الشرع الأعلى

متى لم يك الحق مغلوباً؟

سعاده: رجل عقيدة

لم يكن سعادة في يوم من الأيام سياسياً ولا اقتصادياً بالمعنى الذي نراه اليوم في ميدان التطبيق العملي. لم يكن يساوم ولا يرائي ولا يناور ولا يخاطب سطوح أحاسيس العامة والجماهير، بل ينفذ إلى أعماقها بصدقه ونزاهته… كان مجرداً من كل أسلحة السياسي التي ذكرها مكيافيلي بألمعية فذة. لم يكن يدعو إلى نمط من الإنتاج ولا إلى علاقة مادية محددة، ولا خطّط لربح ولا برمج لاستثمار ولا دعا إلى منظومة اقتصادية، ولا وعد بجنة… ومع ذلك نراه في أبهى صورة للسياسة الحقيقية وفي أرقى نظرية للاقتصاد. والسبب بسيط وهو أنه صاحب رؤية إنسانية صريحة واضحة لا مواربة فيها. وهذا ما نريد أن نقف عنده، لأن فيه، كما نرى، تكمن أهمية سعادة ومجده الكبير.

منذ آلاف السنين وحتى اليوم تتصارع ثلاث نظرات إلى الكون والمجتمع والحياة. النظرة المادية (أو النظرة الفراتية) والنظرة الروحانية (أو النظرة المصرية) والنظرة الأدبية (أو النظرة اليونانية) وتسعى كل نظرة إلى طبع كل شيء بطابعها، رابطة شرعيته بمقدار التزامه بها من سلوك، وأدب وفن وفلسفة. وكل نظرة ترى في نفسها طريق الخلاص. والملاحظ اليوم أن المهيمنين على السياسة الكونية يستغلون النظريتين المادية والروحانية إلى أبعد مدى لتسريب سياستهم وهندسة العالم وفقاً لمصالحهم. النظرة التي لا يستغلونها ولا يسخّرونها هي النظرة الأدبية. والسبب بسيط جداً وهو أنهم أعجز من أن يسوقوا مثل هذه النظرة لصالحهم. فلا عجب أن يتحالف الرأسمال والإيمان في القتال من أجل ترويض ما لم يروّض ومن أجل إقامة النظام العالمي الجديد. أما الأدب الحقيقي فلم يلوّث يده في هذه البؤر القتالية، بل أعلن عن موقف موحد هو موقف الإدانة.

النظرة المادية التي تجلّت قديماً في الفرات هي نظرة صريحة تقوم على تنظيم العالم مادياً لصالح القوة. والقانون الأساسي لهذه النظرة هو الاستملاك أي الحيازة المادية التي تصل إلى الاحتكار الكامل. هذه الحيازة المادية نعبّر عنها اليوم بصيغة أخرى لا تختلف عن الصيغة القديمة، وهي تحقيق أقصى درجات التملّك والربح بأسرع وقت ممكن… هذا هو القانون الذي يسير عليه العالم اليوم.

بإمكانكم أن تتصوروا ما ينجم عن هذه النظرة. ماذا يجر الاستملاك أو الحيازة المادية؟ يجر الاستلاط والاستبداد والاستغلال والإجحاف. وفي مثل هذه الظروف يحتاج الحاكم إلى قانون صارم، قانون يزعم أنه مقدس وإلهي لضبط العلاقات بين البشر. وكلما كثرت القوانين كثرت الضحايا. إن الحيازة المادية تطلق الميول الدنيا في الإنسان، مما يحوّل المجتمع إلى ساحة قتال ضارٍ مرير مدمّر. القانون دليل انفلات هذه الغرائز. لولا ذلك لما احتاج الإنسان لقانون. إنه يقوم على التنظيم المادي الصارم والردع الذي لا يعرف رحمة. فليس غريباً أن ينص القانون الفراتي على العين بالعين والسن بالسن والنفس بالنفس وغير ذلك مما نرى بقاياه حتى هذه الأيام.

الحاكم في هذه العقيدة المادية هو كل شيء على الإطلاق فهو يمتاز بكل صفات الآلهة من قوة وبطش وهيمنة وبسط سلطة حتى على الممتلكات الصغيرة الخاصة. وتروي الباحثة إديث هاملتون في كتابها «الأسلوب اليوناني» قصة الحملة الفارسية الأولى على اليونان حيث خيّم العسكر في الطريق ليستريح ليلته. فانتخى أحد المواطنين الأثرياء وقدّم وليمة لكل أفراد الجيش، وفرش مأدبة فاخرة أمام الملك. وفي هزيع متأخر من الليل طلب من الملك أن يعفي ثامن أبنائه من الحملة، حتى يسعفه ويبقى ذخيرة إذا ما هلك أبناؤه السبعة الآخرون في القتال. فلم ينطق مليكه بكلمة. وفي الصباح الباكر هبّ هذا الرجل وفي ظنّه أنه سوف يستبقي ابنه بعد كل ما قدّم، ولكنه رأى جسد هذا الابن وقد فلق نصفين، كل نصف معلق على جانب من جانبي الطريق مع لوحة تقول بأن كل شيء للملك: الإنسان وزوجه وأرضه، وأملاكه وأمواله وقطيعه. ومرّ الجيش بين النصفين حتى يتعلّم كل فرد منهم كيف يتعامل مع مليكه. فالقانون المفصّل والدقيق لم يحم المواطن ولم يردع الحاكم. وهذه هي القاعدة التي ماتزال سارية المفعول حتى يومنا هذا في شرقنا.

في الجانب الآخر، في مصر، كانت تتنامى عقيدة مخالفة كل المخالفة لهذه العقيدة، فالحياة فيها تبدأ حيث تنتهي العقيدة الفراتية، أي ما بعد الحياة الدنيوية، مما حوّل الأدب كله، أو معظمه، إلى أناشيد وتراتيل تضمن خلاص الروح في الدنيا الآخرة، كما يدل على ذلك «كتاب الموتى» وقد شاعت هذه العقيدة لدى عامة الناس وخاصتهم، فالاهتمام بالموتى شمل الجميع من الملك الفرعون حتى أطفال الفقراء. وظهرت عقيدة التثليث للربط بين هذه الحياة والحياة الآخرة. فالإله هو الخالق والمعين والمخلّص. وقد كان لهذه العقيدة الروحانية سطوتها حتى على الفراعنة، ففي نص أدبي بعنوان «الفلاح الفصيح» نرى فلاحاً لا يسكت عن حقه الدنيوي، بل يلحف في متابعة هذا الحق إلى أن يصل إلى الفرعون، فيشكو له عماله وكيف انتزعوا منه أرضه، فما كان من الفرعون إلا أن أمر برد أملاكه. ولكن كم من الفلاحين تمكن من مقابلة الفرعون، الإله المتجسد؟

لم تستطع أي من هاتين العقيدتين أن تتجنب ما نسميه حتى اليوم الاستبداد الشرقي، بل كانت العقيدة مسخّرة، رغم قوانينها المفصّلة، لتأييد هذا الاستبداد وإشاعته.

يقول بعض علماء الانتروبولوجيا بأن سبب هذا الاستبداد هو جغرافية هذه المنطقة، فهي تعيش على نهر أو نهرين فقط. وبما أن الفرد لا يستطيع شق الترع والقنوات، فقد قامت الدولة بذلك، فحازت على هذه السلطة الاستبدادية الشمولية. وهذا ما جعل أرسطو يقول إن الاستبداد ناجم من الطبيعة الشرقية، وجاراه في ذلك هيغل، وزاد ماركس وإنجلز في التحديد فنسباه إلى أسلوب الإنتاج الشرقي، أي تحكم الطبيعة في الإنتاج المادي.

لكن أحدث الكتب الانتروبولوجية ترى أن السبب يكمن في عنصر آخر. من هذه الكتب كتاب مارلين ستون «يوم كان الرب أنثى» حيث ترى أن المنطقة لم تعرف الاستبداد في عصر سيادة الأنثى، بل عرفت الحنان والتسامح. ففي تلك الفترة لم تقم حرب واحدة، ولا جرى اقتتال، بل كل شيء كان منظماً تنظيم الكفاية، لا تنظيم الاستملاك، فخدمة الهيكل والري والزراعة من تنظيم الأنثى، وترتيب المنزل من تنظيم الرجل. لكن ظهور العربات التي تجرها الخيول، أي العربات الحربية فجأة على يد من سمتهم «غزاة الشمال» غيّر صيغة الحياة. وما هؤلاء الغزاة سوى اليهود من العرق الهندو ـ أوروبي الذين قدموا الفرات ثم انتقلوا إلى كنعان فمصر، ومنذئذ انتقلت السلطة من الأنثى إلى الذكر، من العربة التي تجرها الأبقار إلى العربة التي تجرّها الخيول، وسادت عقيدة التملّك بدلاً من عقيدة العطاء.

بين الفرات ومصر تقوم منطقة كان يقال لها «الشرق الأدنى» وقد ظلّ اسم الشرق الأدنى في التداول إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية زهاء عشر سنوات. ثم اختفى الاسم نهائياً ولم يعد مستخدماً حتى في «الموسوعة العربية الميسرة» فهناك الشرق الأقصى والشرق الأوسط فقط. ولا ندري لماذا هذا الصمت أو الاستسلام للأمر الواقع، وكيف يقبل العقل وجود أقصى وأوسط وعدم وجود أدنى؟. إن من أبسط الأمور للعقل أن يؤمن بأن الأوسط لا يمكن أن يكون الأوسط من دون وجود الأقصى والأدنى. يبدو أن المشروع الغربي للمنطقة كان قوياً ساحقاً انتزع الألسنة، بعد غسل الأدمغة.

في هذه المنطقة اختلفت الأمور، لأنها كانت بين عقيدتين متناقضتين فأخذت منهما معاً وحاولت أن توازن بينهما. ولكن هذا لم يتم في المنطقة التي كانت قريبة إلى هذا الطرف أو ذاك. كان الشمال أقرب إلى الفراتية، وكان الجنوب أقرب إلى المصرية. لكن الهجرة الفينيقية من صور والساحل الكبير الذي كان يمتد حتى مصر، فعلت فعلها في اليونان. كان الإغريقي واحداً من اثنين إما قاطع طريق أو قرصان بحار. لكن بناء طيبة والمدن الأخرى على يد الفينيقيين أدى إلى تغير نوعي، فقد قامت عقيدة أدبية بكل معنى الكلمة. أدبية من التعامل اليومي حتى الآلهة. ولأول مرة في تاريخ البشرية تخضع الآلهة للأقدار، كما تنبأ بذلك بروميثوس أمام زيوس. فالآلهة صارت بشراً في مواصفاتها وتصرفاتها، بل إن كبيرها وعميد بانثيونها زيوس لا يختلف عن دون جوان في مغامراته العشقية.

وعندما عاد الإغريق إلى هذه المنطقة شاعت العقيدة الأدبية التي تقوم على الفنون والآداب. فهي أسلوب التربية الحقيقية والخلاص للجنس البشري. القانون للجهلة فقط، أما الأدب فيغني عن كل القوانين. وقد أدى هذا إلى توطيد عقيدة تقوم على الحق والخير والجمال. وهي قيم لا سقف لها، كما رسخت التقاليد الرياضية والفنية الأخرى وأنشئت المسارح التي تعد بالعشرات وتتسع لعشرات الألوف.

يرى «ول ديورانت» أن بلاد الإغريق أصيبت باضطرابات قبلية ومشاحنات اجتماعية عطلت إمكاناتها فتهاوى المحصول الزراعي إلى أدنى حد. ولما بحثوا عن السبب وجدوه في المسرح، فعدم إقبال المواطنين على المسرح نمى فيهم الغرائز الذنبية فانخرطوا في الصراعات المادية السخيفة. فما كان من المسؤولين إلا أن زادوا مكافأة المواطن الذي يأتي إلى المسرح بمقدار ضعفين، فتهافت الناس واستعادت البلاد عافيتها. فكل اقتصاد مادي لا يخضع لترشيد الاقتصاد الأدبي يصبح أداة تدمير وإفساد وتشويش. ولذلك جعلوا المنافسة تنحصر في القيم المعنوية لا في القيم المادية، في الاقتصاد الأدبي لا في الاقتصاد المادي ولا في الاقتصاد الروحاني. والاقتصاد الأدبي هو الاقتصاد الذي يعرف كيف يوازن بين الحياتين المادية والروحانية. إن الحديث عن إنسانية الإنسان يصبح نافلاً تماماً من دون الاقتصاد الأدبي الذي يهذب الغرائز الدنيا ويمنع التهافت على الحيازة المادية التي إن شاعت انتشرت معها الحروب والفتن والاستغلال والاستثمار والقمع والاستبداد والتسلط وغياب أي لون من ألوان الحرية. الحرية هي دائماً وأبداً حرية أدبية لا حرية مادية، وعندما نطلق العنان للحرية المادية، نحصد الحروب والقتال، وعندما نتيح المجال للحرية الأدبية نحصل على السمو، والرفعة، والعزة والكرامة. الحرية المادية هي علاقة المذِل بالمذَل، والحرية الأدبية هي علاقة المتطلع إلى السمو مع منافسه إلى المزيد من السمو، وبذلك تتحقق وقفة العز التي حدثنا عنها الزعيم أنطون سعادة.

إن سعادة هو ابن هذه المنطقة التي سعت، ويجب أن تسعى، لتوطيد القيم الأدبية، لا المادية. إنه صاحب العقيدة الأدبية السامية وابنها في آن معاً. خاطب سعادة النفس البشرية بالقيم الأدبية فقط. ولكن هل هناك قيم مادية؟؟ في كل كتاباته لم يتحدث عن الاقتصاد المادي. لم يوص بإقامة المشاريع والمؤسسات والمنظمات والاقتصاديات المادية، ولا دعا إلى بلاد تسعى إلى الحيازة المادية، ليقينه أن هذا الاتجاه سوف يؤدي إلى انهيار القيم. فلا مشاريع ولا مؤسسات ولا اقتصاديات فيها نفع أو خير أو عطاء أو تقدم إن لم تشرف عليها نفس عزيزة كريمة تهفو إلى السمو، تريد أن تنافس الآلهة كبرياء وشموخاً وترفعاً. من دون خلق هذه النفس، أو بالأحرى من دون تربية النفوس على العزة والكرامة والقيم السامية العليا من حق وخير وجمال، لا يمكن أن نجني فائدة من أي مسعى مادي مهما كان. كل حيازة مادية تتجرد من الحق والخير والجمال تصبح شراً على البلاد. فالاقتصاد المادي عند سعادة تابع كل التبعية للاقتصاد الأدبي.

إن فقدان الحق والخير والجمال يحيل أي عمل إلى فعل منحط متدنٍّ، ويحيل البشر إلى حيوانات أليفة منصاعة أو وحوش مستبدة شرسة. العمل المادي هو من أبسط الأمور وأسهلها مهما كان. المشكلة ليست فيه. الثور من أعظم الأبطال المنتجين الماديين في القديم، والثور الآلي في هذه الأيام هو أيضاً من أعظم الأبطال المنتجين الماديين. ولكن ماذا يعني ذلك؟ لا شيء. المشكلة ليست في الإنتاج أبداً، بل في تسخيره: لصالح أي القيم نسخّره؟ هل نسخّره لاستعباد الأفراد والشعوب أم نسخّره من أجل العزة والكرامة والتسامي، من أجل مشروع ألوهية الإنسان. هذه هي المسألة الأساسية في عقيدة سعادة. وفي آخر كتاب ترجمناه في أحدث العلوم وهو كتاب «الطاوية والفيزياء الحديثة» يقول المؤلف فريتجوف كابرا بأن العمل في الفيزياء ينذر بكارثة إن لم تقم القيم الأدبية بضبط هذا العمل وتوجيهه لصالح البشرية. من دون ذلك تكون البشرية قد أقدمت على نحر نفسها بتهافتها المادي. إن نظرة سعادة ليست نظرة محلية ولا إقليمية، بل نظرة عالمية لها معسكرها الأدبي في كل أرجاء المسكونة.

من هذا المنطلق يجب أن نفهم المدرحية. إنها ليست مجرد دمج كلمتين هكذا من دون استهداف. إن المدرحية ليست اقتساماً تناصفياً. إنها لا تنظر إلى الأشياء على أنها مادية وروحية أبداً، بل إنها ترتبط بالإنسان وحده، بتربيته وتثقيفه وإعداده نفسياً، إنها مثل بيضة القبان التي تقع بين طرفين هما المادة والروح، فتميل إلى اليسار بمقدار ما يميل الطرف الآخر إلى اليمين حتى لا تنزلق النفس البشرية إلى المادية أو الروحانية، ففي كلتيهما دمار وانتحار. إن المدرحية هي الموقف الأدبي بين المادة والروح، هي الاقتصاد الأدبي بين الاقتصاد المادي والاقتصاد الروحاني. إنها الترشيد الواعي للإنتاج المادي والروحاني.

عندما ظهرت مجلة «الجيل الجديد» كانت تحمل شعاراً تحت عنوانها هو الحق والخير والجمال. هذه هي الاستراتيجية الكبرى لسعادة. وعندما خصص سعادة للفنون عميداً قام لأول مرة في تاريخ الشرق، كل الشرق، بعمل لا عهد للبشر به في هذه المنطقة. كان يدرك تمام الإدراك أن الناس، كل الناس، في أي مكان وزمان، بحاجة إلى القيم الأدبية. إن عمله هذا يذكرنا بنصيحة بروميثوس لابنه ديوكاليون قبل الطوفان. قال له بأن البشرية فسدت وأن الآلهة أزمعت بكل تصميم على إبادة هذا الجنس الفاسد المفسد. ونصحه بأن يبني فلكاً حتى ينجو من الطوفان. ولكنه قال له بأن الفلك سوف يرسو على قمة البرناس. وهناك يجب أن يتعلم من ربات الفنون كل آدابها وفنونها. وعندما سأله يوكاليون عن السبب، أجابه: حتى لا تعود البشرية التي ستنجبها سيرتها الأولى فتنسى الفن وتفسد فيغضب منها زيوس وبقية الآلهة، فتتعرض للإبادة مرة أخرى. فالبشرية التي لا تطالها الآلهة هي البشرية التي تتعلم من ربات الفنون فنونها.

هذا هو جوهر عقيدة سعادة. إنها عقيدة أدبية، لا تفرض سلطتها عن طريق مؤسسات وتنظيمات وتغيير قناعات بشتى الأحابيل، بل تفرض سلطتها بما فيها من دعوة إلى السمو والارتفاع فوق مستوى الحيازة المادية، فوق هندسة العالم مادياً… إنها دعوة تعمل على هندسة العالم جمالياً. وهذا الجوهر هو الذي جعل من سعيد عقل شاعراً من أعظم الشعراء الذين عرفتهم البشرية، إن لم نقل إنه أعظمهم طراً. إنه رجل يدعو إلى المنافسة الأدبية من أجل السمو، من أجل التفوّق، ليس في مضمار الاكتناز المادي، بل في مضمار الاكتناز الأدبي. يعمل ويناضل حتى لا تتحول البلاد إلى ورشة للعمل المادي. حتى لو نجحت هذه الورشة، فإن الشاعر العظيم سوف يرفضها إذا افتقدت الترشيد الأدبي والنزوع إلى السمو، لعلمه أن أعظم ورشة مادية قد تعصف بها أزمة عابرة. أين الآن مؤسسات القرن التاسع عشر المادية؟ كلها ذهبت أدراج الرياح بعد أن جرحت وجه الطبيعة الجميل وشوهت الوجود الإنساني الذي يجب أن يكون وجوداً شعرياً. كم يبلغ عمر الورشة أو الشركة أو المؤسسة أو المشروع؟ عشر سنوات، عشرين؟ خمسين؟ إنها أعمار من أقصر الأعمار. إن المؤسسات المادية زائلة. وجدت لتدمر وتخرب وتفسد النفوس ما لم تهتد بهدي العقيدة الأدبية الخالدة وحدها. إن شعباً يعجز عن إنتاج اقتصاد أدبي، إنما هو شعب حكم على نفسه بالانحطاط إلى مستوى خفيض، حكم على نفسه بالانتحار، فإما أن ينتحر بالنزعة المادية، أو ينتحر بالنزعة الروحانية، في الأولى يموت في الصراع، وفي الثانية يموت في الضياع، إذ لا خلاص إلا بالاقتصاد الأدبي الذي يرشدنا في كل شيء: من إنتاج الإبرة والخيط إلى إنتاج الخيال الأدبي، أسمى إنتاج عرفته البشرية.

إننا اليوم أحوج ما نكون إلى النظرة السامية لسعادة، فالعالم منقسم الآن كما كان منقسماً من قبل إلى معسكر مادي ومعسكر روحاني ومعسكر أدبي، لكن الفارق بين اليوم والأمس البعيد أن المعسكر المادي بات طاغياً جارفاً يعتمد أدوات مخيفة من مادية وروحانية، وأن المعسكر الأدبي بات محاصر في هذا الخضم. وفي الوقت الذي تتكاثر فيه أسلحة الخصم المادية لحيازة العالم حيازة مادية صرف، لا يوجد بين يدي المعسكر الأدبي سوى سلاح واحد هو هذه النظرة السامية العالمية، إنها الوسيلة والرهان الوحيد، وإلا فإنّ علينا إذا ما افتقرت البشرية إلى السمو أن نفتش لها عن اسم آخر، مثل مجتمع الخرارتيت، كما يرى يوجين يونسكو، أو معسكر الدخان والسخام، كما يرى د. هـ. لورانس. فإما وقفة عز وإما لا شيء، فمن دون هذه الوقفة لا نحصل على شيء ولو ملكت يميننا الأرض ببراريها وبحارها.

تحدثت مارلين ستون عن غزاة الشمال وتحدث سعادة عن غزاة الغرب، ومن قام بالغزوات الأولى هو نفسه الذي قام ويقوم بالغزوات الأخيرة. الغزاة الأوائل ظهروا عليها بالعربات التي تجرها الخيول. وقاموا بتغيير المنطقة لصالحهم، وسعوا إلى توطيد سلطة الطاغوت المادي. والغزاة الأواخر الذين تحدث عنهم سعادة جاءوا من الغرب وظهروا علينا بأسلحة الدمار الشامل. وما لم ننطلق من جوهر عقيدة سعادة في بناء نفس أبية، نفس نبيلة، نفس تتحسس الحق والخير والجمال، فمن المحال أن نقاوم ولم امتلكنا أضعاف ما يمتلكون من الأسلحة. البناء يبدأ من النفس. وعندما تعد النفوس الأبية النبيلة المتحسسة للحق والخير والجمال، لا يعود أي شيء آخر مهماً، فهذه النفس تعرف كيف تتصرف وماذا تستهدف وكيف تنتصر.

جاءت نظرة سعادة من التاريخ، وهذا أمر واضح، ومن تاريخ هذه المنطقة بالذات، وهذا أمر أشد وضوحاً، ولكنها الآن خرجت من سلطة التاريخ ومن إطار المنطقة. إن التاريخ الذي أوجدها لم ولن يستطيع أسرها. صارت كائناً مستقلاً له وجوده الخاص. والمنطقة التي أنجبتها تقدمها اليوم لكل الناس. إنها نظرة في منتهى البساطة، خلاصتها أن تعلموا السمو فقط، وتنافسوا فيه. والمنافسة صراع وتدمير في كل شيء إلا في السمو… هنا يبدأ البناء الجديد والمجتمع الجديد، والجيل الجديد…

عندما نصل إلى هذه المرحلة، أي مرحلة العمل من أجل السمو، لا خوف بعد ذلك على السياسة والاقتصاد والفلسفة، ولا حتى على أبسط المنتجات المادية أو الروحانية.

يعتبر السمو عند سعادة هو البناء التحتي، البناء الأساسي، البناء الأولي والبديهي، وليس الاقتصاد والإنتاج المادي، بل إن هذا الاقتصاد نفسه هو البناء الفوقي التابع، وليس البناء التحتي المتبوع، فلا تبعية إلا للسمو فقط. بإمكانكم أن تقرؤوا هذا في أي إنتاج، فالصاروخ والذرة والأسلحة الشاملة في هذه الأيام هي بنية فوقية تعبر عن نفسية ليس هدفها السمو، بل إذلال الآخرين من أجل حيازة مادية وبسط سلطة تعسفية. إن الإنتاج ليس الأساس، بل التابع الذي يحمل معالم القاعدة التحتية وهي النفس. لا يوجد إنتاج من دون أن تقبع خلفه دوافع تحركه وتوجهه. وما كل الدوافع سامية.

لأول مرة في تاريخ الشرق يجري التأكيد على هذه الناحية التي تعتبر نقطة انطلاق نظرة سعادة الإنسانية. إن ضياع السمو يخلق الفوضى. مثلاً إذا ضاع السمو من القوة تحولت إلى استبداد، وإذا خلا السمو من الواجب تحول الواجب إلى تبعية، وإذا حذفنا السمو من النظام تحوّل النظام إلى قمع غاشم… وهكذا نرى أن فقدان السمو القائم على الحق والخير والجمال يبرز في الفرد أكثر مما يبرز في المجموعات، ولكنه في نظرة سعادة عبارة عن ظرف عام يجب أن يجري إعداده ليشمل النهوض العام في المجتمع. ولذلك نرى سعادة قد أضاف إلى اسم الحزب كلمة الاجتماعي، ليؤكد أن السمو هو الملاط الذي يجب أن يمسك هذا البناء الذي يسمونه المجتمع. والسمو لا يكون إلا بالمنافسة، وهي المنافسة الوحيدة المقبولة في نظرة سعادة، فهي التي تزيد من الأرقام القياسية للسمو الذي لا سقف له. بالمنافسة تظهر الفروق الفردية، وهي الفروق الوحيدة التي يقبلها سعادة، وفي غير هذا فإن الفروق ضارة مفسدة.

المنافسة في السمو مفتاح بناء المجتمع الجديد الذي أراده سعادة. ولهذا السبب لم يحدد نوع الاقتصاد ولا نوع التفكير ولا نوع العلاقات الاجتماعية… المهم أن نخلق السمو وأن نوجد المنافسة في السمو، وبذلك يزدهر اقتصاد إنساني وتفكير إنساني وعلاقات اجتماعية إنسانية.

ومن هنا نقول إن عقيدة سعادة هي عقيدة منفتحة، إذ ليس للسمو سقف. إن سقف السمو في ارتفاع دائم ما دامت المنافسة تجري في هذا المضمار. ومجتمع سعادة هو مجتمع منفتح لا يجوز ترسيمه وفق وصفات جاهزة مسبقة الصنع. ومن هنا ندرك سبب اهتمام سعادة بالجيل الجديد، لأنه ـ إن سار على عقيدة سعادة في السمو ـ يرفع السقف أعلى فأعلى.

سعادة صاحب عقيدة السمو، سيحيا حيث تكون هناك منافسة من أجل السمو. إنه رجل عقيدة حقيقية إنسانية رفيعة المستوى، بعيدة المطامح، تسعى بإخلاص لإنقاذ التاريخ من قذارته المتعفنة.

——————-

تنويه: هذا النص هو بالأصل محاضرة ألقيت في بلدة ضهور الشوير، من ضمن برنامج ندوة ” أنطون سعادة وتحديات الألفيّة الثالثة”، وذلك بمناسبة الذكرى الخمسين لاستشهاد سعادة. مصدر النص: المؤلف.

 

حنا عبّود

ناقد ومترجم وأديب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق