العالم الآن

ألواح غزّة

اللوح العاشر:انتصارٌ وهزيمة، انظر إلى برّ الشام... هل انتهت الحرب!

-1-

بدأ سريان وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله في الساعة الرابعة من صباح يوم الأربعاء الواقع فيه 27 تشرين ثاني 2024. لم تكد تنقضي لحظات قليلة لتبدأ بعدها “مبارزة” إعلاميّة شديدة ومتواصلة بين من يرى أنَّ حزب الله ومعه محور المقاومة قد خرج منتصراً، وبين من يراه قد خرج مهزوماً من هذه المعركة التي بدأها حزب الله كـ “معركة إسناد” لـ “طوفان الأقصى” الذي نفذّته حركة حماس في 7 تشرين أول 2023، لتغيّر إسرائيل ابتداءً من 17 أيلول 2024 طبيعة ورتابة “معركة الإسناد” التي استمرت على مدى أقل من عام بقليل، بشنها هجوماً كبيراً على لبنان من جنوبه إلى البقاع إلى بيروت.
كيف تلتبس الصورة إلى هذا الحد؟
كيف أرى “المشهد نفسه” انتصاراً، فيما تراه أنت هزيمة؟!
ولماذا؟
لا يكمن حلُّ هذا “اللغز” في محاولة الجواب على هذا السؤال – المفتاح بإيراد الحجج والبراهين من ظواهر الواقع وقراءتها وحسب، بل يبدأ بالمصادقة على أنَّ ما رأيته أنا انتصاراً لي هو فعلاً المشهد الذي رأيته أنا تماماً، وعلى أنَّ ما رأيته أنتَ هزيمة لي هو فعلاً المشهد الذي رأيته أنتَ تماماً.

-2-

يعود نشوء هذا التناقض التام في رؤية وقراءة (واقع – مشهد) واحد، إلى أننا لسنا مجتمعاً موحداً، فـ لبنان مثلاً، يُعرّفُ كإطارٍ لـ (جماعات طائفيّة – مذهبيّة). إطار مدعّم بميثاق التعايش 1943، ومجدد باتفاق الطائف 1989. إطار في بنيته مضادٌ للوحدة الاجتماعيّة، يتباهى بالتنوع فيما يُنتج دائماً عوامل التناقض والصدام. إطار ليس سوى مصنعاً لإنتاج الثقافات المتواجهة التي تعمل، كل واحدة منها، بطاقة عظمى وتتوسّل كل السبل التي تبقيها على وضع تناقضي مع مجاورتها.
لا تعود خطورة هذا التناقض إلى طبيعة ارتباط (الجماعات) بمرجعيّات خارجيّة وحسب، بل إلى كون كل واحدة منها تستقل بـ (سرديّة) خاصة بها، سرديّة عن نشوئها ومسارها وطبيعة ثقافتها وتمايزها المطلق عن غيرها. سرديّة تؤكد أنَّ لها (تاريخاً مستقلاً) يحفظها ويصونها.
على هذا النحو، أسست كل واحدة من جماعاتنا الطائفيّة والمذهبيّة تاريخها الخاص، لا يتقاطع أي منها مع غيره إلاّ في حقلين، الأول هو ما تسميه الحقل الميثاقي الذي تتشارك فيه الجماعات في تبادل حماية نفسها وأشباهها والوقوف معاً في وجه أي تهديد يتجه لتغييرها من جماعات مستقلة متناقضة إلى جماعة موحدة واحدة، والثاني هو الحقل العنفي الذي تتواجه فيه هذه الجماعات في جولات من الحروب الموصوفة بالأهليّة والتي تعزز من رصيد التاريخ الخاص بها، حيث تنتج هذه الحروب شهداء وجرحى وتدمر مدن وبلدات وتشرد عائلات وتغيّر وتحرف مستقبل الأجيال، لتزيد الأثقال التي تحملها سرديتها التاريخيّة التي تساهم في دعمها وتقديم كل ما يعزز وضعها بكونها جماعة مستقلة وعلى خط موازٍ لغيرها في وضع تراه تعبيراً عن وجودها وهويتها.
يمكن القول، وبوضوح تام، إنَّ شعبنا موزع على جماعات مستقلّة، لكل واحدة منها سرديتها الخاصّة المؤكدة لتاريخها الموازي لتاريخ غيرها.
نحن الآن في لحظة يغيب فيها التاريخ الواحد الكلّي، ونخضع لـتعددية (التاريخ الموازي) الخاص بجماعاتنا الطائفيّة والمذهبيّة والأثنيّة، ومن ثم السياسيّة.
تفكيك “لغز” الانتصار – الهزيمة، يبدأ من هنا، من المناظير المتوازية التي لا يمكن أن تلتقي إلّا وفق ناموس وجود الجماعات، المشكّل من قطبي التعايش والتقاتل.

-3-

الآن، هل ثمّة تسرّع في قراءة ما آلت إليه المواجهة الأخيرة في لبنان؟
تسرّع مِنَ الذي رأى في المشهد انتصاراً؟
تسرّع مِنَ الذي رأى فيه هزيمة؟
بلى، هو تسرّع مؤكِدٌ في الوقت نفسه على أنَّ الحرب لم تصل إلى نهايتها بعد، رؤية الانتصار أو الهزيمة هنا تأتي في سياق استمرار الحرب وليس معايرة مشهدها الأخير، والذي في الحالات كلها لم يرتسم بعد.
لا زلنا، في قلب الحرب، وإنْ في مشهد جديد لها.

-4-

لا يمكن وصف (وقف إطلاق النار) بأنه نهاية الحرب، ولا حتى نهاية معركة. ولكنَّ الذين وضعوه وصاغوه وفرضوه، يحاولون الوصول إلى واقع جديد خلال مدة الـ (60) يوماً، التي تشكّل عمره. في خلال ذلك ستخاض المعركة بفصول سياسيّة قد تحتدم لتنقلب إلى عسكريّة متقطعة أو تنتكس إلى مواجهة مفتوحة.
بوضوح تام:
اتفاق وقف إطلاق النار، بمضمون بنوده، وبملاحقه وتفاهماته، وبـ “السلّة السياسيّة” المرافقة له، يحمل العديد من المؤشرات التي تؤكّد أنَّ لبنان، إنْ نفذها كلّها، سينتقل إلى وضع جديد مختلف مغاير لما هو عليه ليس منذ اتفاق الطائف وحسب، بل وربما إلى الوضع الذي كان عليه عشيّة اتفاق خط الهدنة في العام 1949، مع تعديلات إضافيّة مستجدّة لم تكن موجودة حينها.
ماذا يعني هذا الكلام؟
إنَّ إيلاء الجانب الأميركي موقع رئاسة اللجنة الخماسيّة، ومسؤوليّة ترجمة (عموميات) بنود الاتفاق إلى (تفاصيل) نهائيّة لا شياطين فيها، يعني أنَّ الولايات المتحدة بصدد (إعادة تدوير) لبنان على النحو الذي يجعل (لبنان الميثاقي) فقط، والذي قوته في ضعفه هو لبنان ما بعد الاتفاق.
لكن، لا يمكن إعادة تدوير لبنان، دون إعادة تدوير حزب الله. وهي عملية، تتجاوز الترتيبات العسكريّة الخاصّة بجنوب الليطاني وشماله. هي انقلاب كامل يعني نظرياً تسليم حزب الله لسلاحه وتغيير “عقيدته الجهاديّة” واكتفائه بمذهبيّة خالصة تمارس العمل السياسي التقليدي وتضعه إلى جانب إخوانه من الحركات والأحزاب المذهبيّة والطائفيّة الأخرى المنضوية في إطار لبنان الميثاقي، ليأخذ حصته منه كشريك متجانس لا كحالة مختلفة ومغايرة بعنوان: المقاومة.
هل تحويل هذا الإطار النظري إلى واقع ممكن بكل هذه البساطة؟
لا أبداً.
لذلك المعركة مستمرة.

-5-

لا يكمن الخطأ الرئيسي الذي يتسبب بالتسرّع في إعلان النصر، إلى طغيان صورة البطولة الملحميّة على أية صورة أخرى لما آلت إليه المعركة في رصيد التدمير والخسائر البشريّة، وإن كانت بالمعنى الوصفي كارثيّة، بل يكمن هذا الخطأ بالدرجة الأولى في تخطي المشهد الاستراتيجي وقراءته على نحو شامل لكل فصوله.
إنَّ معايرة النتيجة هنا، سواءً في اعتبارها انتصاراً كما في اعتبارها هزيمة، تأتي من رؤية مشهد جزئي ومنقوص.
ليس من الصعوبة معرفة المدى الاستراتيجي الذي تستهدفه إسرائيل، وليس من المتعذّر التيقن من أن وقف إطلاق النار في جنوب لبنان، لا يعني وقف إطلاق النار في غزّة، ولا يعني وقفه في الشام، ولا يعني تخلّي إسرائيل عن أهدافها الاستراتيجيّة في الضفة الغربيّة، أو في الشام والعراق وصولاً إلى طهران.
عنوان تغيير الشرق الأوسط، وإنتاج شرق أوسط جديد الذي وضعه بنيامين نتنياهو وأعلنه صراحة – وهو بكل الحالات رؤية أميركيّة شكّلت على الدوام عنواناً استراتيجيّاً عابراً لمختلف الإدارات الأميركيّة -، هذا العنوان لم يسقط مع اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب لبنان، لنعتبر أننا لم نمكّن نتنياهو من تحقيق أهدافه؟!
هذه رؤية ارتجاليّة متسرّعة أشبه بالخطاب التعبوي!
ما يجري في الشام الآن، والذي بدأ من بوابة حلب، يشير إلى قصور واضح في قراءة معنى وطبيعة المشهد المرتسم على جبهة لبنان مع اتفاق وقف إطلاق النار.
الحدث، من عيار استراتيجي كبير، لا يشير فقط إلى مواصلة الحرب الدائرة في غزّة واستئناف المعركة المتوقفة في جنوب لبنان، بل وأيضاً وعلى نحوٍ خاص، يؤكد على أنَّ حسم هذه الحرب سيكون في برّ الشام الذي يشكّل العقدة المركزيّة لارتسام أي مشروع جيوسياسي جديد. استئناف الحرب على الشام من بوابة حلب يجب أن يُعاير من هذا المنظور.
المواجهة مكشوفة تماماً، لا لبس في الصورة الصادرة عنها: الولايات المتحدة مع حلف شمال الأطلسي وتركيا إلى جانب إسرائيل في مواجهة الشام وإيران وروسيا وكل واحدة من هذه الدول الأخيرة مرتبكة بالأوضاع التي تحكمها، كما أنَّ علاقاتها بعضها مع بعضها الآخر في أسوأ حالاتها منذ توقفت الحرب في الشام منذ أكثر من أربع سنوات. وإزاء وضع مثالي مثل هذا تم الدفع بـ “التنظيمات المسلحة” في عملية يبدو من فاتحتها أنها معدة وخارجة من “مختبر استراتيجي” عريق.
تجتمع الأسباب كلّها المتعلقة بجميع هذه الأطراف في هذه العقدة الاستراتيجيّة التي لا تزال تحت مسمّى الجمهوريّة العربيّة السوريّة.
ضرب المعابر الحدوديّة الذي قامت به إسرائيل ليس عملاً حربيّاً عاديّاً، بل هو رسم للمجال الذي ستشرف الولايات المتحدة، وفق اتفاق وقف إطلاق النار، على إعادة ترتيبه وإدارته، وهو المقابل الغربي للمعابر الحدوديّة مع العراق التي تقع نظريّاً تحت مرمى القوات الأميركيّة المتواجدة هناك. ما يعني أنَّ المجال المفتوح الذي كان قائماً خلال سنوات الحرب على الشام، يُصار إلى تقطيعه وعزل مكوناته ومحاصرتها الواحدة تلو الأخرى.

أي، أنَّ هناك محاولة حثيثة لتعميم وضع قطاع غزّة المحاصر، على نحو ما، على الكيانات الأخرى، ما يؤدي إلى إنتاج خريطة من (الجزر السياسيّة) المحاصرة.
الحدث الدائر ما بين غزّة ولبنان وبرّ الشام، من طبيعة استراتيجيّة لا ينتهي بجولة على هذه الجبهة أو تلك، وإن كان اليوم قد دخل في حلقة خطيرة جداً وأكثر من أي وقت مضى، إلاّ أنها بالرغم من ذلك لا تسمح بعد برؤية خاتمته كما يجب انتصاراً أو هزيمة؟
عنوان الشرق الأوسط الجديد، مرتبط على نحو وثيق بمصير هذه العقدة الاستراتيجيّة (الشام) التي تأخذ مكانتها من مواصفاتها الجيوسياسيّة.

-6-

سرديات (التاريخ الموازي) هي من مكّنت تركيا من (اختطاف) أكثر من خمسة ملايين سوري بعد بداية الأحداث ابتداءً من آذار 2011. سوريون يرون في الاحتلال العثماني لبلادنا (خلافة إسلاميّة) يتشهون عودتها كل يوم.
من جانبه، يعتبر مرشد الثورة الإسلاميّة في إيران السيد علي خامنئي، أنَّ كل هذه المواجهات الحربيّة التي تحصل وتشترك فيها إيران وحلفاءها، هي استمرار للواقعة اليزيديّة – الحسينيّة، التي بدأت قبل 14 قرناً.
السيد خامنئي، يكرّس منهجيّة (التواريخ المتوازية) التي لا تلتقي إلّا في حقلي التعايش والعنف.

-7-

إنَّ التحرر من سرديات (التواريخ المتوازيّة) لا يتحقق إلّا من منظور المجتمع الواحد، الذي لا يتحقق إلّا بعقيدة قوميّة قادرة على بناء تاريخ واحد موحد لجماعة واحدة موحدة.
ألذلك قال أنطون سعادة واثقاً: يجب توحيد عقائد سوريا في عقيدة قوميّة واحدة.

-8-

موازنة الدولة التركيّة، تتضمن باباً تحت عنوان: ولاية حلب، وتخصص لها ليرة واحدة، في إشارة رمزيّة على أنَّ حلب لا تزال في الرؤيّة التركيّة عثمانيّة، ويجب استعادتها!
إما نتمكن من محو هذا الباب من تلك الموازنة، أو ستتغير من رمزيّة إلى واقعيّة، وتنقلب الليرة إلى ملايين!

-9-

قالت امرأة: كيف لا تكون الحرب مقدّسة وقد مات فيها ابني!! “جبران خليل جبران”.

-10-

التناقض في معايرة النصر والهزيمة هو أحد الدلالات الدامغة على أزمتنا الوجوديّة الحادة… أزمتنا المستمرة والعابرة لتاريخنا الحديث… دون انقطاع!

————————————-

اقرأ في الموضع نفسه لـ نزار سلّوم:

اللوح التاسع: الحلّ النهائي واستراتيجيّة الآلام الكبرى

اللوح الثامن: الحرب على لبنان… وما بعده؟

اللوح السابع: آلهة التكنولوجيا في خدمة أنبياء الكتاب.

اللوح السادس: حربٌ أخيرةٌ فاصلة…مَن يريدها؟

اللوح الخامس: اليوم التالي: إعادة إعمار “سطح القمر”؟

اللوح الرابع: فلسطين والعالم: “الغرب الأخير” عدونا… وأملنا!!

اللوح الثالث: تفكيك القنبلة الديمغرافيّة الفلسطينيّة

اللوح الثاني: اكتشافُ إسرائيل؟

اللوح الأول: خوارزميّات العنف

الطوفان / الحريق: الصدمة

‫4 تعليقات

  1. يعطيك العافية..

    مشهد لبنان إسرائيل بعد هذه الجولة، وفي كل جولة مشابهة.. لا يمكن قراءته مصنفا نصر/هزيمة
    لأن هذا التصنيف أصبح إيديولوجيا منذ فترة.. وعليه أعتقد أن التقييم يجب أن يكون بتجميع نقاط الربح والخسارة للأطراف، من أجل انارة طريق المستقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق