين الحمير 4000 ق.م. وفي المجمل تم تدجين 13 من أصل 14 حيواناً لبوناً في أوراسيا شاملة شمال افريقيا ذات البيئة المتوسطية، أما الحيوان الباقي فهو اللاما والذي دجن في جبال الانديز،  وبقي مستوطناٍ في أمريكا الجنوبية ليومنا هذا. ويستتبع ذلك أن ثقافة المعزق إستمرت حتى تدجين الأبقار حوالي 6000 ق.م ويورد الكتاب أن الثيران إستُعملت لجر المحراث لتخفيف الجهد الإنساني وزيادة الإنتاج، ولكن ليس هناك من تاريخ أو مكان محدد  لهذا التطور المهم.

الثورة الثقافيّة الأولى

بعد التطور الاقتصادي برزت الحاجة للتواصل عند السومريين سكان جنوب بلاد ما بين النهرين تسهيلاً للمحاسبة والتجارة حوالي 3700 ق.م. فنشأ تبادل لألواح طينية عليها أشكال سمكة أو طير أو غيرها مما يتم تبادله بين قرى ومدن مختلفة، وكانت المعابد راعياً لهذا التبادل وحفظه لدواعي إقتصادية وحفظ تقنيات المهن. إلاَّ أنَّه سرعان ما أصبحت هذه الأشكال إشارات مجازية وأعطيت أصواتاً لمقاطع الكلمات، واستعملت كاختصار تلغرافي. ثم تطورت وباتت تطبع على الألواح الطينية بواسطة مسامير متعددة الأشكال والاتجاهات، وسميت باللغة المسمارية الرائدة في تاريخ البشرية، علماً أنه حتى الآن لم تُفَك كل أحاجي هذه اللغة.

على بعد 800 ميل غرب سومر تطورت الهيروغليفية في وادي النيل حوالي 3000 ق.م معتمدة على 24شكل وإشارة. أما في سورية الغربية فيسجل تطوير الأشكال والإشارات إلى أحرف مرتبطة بهجاء ومعنى. مثلاً ألف للثور مع شكل مختصر له، باء للبيت، جيم للجمل، ودال للباب، حسب لفظ هذه الكلمات باللغة الكنعانية بصورٍ مختصرة وسهلة الحفظ والتعامل. وأدى إعطاء أصوات للأحرف حوالي 1700 ق.م إلى ظهور الأبجديات الأولى في أوغاريت ثم جبيل على الشاطئ السوري، ومنها توحدت وانتشرت في كافة الاتجاهات لسهولة إستعمالها. فقد اعتمدت هذه الأبجدية إلى جانب اللغة الكنعانية في اللغات التالية: العربية الأولى، الأرامية، الفارسية، العربية الحديثة، الهندية (الاوردو) والحبشية ومشتقاتها في إفريقيا الشرقية.

أكملت سورية ثورتها الثقافية الأولى بالأحرف الهجائية، فنمت قاعدة التمدن الحديث (نشوء الأمم، الطبعة الثانية دمشق 1951 صفحة 83). وقامت الثورة الثقافية على الأساس الاقتصادي المتين في الزراعة وتدجين الحيوانات وصولاً للتجارة والاستقرار في القرى والمدن كما ورد أعلاه، كما قامت على اكتشافات وحرف وتطورات كما سيلي.

الطاقة والمعادن

يُورد دايموند تسييل النفط المتجمد ما بين النهرين سنة 2000 ق.م، كعملٍ رائد لمصدر الطاقة قبل الإغريق بـ 1500 سنة، وتوسع استعمال الفخار ابتداء من 8000 ق.م (وجد الفخار في اليابان حوالي 12،000 سنة قبل الميلاد) وفي العصر البرونزي 3000 – 4000 ق.م تم صهر واستعمال النحاس والبرونز، أما الحديد فتطلب أفران بحرارة عالية وتأخر إنتاجه حتى حوالي 1000ق.م في الهلال الخصيب متزامنا مع الصين.

السكان وحال الجماعة وتطورها

في البنية الاجتماعية، يشرح دايموند التزايد السكاني المرادف للاستقرار الزراعي ويحدد نمو الجماعات بأربع مراحل: العصبة أو العشيرة وعددها بالعشرات، القبيلة بالمئات، والاقطاعات الجغرافية بالألوف وصولاً إلى الدول إبتداء من 50،000 نسمة، وتحت هذه الجماعات يصنف السكن، العلاقة الاثنية، اللغة، الإدارة السياسية، البيروقراطية، إحتكار عناصر القوة، حل النزاعات، وجود القرى والمدن، العبادة، تقسيم العمل، أساس الاقتصاد، إدارة الأراضي، طبقات المجتمع، العبودية، الكماليات للنخب، العمارة العامة، والتعليم (إنظر الجدول 14.1 المرفق).

وفي الهلال الخصيب بدأت المرحلة الثانية أي القبيلة سنة 11،000 ق.م، والاقطاع 5500 ق.م، والدولة التي تشترط المدن والقرى 3700 ق.م. ويعتبر وادي ما بين النهرين مكانَ أول إمبراطورية في العالم تزامناً مع تقدم الكتابة المسمارية، ويوازيه زمنياً امبراطورية في وادي النيل. ولكن انتقال الوحدات الصغرى إلى المتحدات الكبيرة وصولاً لنشوء الإمبراطوريات لم يكن مساراً طردياً، بل يعكس أحياناً بتفتت هذه الإمبراطوريات القائمة على القوة المستندة إلى الاقتصاد الزاهر. ويعرج دايموند على تعريف جان جاك روسو أنَّ الدولة تقوم على عقد إجتماعي، ويدحض هذه النظرية التي لا تنطبق بتاتاً في تاريخ الأمم والدول. فالانتقال إلى الوحدة الأكبر ما زال بالقوة القاهرة أو خوفاً من الضغط الخارجي (المدن السومرية والكنعانية) مع ضرورات للوحدة فرضتها حاجة إقتصادية كتنظيم الري في وادي ما بين النهرين.

حركة التفاعل الإنساني ابتداءً من أوراسيا

بعد عرض تطور الانسان في الزراعة وتدجين الحيوانات الأليفة والكتابة وبقية المكتشفات وتقدم الحرف والتكنولوجيا إنطلاقاً من الهلال الخصيب وصولاً لعموم أوراسيا، يبدأ بالإجابة عن تفوق الرجل الأبيض بالإنتاج والاستعمار، ويشرح نظريته لتفاعل الإنسان مع الإنسان ومع بيئته، ويحلل جغرافية الكرة الأرضية وفيها الكتلة الكبرى وهي أوراسيا، والتي تمتد أكثر من 8000 ميل من جزر اليابان إلى البرتغال، ومن الصين إلى شمال إفريقيا المشمولة بهذه الكتلة بسبب بيئتها المتوسطية وفي المنتصف جنوب غرب آسيا، ذات الطبيعة الجغرافية المناسبة والطقس المعتدل. لذا فقد كان تفاعل الشعوب بموازاة خطوط عرض الكرة الأرضية سهلاً ومتاحاً فانتقلت زراعة الحبوب من الهلال الخصيب شرقاً وغرباً دون موانع في الطقس برداً أو حراً، ولا تغير في الفصول والأمطار ولا حتى في طول النهار والليل. وهذا ينطبق على كافة الإنجازات المبكرة للهلال الخصيب.

ساعدت الزيادة في عدد السكان على الانتقال والتفاعل، وواكب ذلك تسارع انتقال الجراثيم مع تطورها حسب نظرية “الاختبار الطبيعي” التي أوجدت مناعة مشتركة نسبياً عبر التاريخ لكافة هذه الشعوب الأوراسية.

لم يتعد التفاعل الصحراء الكبرى في إفريقيا وبقي محصوراً على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط مع بعض العمق في وادي النيل والهضبة الحبشية. وأعاق الطقس البارد التفاعل مع القارة الأميركية من سيبيريا إلى آلاسكا، رغم التثبت من وصول الإنسان الحالي إلى سيبيريا حوالي 20.000 ق.م، وعبرها إلى آلاسكا في 12.000 ق.م. ولكن الفرق هائل بين انتقال باتجاه واحد لجماعات بشرية همها سد حاجاتها البيولوجية وبين انتقال ثقافي اقتصادي تفاعلي بالاتجاهين.

أمّا الطقس الاستوائي الحار والغابات الكثيفة فحالا دون تفاعل مع شبه الجزر والجزر في آسيا الجنوبية الشرقية، وبالتالي استراليا ذات البيئة الفقيرة في شمالها، مما أدى بالشعوب ذو الأصول الصينية لتوقف حيوية انتقالها وتفاعلها وسط هذه الجزر.

في الحالة الأميركية استغرق انتقال الانسان من آلاسكا بعد 12.000 ق.م ألاف السنين لقطع 9000 ميل والوصول لأرض النار في جنوب الارجنتين عبر محور خطوط الطول. فإن ما يزرع في وادي الميسيسبي لا يلائم طقس أميركا الوسطى ولا منطقة الأمازون بسبب الفروقات الهائلة في الطقس والمطر وتغير النهار والليل والفصول. وشكّل برزخ باناما بعرض 30 ميل والتضاريس الجبلية إعاقة للإنتقال من جبال الانديز حيث تواجد حيوان اللاما إلى شمال القارة لاستعماله في النقل والفلاحة. هكذا بقيت سهول أميركا الشمالية تعتمد على الجهد البشري في الزراعة، ولم تعرف الحديد والدولاب ونوافير المياه وطواحين الهواء حتى مجيء الأوروبي. ولم تصل إلى القارة الأميركية الجراثيم والأمراض المعروفة في أوراسيا ولم تتولد أي مناعة ضدها عند حلول الأوروبي بين سكانها.

لذا عندما غزا الأوروبيون أميركا وجدوا دولتين متوسيطتي التقدم في المكسيك والبيرو، وما تبقى قبائل ما زالت تعتمد على الصيد والالتقاط وزراعة المعزق في أميركا الشمالية مع هزال سكاني لم يتمكن من مقاومة الأوروبي المسلح بالفولاذ والبنادق. ولم يرعوي الأوروبي عن استعمال الجراثيم المنيع ضدها ليحصد مئات الألوف من السكان الأصليين. أدت كافة أساليب القتل والخداع إلى السيطرة على معظم القارة في القرن السادس عشر. وهذا الشرح لنظرية دايموند يختصره الجدول رقم 18.1 المرفق.

ويشرح دايموند تعطل التفاعل من الشمال الإفريقي الأبيض حسب خطوط الطول بسبب الصحراء الإفريقية الكبرى مع افريقيا السوداء، ويتعطل هذا التفاعل أيضاً بالغابات الاستوائية، وكل منها ذات طبيعة مختلفة معيقة لانتقال الزراعة. أدى هذا إلى تخلف إفريقيا السوداء ووقوعها فريسة الاستعمار الأوروبي.

ريادة أوروبة وهيمنتها

وفي النهاية يتساءل دايموند: لماذا أوروبا استعمرت أميركا وبقية أنحاء العالم ولم يفعل ذلك الهلال الخصيب أو الصين أو اليابان أصحاب الريادة الحضارية في التاريخ؟

بالنسبة للهلال الخصيب، يورد انطلاق معظم الانجازات الإنسانية في بيئته منذ 8500 ق.م حتى 500 ق.م عندما قامت دول المدن الاغريقية ثم الإمبراطورية الرومانية بعد 300 سنة. قبل الطواحين العاملة على مجاري المياه حوالي 900 ق.م لم يظهر شمال وغرب جبال الألب أية مساهمة في مسيرة تقدم الإنسانية. حتى في الفترة من 1000 بعد الميلاد إلى 1425 بعد الميلاد ظل اتجاه العلوم والتقنيات جله من المجتمعات الإسلامية الممتدة من الهند إلى المغرب باتجاه أوروبا وليس العكس.

بعد انتقال تقنيات إنتاج الحبوب وبقية مرتكزات التطور الحضاري غرباً، فقد الهلال الخصيب ريادته بعد سنة 400 ق.م ثم تعرض لغزوات من المغول والشعوب التركمانية، مما أدى إلى تدمير شبكات الري في ما بين النهرين وتدرجياً ارتفعت درجات حرارة الأرض، وانخفضت الأمطار الناتجة عن تمدد الصحاري والبوادي وسهوب الرعي على حساب الأراضي الزراعية الخصبة والغابات. أدى تمدد الجفاف إلى انجراف التربة الخصبة وزيادة الملوحة مع قلة الري والفيضانات، وزاد انتشار رعي الماعز من الأراضي الجرداء فقلت الغابات، واستعمل ما تبقى منها بشكل جائر خاصة من قبل الدول المحتلة. فقد استعمل الأتراك آخر غابة في بترا النبطية لبناء العوارض الخشبية لسكة حديد الحجاز.

نختم، أنَّ سورية انتقلت من إهراء روما إلى مستورد للحبوب وكافة المنتجات التكنولوجية، ومصير تدفق دجلة والفرات من الجزيرة إلى شط العرب يشكل أكبر تحدياتنا البيئية حالياً.

ناصيف رزق الله

باحث في شؤون الوطن السوري

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق