الشرع الأعلى

بين راهنيّة فكر سعادة وحاجته للتطوير

سوريا أو سوراقيا؟

[هذا المقال هو بمثابة مناقشة لبعض الأفكار والاقتراحات التي وردت في مقال للدكتورة صفيّة سعادة، بعنوان الحزب السوري القومي الاجتماعي: المسيرة وأسئلة التقويم” وسبق أن نشر في جريدة الأخبار اللبنانية تاريخ 5 / تشرين أول/2022- لمن لم يطلع على مقال الدكتورة صفيّة سعادة يمكنه ذلك بفتح الرابط:المسيرة وأسئلة التقويم ]

 هل افتقاد فكر الحزب السوري القومي الاجتماعي للنقد والتحديث، هو سبب عثراته وفشله في تحقيق غايته حتى الآن؟

الحزب وسيلة وليس غاية:

تبدأ الدكتورة صفية مقالها بتمهيد ((أن الحزب وسيلة وليس غاية، وسيلة لتحقيق مبادئه”، وتستعرض غاية الحزب مرادفةً اسم سورية بـ (سوراقيا أو منطقة الهلال الخصيب). ))

قد تكون محقّة في تحديد معيار نجاح الحزب بمدى ما حقّق من غايته، وحبّذا لو ساهمت بالقيام بهذا التقييم، لكانت أغنت، لكنها اكتفت بتساؤلها ((هل سار الحزب على طريق تحقيق هذه الأهداف (المبادئ) وما هي الخطط التي وضعها للوصول إلى تطبيقها ضمن المجتمع؟))، وتخلص إلى أن ((لا وجود لخطة حزبية قصيرة أو طويلة الأمد لتنظيم حركة تؤدي إلى استقطاب مواطني «سوراقيا» من أجل استقلال هذه الكيانات الفعلي لا الظاهري، وإلغاء مفاعيل سايكس-بيكو القريبة العهد آنذاك 1916))

في الحقيقة عبارة أن الحزب هو ((وسيلة وليس غاية))، برأيي فيها بعض الصواب وليس كلّه، فحزبنا ليس هيئات تنظيمية إدارية تعمل لتحقيق هدف أو مجموعة أهداف قد تتبدل مع كل مرحلة، ككثير من الأحزاب والحركات الأخرى في العالم، حزبنا كما قال سعادة هو الأمة السورية مصغّرة، وهو دولة هذه الأمة، لذلك ليس من فصل بين الأمة والحزب، “الحقيقة، أيها الرفقاء، أننا قد ترابطنا في هذا الحزب لأجل عمل خطير جداً هو إنشاء دولتنا وليكون كل واحد منّا عضوَ دولته المستقلة، والعمل ولا شك شاق فهل نعجز عنه؟” (سعادة، الخطاب المنهاجي الأول).

ونراه في شرح هذا الخطاب يؤكد على أن الحزب هو الأمة السورية مصغّرة “القصد الأساسي في الحزب السوري القومي الاجتماعي هو توحيد اتجاه الأمة الموجودة مصغّرة في الحزب. وإذا قلنا إنّ الأمة هي الحزب السوري القومي الاجتماعي، وإنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي هو الأمة، لم نقل إلا الحقيقة الحرفية المجرّدة، لأن الأمّة هي هيئة تحققَ فيها الوعي وحصلت النظرة الفاهمة الواضحة الصريحة إلى الحياة والكون والفن، فحيث لا توجد هذه الأسس تظل الأمة موجودة في حالة إمكانية فقط ولا تصير بالفعل إلا بعد أن يحصل الوعي”. (المحاضرات العشر)

ونجد سعادة قد استخدم كلمة “أنتمي” في قسم العضوية، لما لها من معنى مختلف عن كلمة أنتسب، في العمق والجوهر، فلدينا انتماء واحد هو للأمة السورية الواعية – الحزب، وفي ذات الوقت قد يكون لنا انتسابات عدة لجمعيات ونقابات… الخ.

أذاً ليس حزبنا حزباً نمطياً عادياً ليكون وسيلة لغاية مستقلة عنه، فنراه يقول أيضاً في نص ذاك الخطاب عن الحزب “إنه فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها، إنه تجدّد أمة توهّم المتوهمون أنها قضت إلى الأبد” فمن عبارة “تجدّد أمة” يؤكد سعادة أيضاً أن الحزب والأمة هما واحد، وإلا كان ممكناً أن يقول إن هدف الحزب تجديد حياة الأمة.

ثم أن التشكيلات الإدارية للحزب تقصّدها سعادة أن تكون تشكيلات دولة بكل أبعادها، فالرئيس رئيس الدولة، والمجلس الأعلى هو المجلس النيابي، ومجلس العمد مجلس الوزراء، والمنفذون العامّون هم بموقع المحافظين….الخ.

أما عن مقياس نجاح عمل هذه الدولة السورية القومية الاجتماعية (الحزب) ومدى تحقيق غايته، فذاك شي آخر، نعم هذه الدولة – الأمة المصغرة تتعثر في تحقيق هذه الغاية والمبادئ لأسباب أخرى يلزمها الكثير من الأبحاث، وقد تكون الدكتورة صفية قد أضاءت ولو بعجالة في مقالها على بعضها.

إذاً لا يفيدنا اليوم رجم الحزب كحزب ورفع الغطاء عنه كونه لم يفلح بعد تسعين عاماً على تأسيسه من تحقيق مبادئه وغايته، بل ما يجب أن نفعله تجاه ذلك هو إعادة الحيوية لهذا الحزب وإجلاء النظرة التي أوجدتها مبادئه وشحذُ الإرادة لتحقيقها، كيف ذلك؟ أيضاً هو بحث يطول ويحتاج للمتعمقين الصادقين في الواقع الحزبي ليرسموا سبل تحقيقها، لنقل الحزب من حالة التشرذم والضعف والضياع إلى الحالة الصحيحة له.

ضعف الحزب هو ضعف الأمة، فهل تخلى سعادة عن الأمة حين كانت تائهة، ضعيفة، مشتتة، متعددة النظرات والولاءات؟!!

اللّبننة:

ثم تعرض الدكتورة صفية للّبننة التي زُرعت بذرتُها بفترة غياب سعادة في المهجر، وبأن مفاعيلها بقيت في الحزب بعد استشهاده، وتشير إلى بقاء هيمنة هذا التيار برئاسة جورج عبد المسيح، لتصل إلى الانقلاب الفاشل في رأس سنة 1962، ثم إلى الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 حيث تقول أن الحزب انشق وفق الخلاف على تحالفاته، ((لكن سرعان ما انشق الحزب القومي مع بداية الحرب الأهلية عام 1975، ودخول القوات السورية إلى لبنان، فانحاز القوميون الموجودون في بيروت الغربية والجنوب، إلى منظمة التحرير الفلسطينية، فيما اصطفّ خلف َسوريا، قوميّو المناطق «المسيحية»، المسيطر عليها كتائبياً، وأصبح الحزب منقسماً إلى ثلاثة أطراف: «حزب جورج عبد المسيح»، «حزب الطوارئ»، و«حزب إنعام رعد)).

 أعتقد بأن هناك بعضاً من عدم الدقة في أسباب الانشقاقات، فليست اللبننة (الوقوف مع الواقع اللبناني) الذي طرحه وقاده نعمة ثابت في النصف الثاني من فترة غياب الزعيم القسري في المغترب من أسبابها الرئيسية، إذ أن سعادة عالج هذا الشطط الفكري بتؤدة وعناية، وطرد معظم رموزه بعد أن استنفذ كل وسائل تحقيق الوعي والقناعة لديهم. أما بالنسبة للجناح الذي قاده جورج عبد المسيح، فمعروف أن ذلك حدث بعد حادثة اغتيال الضابط الشامي عدنان المالكي في 22 نيسان 1955 إذ تم اتهام الحزب بتلك العملية، وكان الحزب كحزب ومجالس، بريئاً من هذه التهمة، إلّا أن شكوكاً حامت حول تورّط جورج عبد المسيح به بشكل فردي، فتوبع الأمر داخل الحزب وحوكم جورج عبدالمسيح وطرد عام 1957، وتبعه بعض القوميين المتعلقين به ممّن شعروا أن الحزب قد ظلمه بقراره.

أما الانشقاق الثاني الذي أشارت إليه الدكتورة صفية فقد يكون فعلاً للخلاف السياسي الذي نشأ في تلك الفترة بين القيادة في الشام ورئاسة منظمة التحرير الفلسطينية أثر في حدوثه، لكنه لم يكن أبداً للفرز الطائفي أو المناطقي أو حتى الكياني دور به.

هوس الزعامة:

ثم تنتقل إلى الاشارة لهوس الزعامة الذي ظهر من بعض القيادات الحزبية، التي لم تكن في وارد الانتظام ضمن حزب ديمقراطي، بل الاستيلاء على السلطة من خلال اختراع مبدأ (خلافة الزعامة)، أي الاستحواذ على سلطات مطلقة مدى الحياة، مما أدى إلى انسحاب القوميين من الحزب أو الانصياع، وتمثلت هذه السياسة تحت شعار (نفذ ثم اعترض). حيث تقول:

((تمثلت هذه السياسة في إعطاء الأوامر للقوميين تحت شعار «نفذ ثم اعترض». ولم يعد الحزب كما وضعه سعادة، مكاناً للتحديث السياسي والاجتماعي والاقتصادي وبعث وعي قومي، انتماءً وهويةً، ومركز استقطاب للعقول الناشئة، ومنارة للمجتمع، ومثالاً للاقتداء، ومحاوراً للأحزاب والتيارات الأخرى. تحوّل الحزب إلى أداة بيد قيادات تنافس الأحزاب الأخرى على السلطة، وتوقّف دور الحزب في التحديث والتبشير وإنشاء المدارس لبناء نشء جديد. أصبح همّه الوحيد الوصول الى السلطة)).

هنا لا بد من القول بأنه لا يوجد في الحزب مسؤولية أو منصب اسمه “خليفة الزعيم” ولم أسمع أن ذكره أحد، حتى من أيّ من القوميين الناقدين بعمق لما وصل إليه الوضع الحزبي، إلا ما أورده الأمين المرحوم عبد الله قبرصي في سلسلته (عبد الله قبرصي يتذكر) حيث ذكر أن الزعيم من السجن عينه (زعيماً بالوكالة) لتسيير أمور القوميين إبان فترة سجن سعادة الأول فقط، أما غير ذلك فلا يوجد ولم يُخترع في الحزب. يمكن أن يقال إنه برزت نزعات تسلّطية في تاريخ الحزب وكانت سبباً رئيساً في نفور العديد من القوميين واعتكافهم، وعاملاً هاماً من عوامل انشقاقه فهذا شأن آخر.

 أما عن مبدأ نفّذ ثم اعترض الذي أوردته الدكتورة صفية فلم يرد ذكره كتابة لا في الدستور ولا في نظام الحزب الداخلي، لكنه سرى بين القوميين بالفهم والاقتناع، وفق ما جاء في نص قسم العضوية الذي وضعه سعادة “..وأن أحترم قراراته وأطيعها، وأن أنفذ جميع ما يعهد به إليّ بكل أمانة ودقة..” وهذا أمر لا يُعيب القوميين، بل يوضع في ميزان مناقب الانضباط لديهم، إذ لنتصور أن كلّ عضو سيناقش المهمة الموكلة إليه، أو مضمون القرار الحزبي، ولا ينفذه إلا بعد تحقيق كامل قناعته به! فعن أيّ حزب أو دولة أو نظام نكون نتحدث؟! وفي هذا السياق طبعاً يجب ألا نغفل عن ذكر حق العضو الوارد في المادة الثامنة من الدستور التي وضعها سعادة وتضمن حقه بإبداء الرأي للمراجع العليا حتى للزعيم نفسه.

في التحديث:

تشير الدكتورة صفية إلى أن مبدأ خلافة الزعيم الذي أشارت إليه، أدى إلى (إلغاء الحرية الفكرية، وإلى أداء رئيس الحزب دورَ الخليفة المحافظ على الإرث الفكري وعدم المسّ به، ما أدى إلى اعتبار المبادئ نصاً قرآنياً تحرم مناقشته أو دراسته دراسة نقدية، وغاب العقل، وبرز التعلّق بالنص مهما تغيّرت الأحوال، لذلك نرى الكتّاب القوميين يدأبون على شرح ما كتبه سعادة دون إعادة تركيبه بناء على المستجدات أو التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلا فيما ندر، ويُعتبر من يحاول أن يناقش أو يتساءل أو يفكر أنه خرج عن فكر سعادة، لأن الخليفة هو الوحيد الذي لديه حق احتكار هذا الفكر، والنتيجة عجز الحزب عن البناء وعن مراكمة المعرفة والانطلاق في مسارات جديدة. والطريق الوحيد من جراء سياسات من هذا النوع هو الانهيار والتلاشي والتشرذم).

وهنا أيضاً، وأنا لست ممن ينظّرون لطوباوية الفكر، أو ممّن يعتقدون بحرمته على النقد والتصويب، إذ أن سعادة قال بأن المبادئ هي مرتكزات انطلاق الفكر، وأن “العقل هو الشرع الأعلى” لكني أرى الدكتورة العزيزة صفية ترغب بتحميل عدم التطوير، مسؤولية ما وصل إليه الحزب في هذه المرحلة، وهذا قد يجافي الواقع.

ثم حبّذا لو حدّدت بعض الموضوعات الفكرية أو الخلاصات العقائدية التي صاغها سعادة وترى ضرورة تحديثها أو تعديلها، هذه المبادئ التي تعتز بها الدكتورة صفية وترى بأنها لا تزال هادية ومنيرة لدرب كل تطور حتى يومنا هذا، ((أهمية فكره تكمن في أنه لا يزال يقدم التفسير الأصح لوضعنا في المشرق العربي، كما يقترح الحلول الناجعة للخروج من مآزقنا)) ((هذه المبادئ التي برهنت عن راهنيتها الشديدة إذا ما قارنّاها مع توجهات الأحزاب الأخرى)).

 وهل يا ترى سبب عجز الحزب عن تحقيق معظم أركان غايته ومبادئه هو افتقاره لتطويرها؟! وهل باتت أفكاره عقبة يلزمها التغيير أو التحديث؟

قد نحتاج لاستحداثات جديدة في القوانين الدستورية، وفي وضع نظام داخلي عصري، وحتماً نحتاج إلى استكمال ما بدأه المعلم من أبحاث ودراسات مثل نشوء الأمة السورية الذي بدأ به وصودر منه من قبل السلطات الفرنسية ومن ثم فُقد. أو الاستكمال والتوسع في الأبحاث الفلسفية القومية الاجتماعية كالمدرحية ومقولة الإنسان-المجتمع، الديمقراطية في الحزب… الخ، هذا صحيح، لكن برأيي لم تبرز حتى الآن أيّة إعاقات فكرية منعت الحزب من التقدم باتجاه أهدافه القريبة أو البعيدة حتى الآن على الأقل!

إن اعتكاف أو نفور بعض الكتّاب القوميين من العمل المؤسساتي سببه تسلّط المسؤولين الحزبيين، وتخوّفهم من المنافسة التي يمكن لأولئك الكتاب أن يشكلوها في وجههم، ولم يكن بدافع منعهم من تطوير الفكر، فكانت بعض السياسات الإدارية تهدف إلى تنفيرهم وإبعادهم، وقد تكون عبارة الرفيق الأديب سعيد تقي الدين المعروفة، معبّرة خير تعبير بأسلوبه عن تلك السياسات.

ثم هل التطوير بمعنى التغيير هو ضرورة حتمية لكل فكر بغض النظر عن ملحاحية ذلك؟ أم أنه ضرورة حين تكون لذلك ضرورة؟! ألم يتكئ مشروع (الواقع اللبناني) على فكرة التطوير ووضع الخطط بما يناسب المرحلة الراهنة، ومن باب تجزيء ومرحلة العمل؟  هذا الشطط الذي تضمّنه (الواقع اللبناني)، الحزب بمسؤوليه ومعظم أعضائه ولو “بعامل النظام ” كما قال سعادة كانوا متقبلين هذا الطرح ويعملون وفقه، ولولا عودة سعادة وتصويب هذا الشطط لكنّا في غير واقع اليوم!

 بعد استشهاد سعادة، كم من التعديلات الدستورية جرت في الحزب وقادت لما قادت إليه؟ واليوم معظمنا يطالب بالعودة إلى دستور سعادة للانطلاق منه بتعديلات يشرف عليها متخصصون موثوقون!! القصد بأن عملية التعديل أو التطوير يجب أن تتم في ظل حالة صحية متينة للحزب، تشرف عليها هيئات اختصاصية متعمقة فكراً وثقافة عقدية، دستورية، فلسفية وتاريخية. فهي ليست أمراً جيداً في كل الحالات، بل قد تكون فخاخاً تنصب لنهضتنا بجوهرها ومبتغاها.

أيوجد تصوّر لو بدأنا من باب التحديث (لمجرد أنه يجب أن نطوّر ونعدّل) نطرح تعديلات على مبادئنا أو غايتنا، أو نظرتنا الشاملة للقضية السورية القومية… ماذا سيصبح بحال الحزب؟ كم من التيارات التي ستنشأ؟ وهذه المرة على قاعدة الخلافات والاختلافات الفكرية! ألا تكفينا اختلافاتنا على قواعد الولاءات الشخصية ومفاعيل لعبة السلطة لنعزّزها ونؤججها بخلافات عقائدية؟

نعم لو كنا في مسيرة انتصار نهضتنا وبسبب التطور واختلاف الأوضاع الاجتماعية والسياسية أو العلمية والتقنية… برز تعارض عملي لها مع مفاهيمنا أو مبادئنا (الإصلاحية) وأصبحت هذه المبادئ تشكل عبئا على حركتنا وتقدّمنا لأصبح ذلك واجباً ومطلباً، أما وأننا نفتخر بأن كل ما يجري في المنطقة والعالم يشير إلى صوابية فكرنا ونأتي لنطرح ضرورة التعديل أو التطوير دون تحديد ما يجب تطويره ودواعيه، فهذا برأيي يجافي المنطق ويدفع باتجاه لا نرغبه كحزب أبداً.

أقول الإصلاحية لأنني أرى مع الدكتورة صفية أن المبادئ الأساسية هي تعبير عن حقيقة وماهية الأمة السورية، وتحديد وطنها، وقضيتها، وروحيتها، ومصلحتها، وهي حقائق علمية توصّل إليها سعادة وفق علم الاجتماع ودراسة التاريخ، حقائق لا تتبدّل إلى أن يتغير واقع العالم إمّا جيولوجياً وإما تقنياً، تغيراً جوهرياً تتبدل وفقه الأسس العلمية التي استند إليها سعادة في تحديد الأمة السورية.

في الشكل:

تقول الدكتورة ((أن القيادات الحزبية التي توالت على الحكم لم تهتم بنقاش فكر سعادة وتطويره، فقد اتجه الحزب إلى حصر اهتمامه بالشكل، أو بالأشكال المختلفة (استعراضات عسكرية، احتفالات انتخابية، التشدّد على تقديم التحية وبشكلها كزاوية قائمة، أو غيرها من التفاصيل التافهة…. ولم يقم الحزب حتى بمراجعة الأشكال التي وضعها سعادة، والتي كانت تتماشى مع عصره، ولكنها حتماً لم تعد تصلح ليومنا هذا، وتقف حائلاً أمام انخراط الشباب في هذه الحركة، مثال ذلك القَسم الذي يؤدّيه من يريد دخول الحزب، هذا القسم كُتب أثناء وجود الاحتلال الفرنسي مما يفرض على العضو الحفاظ على السرية التامة وعدم التكلم أو إفشاء الأسرار… فلماذا الإبقاء على قَسم من هذا النوع لا علاقة له بوضعنا الحالي المختلف تماماً؟! وهل كان سعادة سيبقيه وهو الذي تجرأ وغيّر حتى جغرافية بلاده من بلاد الشام إلى “سوراقيا”!))

بالفعل إن تركيز الحزب على نظام الشكل فقط هو حتماً شأن مرفوض ويحرف الحزب عن غايته، لكن لا يجوز أن نتفّه نظام الشكل بهكذا قول “تفاصيل تافهة” وأستغرب من الدكتورة صفية أن يكون هنا تركيزُها، نعم علينا أن نولي نظام الفكر جلّ اهتمامنا، لكن لا يجوز برأيي اهمال أشكال النظام التي أكّد عليه سعادة، ولطالما كان الحزب متميزاً بالنظام الذي ميّزه عن غيره من باقي الأحزاب والتنظيمات، فالتركيز على تبادل التحية وتنفيذها بالشكل الذي أراده لها الزعيم لهو أمر هام لارتباطه بروحية النظام ونفسية البناء التي تربّى القوميون عليها.

أما بموضوع ما ورد في قَسم العضوية عن ضرورة الاحتفاظ بأسرار الحزب، فهو أمر ليس له علاقة بوجود الانتداب الفرنسي فقط، ولم يكن حتماً قصدُ سعادة هو ذلك، فهو يدرك أن بقاء الانتداب في بلادنا شأن مؤقت، وأننا سنتحرر منه آجلا أم عاجلاً، فكان بإمكانه تعديل نص القسم بعد عودته وجلاء الفرنسي عن بلادنا لو كانت أيّة فقرة من نصه وُضعت بسبب وجود الانتداب، فنص القسم وضعه المعلم لتأمين الأخلاق والمناقب الضرورية في الرفيق المقبل على عملية الانتماء.

 من ناحية أخرى يجب ألّا نغفل عمّا وصفنا به سعادة بأننا دولة الأمة السورية القومية، وفي نظام الدول هناك أسرار لا يجوز البوح بها، هذا برأيي ما استهدفه الزعيم فيما وضعه ضمن القسم؟! ونجده قد عبّر عن ذلك برسالته إلى محاميه حميد فرنجية “وجعلت نظامه فردياً في الدرجة الأولى مركزياً متسلسلاً منعاً للفوضى في داخله واتقاء نشوء المنافسات والخصومات الحزبية والمماحكات.. وتسهيلاً لتنمية فضائل النظام والواجب وقد وضعت كل ذلك .. بصرف النظر عن وجود الانتداب أو عدم وجوده.”

أما عن أن نص القسم قد يعيق إقبال الشباب على الحزب، أراه حتماً ليس دقيقاً، فحين يتحقق الوعي القومي لدى أولئك الشباب، من معرفة وعمق اطلاع على العقيدة، وامتلاك الايمان، وصلابة الإرادة للانضواء في حركة تجهد بكل قوة لتحقيق هذه القضية، نراهم لن يتوقفوا أبداً أمام نص القسم. أما من يرغب بدخول الحزب ويتوجّس من هذا النص، أو من لم يتفهم عمق ومعنى عملية انتمائه، فسيكون بعد فترة وجيزة خارج صفوفه، وحتماً لن يرضي الدكتورة صفية أن نسعى لنموّ وهميّ للحزب.

عائلة سعادة وتراثه:

تقول الدكتورة صفية في مقالها أن “خلافة الزعامة” خلقت إشكالية لدى هؤلاء (الزعماء) ألا وهي وجود ذريّة تسمى عائلة سعادة، وهي منافس معنوي لهم في الأوساط القومية.

نعم، لهو مؤسف أن تشعر عائلة المعلم والزعيم سعادة أن الحزب أهملها بعد استشهاده، فلا يجوز البتة إهمال هذه العائلة التي كان من واجب الحزب أن يرعاها بما يفوق رعاية سعادة لها ما أمكن. وهذه مثلبة تاريخية ستلاحق الإدارات الحزبية المعنية لفترة طويلة.

لكني بالرغم من استنكاري لما حصل من ألم لدى العائلة ما كنت أرغب للدكتورة صفية أن تقول بأن العائلة صارت (منافساً معنوياُ لهم في الأوساط القومية)، فما نرغبه كلنا كأعضاء في هذا الحزب أن تكون عائلة سعادة خليّة محميّة لكنها فاعلة بكل ما أمكنها على درب النهضة، وإن كان اليوم لها موقف من العمل الحزبي الاداري كما هو موقف الكثيرين، فهذا عرَض من أعراض المرض الذي يفتك به وأدى إلى انشقاقاته وتشرذم أعضائه.

الانقسامات الحزبية:

أوافق الدكتورة صفية في إضاءتها على دور الصراعات على مركز السلطة في الحزب في تراجع دوره وحصول الانشقاقات فيه ((ومع الوقت نشبت الصراعات على مركز الزعامة نفسه، لا لتصحيح المسار، بل نتيجة رغبة عدد من الطامحين في الوصول إلى قمة الهرم)).

أما تجاه استعراضها لبعض أسباب تراجع الحزب وانفضاض بعض القوميين عنه حيث تقول ((لكن مواقف الحزب السياسية خلال مسيرته بعد استشهاد سعادة، مثّلت العامل الأبرز في تشرذمه، إذ إنه لم يحافظ على مبدأ الوحدة الوطنية/ القومية ضمن صفوفه، فمال نحو «اللبننة» في كثير من الأحيان، وانضم إلى جبهة موالية للغرب في مواجهة تيار عربي من عام 1958 إلى عام 1962، ما أدى إلى انسحاب غالبية القوميين المنتمين إلى «المذهب السني»)). أجد من واجبي الإضاءة أننا في الحزب لا نشعر بأننا من مذاهب معينة، أو من كيانات معينة، أو ننظر إلى تقييم قرارات أو إجراءات الحزب من هذا المنظار، فاللبننة وتقصد بها الدكتورة صفية على ما أعتقد استحواذ الكوادر اللبنانيين على غالبية المسؤوليات الحزبية، لم يُنظر بالعموم لها تاريخياً من هذه الزاوية أبدأً، وكذلك لم يُنظر إلى أية مسؤولية أنها لطائفة معينة أو مذهب معين، أو لمطلب (كوتا) معينة من كيان ما أو طائفة ما، فنحن في الحزب ربينا على مبدأ الكفاءة وفقط، بعيداً عن أيّة اعتبارات أخرى. من هنا صحيح أن القوميين بالعموم تلمّسوا بعض الوقفات السياسية التاريخية وسيّما ما أشارت لها الدكتورة العزيزة بأنها لم تكن منسجمة مع فكره وتطلعاته، لكنهم لم يفهموها أنها وقفة مع الغرْب ضد العرب مثلاً، وحتماً لم يكن القوميون من منبت الطائفة السنية يمتعضون من ذلك أكثر من غيرهم، فنحن في الحزب أيضاَ وأيضاً نسينا أننا مسيحيون لنتعاطف مع الغرب، أو مسلمون لنتعاطف مع العرب، وأصبحنا سوريين لا نسعى إلا لمصلحة سوريا رغم أن قيادات الحزب قد تخطئ بتحديدها والوقوف عليها.

إن انتقاداتنا للأخطاء التاريخية التي قد تكون قد ارتكبتها قيادات وإدارات الحزب (وهذا يلزمه مؤتمرات تقييمية موضوعية) لا يجب أن تدفعنا لوضع أسباب ونتائج غير موضوعية، تجافي حقيقة الروحية القومية التي زرعها فينا سعادة.

ثم تنتقل أثناء تحليلها لعوامل الانقسامات لتشير إلى أمر خطير، وهو وجود أساس فكري عقائدي لهذه الانقسامات ((يؤكد عدد من المثقفين القوميين أنه، رغم الانقسامات الحزبية، لا خلاف بين الأحزاب المنشقّة على المبادئ التي وضعها سعادة. لكن ذلك ليس صحيحاً، لا في الحزب ولا خارجه. فلا الإيمان بالقرآن وحّد المسلمين، ولا الإيمان بتعاليم المسيح وحّد المسيحيين، ولا الإيمان بماركس جمع الماركسيين، أو غيرهم من الأحزاب والملل، ذلك أن الخلاف والاختلاف يقعان في كيفية فهم هذه المبادئ أو الأديان. المبادئ موجودة، لكن الأعين التي تقرأها موجودة أيضاً، وهذه الأعين ملوّنة بحسب تربيتها وبيئتها. فالسعودي يرى دينه بمنظار الوهابي، والشيوعي يرى مبادئه انطلاقاً من موقعه الجغرافي، كذلك الأمر بالنسبة إلى السوري القومي الاجتماعي)).

هنا نجد الدكتورة صفية تجزم بوجود خلافات حزبية على أسس فكرية بالقياس إلى انقسامات مؤسسات دينية، أو سياسية أخرى، وهذا لا يجوز أو يستقيم مع المنطق! كان الأولى أن تحدّد وتشير إلى هذا التباين الفكري إن وجد كما تقول. لا، ليس من أساس فكري مبدئي لأي انقسام أو انشقاق حصل في حزبنا حتى الآن، بل كما أشرت، وعبّرت الدكتورة في ذات المقال بأن التنافس على السلطة في ظل تراجع الوعي العقائدي وتمثّل الأخلاق القومية، هو العامل الأساس في ما شهده الحزب بعد غياب سعادة.

ثم نجدها في ذات الشأن تقول: ((نجد على الصعيد الفردي إنجازات لا علاقة للإدارة الحزبية بها، منها الفكري ومنها المقاوم. وصدرت كتب من قوميين موالين لفكر سعادة، لكنهم يرفضون التركيبة الحزبية، وهم خارجها. ربما نستطيع تسميتهم بـ«حزب سعادة»، أي الموالين والمواليات لمبادئه، لا لمسيرة الحزب))

أعتقد هنا بعدم جواز إطلاق اسم “حزب سعادة” ولو على تيار من المثقفين القوميين ممّن هم خارج العمل المؤسساتي بسبب الواقع الحزبي الشاذ الراهن، فلا وجود لحزب سعادة دون مؤسسات، ولا ننسى قوله “إن إنشاء المؤسسات ووضع التشريع هو أعظم أعمالي بعد تأسيس القضية القومية”، هذا لا يعني أني أرى حزب سعادة موجوداً في أي تشكيل تنظيمي اليوم، لا… مع الأسف إن الحزب الذي أسسه سعادة هو في حالة إمكانية فقط في هذه المرحلة، وما نراه ما هو إلّا تشكيلات تنظيمية تتخذ من هيكلية حزبه شكلاً دون جوهر مع الأسف! من هنا اعتراضي على أي جهة تدعي “أنها حزب سعادة”.

الحل:

تؤكد الدكتورة صفية ((لقد فشلت التجربة الحزبية، لكن أفكار سعادة لا تزال تقدّم تفسيراً منطقياً للأحداث التي تلمّ بنا، كما أنها تعطي الحلول الواقعية لها.)) نعم، فرغم أننا قد نظلم التجربة الحزبية بالعموم حين نقول أنها فشلت، لكنها حتماً هي متعثرة وتحتاج لعملية إنقاذ بالعمق، هذا أمر حقيقي واقعي ضاغط علينا جميعاً، لكن لنناقش ما تطرحه من حل حيث تقول ((لا حل إلا بإنشاء تيار “سوراقي” هدفه ما طالب به سعادة عند عودته من المغترب في 2 آذار 1947)) بغض النظر عن التسمية، ماذا تقصد بالتيار السوري؟ أهو تيار ثقافي أم سياسي أم تنظيمي؟ ومن سوف يقوده ويوجهه، وهل لتيار غير منظّم أن يحقق انتصار قضية بخطورة القضية السورية القومية الاجتماعية؟!

من المفيد حتماً وجود هكذا تيار مؤيد لمبادئ الحزب وغايته وأهدافه، لكنه أيضاً لا يكفي، ولنتذكر حجم تيار المؤيّدين والداعمين للحزب في الشام بعد استشهاد سعادة، حادث واحد ذهب بمعظمه، ومن حافظ على بقايا هذا الوجود هو العمل المؤسساتي السري الذي نشأ بعد حادثة المالكي.

الحل.. كلنا، وأقصد القوميين المدركين لخطورة ما يمرّ به الحزب والأمة بالعموم، يجب أن نعمل له بالسرعة الممكنة، لكنه يجب أن يكون حلاً بالعمق المطلوب لاستمرار الحزب كما أراده سعادة، لا كما جرى سابقاً في مرات عدة، وفق سياسة المراضاة وتوازع الحصص! وهذا يقتضي تضافر جهودنا كلّها، فكلّنا مسؤول تجاه حزبنا المريض، وأخطر ما يمكن أن نكون نعاني منه هو ألّا يرى بعضنا أننا في حالة مرض خطير لا بل حيوي!!

لا حل منقذ برأيي إلا بإجبار القيادات التنظيمية المتعددة على دعوة كامل القوميين وأينما كان تموضعهم، تنظيمياً، أو ممّن هم معتكفون بسبب الانشقاقات الحاصلة، دعوتهم لمؤتمر فاعل نوعي، تاريخي، استثنائي، يُدرس فيه واقع الحزب أسباباً وسبلَ خلاص، والخروج بتوصيات ملزمة، وانتخاب قيادة حزبية من خارج القيادات التي ثبت دورُها السلبي في ما وصل اليه الحزب، ومن ثم تشكيل هيئات دستورية وقانونية تعكف على دراسات التعديلات غبّ الطلب التي حصلت للدستور، وتصويب كل الاختراقات الدستورية… باختصار إعادة المكنة الحزبية بكامل أوجهها إلى سكّة الفعل المطلوب، بذلك قد نستعيد الحزب نوعاً ومضموناً، ما عدا ذلك فستبقى يافطاتٌ حزبية شكلاً ذات مضامين فارغة فعلاً.

هذا الأمر، أي دفع القيادات الراهنة لإنفاذ هذه الدعوة، هو ما يجب برأيي مناقشته بالأسلوب المتناسب مع وعينا ومناقبنا.

سوراقيا:

تصرّ الدكتورة صفية أن سعادة غيّر اسم سوريا إلى سوراقيا، وهذا إعلان يجافي الحقيقة، فما قاله سعادة بعد أن استكمل دراسته وأجلى إبهام الحدود الشرقية (ضفاف دجلة) أن العراق هو جزء متمّم للأمة السورية، حتى لو اضّطررنا لتسميتها سوراقيا، كان من باب التأكيد أن لا شيء يقابل عدم الإقرار بضم العراق لها، إذ أنه الجزء الشرقي من الوطن السوري، ومعروف أن المنطقة بأكملها، ومنطقة ما بين النهرين من ضمنها اسمها سوريا الطبيعية، وفي شرحه بالمحاضرات العشر قال عن ذلك أن هذه المنطقة أسماها العرب الهلال السوري الخصيب.

ثم أن منطقة غرب سوريا تسمى بلاد الشام والدكتورة صفية تقول ذلك أيضاً، فكان الأولى أن تسمى وفق مبدأ الدمج اللفظي (شاموراقيا) لكن ذلك ليس منطقياً فسوريا الطبيعية تشمل كل هذه المنطقة وفق ما حدّدها سعادة، والعراق هو الجزء الشرقي منها. ومنه لم نلحظ أبداً أن سعادة بعد عودته من المغترب ذكر اسم سوراقيا بل سورية.

لا أدري ما القصد بإصرارها على ذلك! وأين تبدّى لها أن سعادة قد غير الاسم من سوريا إلى سوراقيا؟ وهو الذي عاد من مغتربه ليحيي الندوة الثقافية ويعود ليشرح المبادئ فيقول “سورية للسوريين .. وليست سوراقية للسوراقيين، القضية السورية .. وليست القضية السوراقية، مصلحة سورية وليست مصلحة سوراقيا. ثم ما الحكمة باستخدام اسم واضح من تركيبه أنه جمع بين منطقتين جغرافيتين ما يوحي بعدم الوحدة الحياتية التاريخية، وكأن هذا الإلحاق للعراق جاء بقرار وليس تصويباً للمعرفة العلمية التاريخية التي لم تكن مستكملة عند سعادة قبل ذلك. حتماً ليس الاسم هو القضية، لكن التساؤل لماذا هذا الزجّ باسم ابتكره سعادة ولم يتداول به مطلقاً.

 ثم هل التطوير المطلوب يبدأ من تغيير اسم الأمة؟ ولو غيرناه، هل ستحلّ معيقات عملنا الحزبي وننطلق بالسرعة المطلوبة في تحقيق نهضة أمتنا؟ ألم نرى في هذا الطرح تصويباً على غير الاتجاه الصحيح وإشغالاً للعقل في غير داع؟!

آمل أن أكون ساهمت بنقاش موضوعي حول النقاط التي أوردتها الدكتورة العزيزة صفية سعادة.

ماهر يعقوب

كاتب سوري

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق