انتهت الحرب العالمية الأولى، رسمياً، مع إنجاز وتوقيع اتفاقيات السلام في باريس 1919- 1920، حيث بدأ العالم يرتسم وفق الخريطة التي فرضتها أقدام الجنود في ميادين المعارك. وُضعت الإمبراطورية العثمانية المهزومة قيد التفكيك، فأنتجت ما تبقى منها كدولة قومية، فجاءت تركيا التي ارتسمت خريطتها الحديثة ما بين العام 1920 والعام 1923.
في العاشر من آب 1920، تم توقيع معاهدة سيفر ما بين السلطنة العثمانية والحلفاء، وبمقتضاها تم الاتفاق على تفكيك الإمبراطورية على قاعدة تخلي السلطنة عن جميع الأراضي التي سكانها لا يتكلمون اللغة التركية. استناداً لهذه القاعدة سترتسم السلطنة الجديدة (الدولة) في نسختها الأولى لتطابق امتداد العالم اللغوي التركي، غير أنَّ مصطفى كمال الذي كان زعيماً للحركة التركية الوطنية، رفض المعاهدة ولم يعترف بها، وانفصل عن حكومة السلطنة ونجح بعد (حرب الاستقلال) في فرض واقع مختلف أدى إلى الوصول إلى توقيع معاهدة لوزان في 24 تموز 1923، التي بموجبها ارتسمت الخريطة السياسية للجمهورية التركية، مُضافاً إليها لواء اسكندرون في العام 1939.
العثمانيون الجدد، بقيادة رجب طيب أردوغان، لا يخاتلون أبداً في التعبير عن مقاصدهم ولا عن عقيدتهم، فهم لا يعتمدون (العثمانية الجديدة) التي تعود لتنظيرات أحمد داوود أوغلو، بل يقولون بـ (العثمانية القديمة) الواصلة إلى السلجوقية، التي قوّضت الخلافة العباسية من الداخل، وأدخلت (الإسلام) في ضياع مرجعي، لا يبدو الخروج منه متيسّراً إلى الآن.
العثمانيون الجدد، عادوا مع سيف محمد الفاتح إلى هيكل آيا صوفيا، في إشارة رمزية إلى أن باب أوروبة سيفتح مرة أخرى، ودفعوا بجيشهم على خطى جيش السلطان سليم الأول، وها هم يحتلون مساحة جديدة من شمال سورية. انتشروا في البحر المتوسط وعلى شواطئه، في قبرص وقرب جزر اليونان، وفي ليبيا، وأطلّوا على السعودية من قواعدهم في قطر، ليجددوا حلمهم باستعادة المرجعية الإسلامية التي كانت محصورة بخلفائهم / السلاطين.
في مؤتمر حزب العدالة والتنمية في العام 2009، وضع رجب طيب أردوغان علامة زمنية مستقبلية، كي تتجه تركيا نحوها. جاءت عبارة (نحو العام 2023) واضحة في تحديد المجال الزمني للاستراتيجية التي ستعتمد خلال هذه الحقبة، وتأخذ مضمونها من الدلالة الرمزية التي يشير إليها العام 2023.
لا تنطوي العبارة على أي لغز. يمكن قراءة رمزيتها ببساطة: في 24 تموز 1923 تم توقيع معاهدة لوزان بين مصطفى كمال أتاتورك والحلفاء والتي بموجبها تم رسم الخريطة السياسية للجمهورية التركية المؤسسة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية التي تم تفكيكها ووضع حدٍ لحياتها. تأتي عبارة (نحو العام 2023) ليس للاحتفال بمئوية الحدث ومضمونه، بل للاحتفال بنقضه.
وعلى ذلك، ووفق عثمانية أردوغان: لا وجود لجمهورية علمانية في تركيا، بل سلطنة.
لا وجود لحدود وفق معاهدة لوزان، بل مجال عثماني مفتوح وعلى توّسع دائم ليطابق مجال الإمبراطورية في ذروة قوتّها.
بهذا المعنى: يتجه أردوغان مع تركيا لإنجاز إسقاط معاهدة لوزان على نحوٍ نهائي في العام 2023، وهو بدأ بتنفيذ هذه العملية، التي يمكن مشاهدتها، من رؤية الانتشار العسكري التركي وأماكنه.
ماذا عن الجهة المقابلة لتركيا؟
لا يزال نظام سايكس – بيكو، الذي أنتج الدول الكيانية السياسية، حاكماً للخريطة الجيوسياسية، وإن انحسرت عن نفسها أكثر من مرة، خلال المائة سنة الماضية، لم يتمكن فيها نظام الدولة السايكس – بيكوية، من الدفاع عن خط الهزيمة الذي يشكل حدوده. حيث تراجعت عن خط معاهدة لوزان في الشمال، فضلاً عن تراجعها عن خط الانتداب في الجنوب، ولأكثر من مرة أمام المشروع الإسرائيلي.
يشير الوضع الجيو- سياسي الراهن لمنصّة الهلال الخصيب، إلى ذلك الموقع المتراجع والدفاعي للدولة الكيانية، وخصوصاً منها الجمهورية العربية السورية، التي هي الآن بين فكي كمّاشة المشروع الإسرائيلي والمشروع العثماني المتكافلين عضوياً، رغم الضجيج اللغوي الذي يثيره عادة رجب طيب أردوغان، ليستخدمه كخلفية استقطابية للوعي المزيف لجاليته (العربية/ الإسلامية: العثمانية).
باتجاه 24 تموز 2023، يعمل أردوغان بطاقته القصوى على الساحة السورية، وخصوصاً، مع انهدام بواباتها الحدودية والاجتماعية، منذ العام 2011. أسس فرق الإرهاب المتشعبة بأسماء مختلفة، ولكنها بمجموعها تشكّل الجيش الإنكشاري المعاصر، الذي يتم الاعتماد عليه في ليبيا، إلى سهول الشمال والجزيرة السورية وادلب، وفي لبنان؟ وربما قريباً في الخاصرة السعودية؟
خاطب الشعب السوري كـ (ِشعبه)! واستدعاه للإقامة عنده، فلبت دعوته بضعة ملايين، يضع قسماً منهم على الباب الأوروبي، والقسم الآخر سيشكلون الحزام الديمغرافي النقي في الشمال السوري.
هو في ادلب، وعينه على حلب دائماً، ويتحسّر لتأخر تنفيذ وعده بالصلاة مع تابعيته في الجامع الأموي في دمشق.
في جبال القنديل شمال العراق يواصل هجومه العسكري مرة بواسطة الطائرات، ومرات بالاقتحامات البرية. ولا ينسى أن يكثّف من محاولاته لتمتين وتقوية حالة تابعيته في لبنان، فيما يتابع اختطاف وعي فلسطيني مضلل ومنزاح عن وطنه نحو مذهبه!
كل المعطيات تشير إلى توفر حالة مثالية أمام تقدم العثمانية مجدداً فوق جسدنا، ولم يتبقى إلاَّ سنوات ثلاث، كي يعلن السلطان أردوغان تدشين الإمبراطورية رسمياً بإسقاط معاهدة لوزان ومعها نتائج الحرب العالمية الأولى كلها.
سيفعل ذلك؟ سيمارس هذا الجنون؟
نعم، بالتأكيد، إلاَّ إذا تم وقفه ووضع حدٍ لجنونه. من يتمكن؟
اللعبة العثمانية الخطرة، لا تعني سورية لوحدها، بل تعني العالم المتوسطي والأوروبي بما فيه الروسي، كما تعني منظومة دول الخليج وإيران. وهي في النهاية تعني الخريطة الجيوسياسية العالمية. بهذا المعنى ستأتي مواجهته في إطار توضع القوى والمصالح وحساباتها على هذه الخريطة. الكيانات السياسية ستكون في الإطار نفسه وإن كانت الحلقة الأضعف فيه.
نحن من على منصتنا، لا شأن لنا بالجيوش واستراتيجياتها. لها وحدها أن تقرر ما يخصّها.
نحن، وبوضوحٍ شديد، سنخوض معركة الوعي في مواجهة العثمانية التي تهددنا على نحوٍ مباشر، وتعمل على إعادة إنتاجنا ك (رعايا) للسلطنة وسلاطينها.
إن كان أردوغان يتجه لإسقاط معاهدة لوزان، فنحن أيضاً نشاطره الهدف نفسه وسنتجه لإسقاط لوزان وما بعدها. هو سيتجه منها نحو استعادة عثمانية تمتد حتى المحيط الهندي، ونحن نتجه لاستعادة شمالٍ سوري يصل إلى أعالي جبال طوروس.
نحن سنستعيد هذه الأرض ونعمقّها في الوعي العام، الذي فقدها وضيّعها وأدخلها في مكب النسيان.
قد نكون وحدنا في هذه المعركة، كما كنا دائماً. لكن هذا خيارنا وقرارنا: يجب إسقاط معاهدة لوزان والوصول إلى قمم طوروس في الوعي السوري، حتى ولو اتجه الجيش العثماني جنوباً.
نحن، من مِنصّتنا، سنتابع معركة الوعي التي بدأها أنطون سعادة في العام 1932.
أحييك وبشدة. مقال جميل بالفعل.
لك شكري وتقديري