ألواح غزّة
ما يحدث في غزّة ليس حرباً!
ما يحدث، هو أحد الانفجارات الكبرى للتاريخ.
انفجارٌ كبير للتاريخ، بوقائعه وأوهامه، بحقائقه وأكاذيبه، بسرديّاته الشائعة ومعانيه السائدة.
انفجارٌ.. ومن ثم انكشافٌ وعريٌ تام، لا ورقة توت تستر عورة فضّاحة مهما تجمّلت، ولا قناع يُخفي الأنياب الداشرة الناشبة التي يصعب عليها التراجع خلفاً للاختباء خلف ابتسامة (حضاريّة!) سمجة.
الحدث في غزّة، بمكوناته كلّها، يبدو كاكتشافٍ لـ (كنز مفقود)، ليس في الواقع سوى تلك الحقائق التي يتوالى ظهورها، وتلك المعاني التي تُستعاد عن مسألة عنوانها: فلسطين، عنوان عَبَرَ القرن العشرين والتهب مجدداً شعلة تُرى من كل بقاع الأرض.
والحدث في غزّة، وبالمكونات نفسها، يبدو كانكشافٍ غير مسبوق لذلك السؤال الكبير عن هذه الدولة غير المسبوقة بطبيعة وكيفيّة ولادتها: إسرائيل، عن مدى قدرتها على التطبيع مع قوانين التاريخ، وعن وجودها ومصيرها ووظيفتها في هذا العالم؟
كنز غزّة هو (ألواح غزّة)، ليست تلك التي يُنتظر هطولها من السماء، بل تلك التي بدأت تظهر من الأرض – الواقع، منذ أن اخترقت (حماس) غلاف غزّة الكتيم وأسوار المستوطنات، لتباشر بعدها آلة التدمير الاسرائيليّة سحلها للأرض والحجر والبشر، وصولاً إلى هذه اللحظة التي يسجّل فيها عدّاد القتلى الإسرائيلي العدد: 20,891 (هذا العدد مسجّل يوم السبت 23 كانون أول 2023، الساعة السادسة مساءً. يُفترض العودة إلى عدّاد القتلى مع كل قراءة لهذا المقال).
اللوح الأول
خوارزميّات العنف
سيُوصف العنف الإسرائيلي الذي تقع تحته غزّة الآن، بصفات التوحّش، وصفات الإبادة الجماعيّة، ثم سيُوصف بكونه غير قابل للوصف! لأنه غير مسبوق، منذ الحرب العالميّة الثانيّة، التي شهدت عمليات إبادة جماعيّة وعمليات تدمير منهجي للمدن كانت ذروتها في هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين المتفردتين تاريخيّاً بتلقي القنبلة الذريّة الأميركيّة.
على أنَّ العنف الإسرائيلي يُعاير زمنيّاً بكونه (غير مسبوق)، ليتبدّى بأنه مسبوق فعلاً من حيث درجته والآثار التي يسببها والخسائر البشريّة التي يوقعها، مسبوق بعمليات الحرب العالميّة الثانيّة وبغيرها من الحروب التي وقعت في فيتنام وكمبوديا والعراق ولبنان وأفغانستان… وغيرها. ومع ذلك هو عنف غير مسبوق إطلاقاً. لماذا؟
يعود العنف الإسرائيلي الراهن في طبيعته وكيفيّة تعبيره عن هذه الطبيعة إلى مرجعيّة إيديولوجيّة سياسيّة – دينيّة، عبّرت عنها الحركة الصهيونيّة من لحظة تأسيسها في نهاية القرن التاسع عشر وخلال مسيرتها كلها، على أنَّ المستجد في هذه الأيديولوجيا الآن أنّها دفعت بمعناها نحو الأقصى، إلى المرحلة التي لم تعد تجد في الفلسطيني عدوها (الشرير والإرهابي والقاتل) وحسب، بل (حشرة) فائضة على الطبيعة، ويُفترض إبادتها…!!
بالطبع تكرر هذا الوصف ومرادفاته للفلسطيني قبل أن تبدأ العمليّة العسكريّة، وكانت وظيفته الأولى تجريد الفلسطيني من صفاته الإنسانيّة، بتحويله إلى (حشرة – حيوان) ليستتبع وظيفته لاحقاً بتجريده من صفاته الجديدة التي وإن كانت (حيوانيّة) غير أنها أبقته ضمن عالم الكائنات الحيّة، وهذا غير كافٍ، فتم تجريده منها عبر تحويله إلى (هدف) له صفات (الشيء)، ما يجعله قابلاً للدخول في مجال اللعبة العسكريّة المجرّدة غير المحكومة بالشروط التاريخيّة وسيرة الحروب وقوانينها، على التوازي مع (لاعبيها: السياسيين والعسكريين) الذين يلعبونها وهم مجرّدون من الشروط الإنسانيّة وطبيعة البشر وأحاسيسهم وما يتحكّم بتصرفاتهم وسلوكهم.
وفق هذا التسلسل، أنتجت إسرائيل المكونات المجرّدة التي ليست سوى معطيات كافية لتشكيل مصفوفات خوارزميّة تم اعتمادها في المختبر (الإيديولوجي – السياسي – العسكري – التقني) لإنتاج أبلكيشن -application تطبيق غزّة، وبالطبع أكدّ هذا المختبر على أنَّ (حماس) هي من تحظى بـ (شرف) تدشينه في السابع من تشرين أول 2023.
في أبلكيشن غزّة، ستتحكم الخوارزميّات بمختلف العمليات التي تجري. سنرى ولأول مرّة مثلاً (وهذا غير مسبوق) أنَّ (اللاعب الإسرائيلي – الضابط) يهدي ابنته في عيد ميلادها شريطاً من (فيديو الواقع) يوثّق في خلاله كيف يقوم بتدمير مسجد أو منزل أو حي فلسطيني تدميراً تاماً، سيكون حريصاً على إبداء سعادته بهذه الهدية غير المسبوقة! وسنرى لأول مرة أيضاً (وهذا غير مسبوق) أنَّ لاعباً ثانياً يخصص رصاصة واحدة لقتل اثنين، أو إصابة هدفين (امرأة وجنينها)، وسيبدو متشاوفاً بوصوله إلى هذا المستوى الاحترافي من (اللعب)!
أمثلة تفرضها المنهجيّات الخوارزميّة كحوادث إجبارية في عملية السباق على جمع النقاط بتدمير أكبر عدد من الأهداف سواء أكانت هذه الأهداف ثابتة بطبيعتها (منازل – مدارس – مستشفيات…) أو متحركة مثل (البشر) لضرورات اللعبة ولزيادة درجة التشويق لللاعبين!!
يتضح من الكيفيّة التي تفرضها الخوارزميّات على اللاعبين أنَّ الغاية النهائيّة هي الوصول إلى إفناء الحياة على المساحة المعروضة في الابلكيشن والتي تأخذ اسم غزّة، وبهذا المعنى ستأخذ الأهداف قيماً متباينة بالنسبة لهذه الغاية. فالمستشفيات مثلاً تعتبر أهدافاً عالية القيمة يتسابق اللاعبون لتدميرها بكونها تسرّع في عملية الوصول إلى الغاية، ويأتي بعدها المدارس التي تديرها الأمم المتحدة (الأونروا)، فيما المساجد والجوامع تأخذ قيمة مضاعفة بكونها تذكّر بالعنوان المفتاحي: طوفان الأقصى. الكنائس و(الأماكن المسيحيّة) يتم استهدافها لقتل الوهم بأنها خارج منظار القنّاص الإسرائيلي، منذ أن قرر هيرودوس استهداف أطفال بيت لحم منذ أكثر من ألفي عام.
التدمير المنهجي للمساحة – غزّة سيتواصل على مدار الوقت، غير أنَّ اللاعبين لن يكونوا بمأمن من هؤلاء (الأشباح) الذين يظهرون من تحت الدمار! يتضح تماماً أنَّ الخوارزميّات لم تتمكن من ترتيب مصفوفات محكمة للتعامل مع أمكنة إقامة الأشباح، والتي ليست سوى الأنفاق. سيُلحق الأشباح أضراراً بالغة بالتطبيق ومن يلعب به، والضرر الكبير سيكون بالتشكيك في قدراته ومدى مصداقيته… الأمر الذي يخضعه لعمليات الترميم والتعديل الدائمة، على التوازي مع عمليات الدعم الكبيرة والمتواصلة التي يتلقاها من (آلهة التكنولوجيا وآلهة السلاح).
رغم ذلك تتواصل عمليات تدمير الأشياء الصغيرة أسوة بالأشياء الكبيرة، وهذه (الأشياء) ليست سوى البشر (الفلسطينيون) أطفالهم وكبارهم، نساؤهم ورجالهم. لا تميز الخوارزميّات الطفل عن البالغ سوى بالحجم فقط، فالطفل (شيء) صغير والبالغ (شيء) كبير!
على هذا النحو، تقدّم إسرائيل (النموذج المستقبلي) للحروب في العالم، والذي لا يمكن الأخذ به دون مرجعيّة إيديولوجيّة، وجدت فرصتها في هذا العالم المنفلت دون ضوابط أخلاقيّة ودون أعراف عامة، لتقوم بذلك التجريد التام الذي يحيل الحياة بمكوناتها إلى عالم من الرموز، التي يمكن اقتناصها وبسهولة بالغة من المختبرات التقنيّة فائقة الشهوة التي تعيد إنتاج العالم برمته وفق منهجيات خوارزميّة تتعدل على مدار الساعة للوصول إلى مرحلة إنتاج نفسها كـ (خالق) لما يراه يستوجب الحياة، وكصاحب الحق والقدرة في تدمير (مخلوقاته).
في هذا نجد (غير المسبوق)، في عدم رؤية البشر كبشر، في تحويل الفلسطيني إلى شيء – هدف، يجب تحييده من الحياة قتلاً وتدميراً أو إبعاداً ونفياً، فالمساحة التي يتيحها الأبلكيشن ليست مبرمجة ليكون فيها.
إنْ انتهت اللعبة وفق منطق الخوارزميّات… ستبدأ لعبة متممة يتم التسويق لها تحت اسم: أبلكيشن إعادة الإعمار…!
—————-
يتبع: اللوح الثاني…
إلى متى ستكون هذه التطبيقات على حساب شعبنا وأطفالنا ومستقبلنا.
ستبقى… طالما شعبنا ضائع وأسير ثقافة عتيقة وينتج كيانات كسيحية وأنظمة متعودة على الانتصار على شعبها … عليه وحسب!