العالم الآن

أوكرانيا

الحرب الإعلامية بين وثبة النمر وزحف الدب!

البرافدا بيد لينين

مرت مياه كثيرة تحت جسور روسيا منذ أن أطلق مؤسس الاتحاد السوفيتي فلاديمير لينين قبل قرن تقريباً تحديه بوجه الإعلام الغربي قائلاً: “نحن مستعدون للسماح باستيراد وتوزيع عدة صحف بريطانية مقابل أن يسمحوا لنا بتوزيع صحيفة واحدة من صحفنا هي برافدا”! وكان من أوائل قرارات يلتسين بعد قرار حلِّ الاتحاد السوفيتي سنة 1991 هو إصدار مرسوم رئاسي يقضي بإيقاف صدور صحيفة “برافدا” رغم أنها لم تعد “برافدا لينين” منذ زمن طويل! واليوم، اعترف وزير الخارجية الروسية لافروف في لقاء صحافي معه في 18 آذار- مارس أن “الحرب الإعلامية التي تشن اليوم ضد روسيا شرسة ولا أخلاقية، وأن التجربة الإعلامية الروسية متواضعة ولا يمكن مقارنتها بالآلة الإعلامية الغربية”.

عقوبات غربية إبادية

لا جدال في أن الحرب الإعلامية والعقوبات الأوروبية الأميركية التي فرضت على روسيا فاقت كل التصورات والتوقعات والتجارب القديمة والمعاصرة من عقوبات، وتحولت إلى حرب اقتصادية معلنة، ترافقت مع انفقاع الدُّمل العنصري الغربي العتيق ضد روسيا كأمة وحضارة ودولة، أو أن تلك التي سماها الراحل هادي العلوي “الدودة الرومانية الإمبراطورية والتي لا تطيق منافساً لها أو متمرداً عليها- قد اهتاجت واضطربت، ولن تهدأ إلا باجتثاث عدوها أو منافسها من الوجود كما فعلت بقرطاجنة حنا بعل، وتدمر زنوبيا، وحرب بوش الابن على العراق، بل إن هذه العقوبات وما رافقها من صياح وصخب كريه أمست أقرب إلى عمليات سلب ونهب ومصادرة واستيلاء على أموال طائلة تعود لدولة كبرى ولأشخاص وذوات عاديين – أشخاص تحولوا إلى مليارديرات ومليونيرات بدعم من الغرب نفسه، وعلى حساب ثروات الأمة الروسية التي راكمتها خلال العهد السوفيتي- وكانت تلك العقوبات محكومة منطلقاً ومنتهىً بعقلية الغنيمة والثأر على الطريقة الداعشية الطرية في الذاكرة حتى مشارف الإبادة الجماعية بالحصار – وعمليات مطاردات للساحرات على أساس الهوية القومية لم يسلم منها مبدعون وعباقرة روس ماتوا في القرن التاسع عشر مثل دوستويفسكي وجايكوفسكي. وهكذا فقد انفضحت “الحضارة” الغربية وريثة الهمجية الرومانية، وذروتها في باكسارومانا “السلام الروماني” الذي كان يعني خنق شعوب العالم بقوة الحراب والسيوف الرومانية، وتجليها المعاصر في “باكسا أميركانا” المؤسس على مبدأ القدر المتجلي أو الحتمي (Manifest destiny)، المطبق بالقنابل النووية والحصار بالدولار عديم الغطاء ووحش الإعلام الكاذب المزوِّر للحقائق. وظهرت القارة الأوروبية العجوز ومستعمرتها السابقة التي بُنيت على جثث الشعوب الأصلية الأميركية خلف الأطلسي، ظهرت حقيقتها العنصرية الدموية والتي لا تستهدف بوتين أو نظامه الذي لا يختلف من حيث الهوية الطبقية عن أنظمتها، بل هي تستهدف وبالدرجة الأساسية الأمة الروسية ككل. ولكن هذا الواقع لا ينبغي أن ينسينا حقيقة الانقسام الطبقي العميق السائد في روسيا تحت حكم الأوليغاركية، فهو مرعب وفاضح؛ حيث أن “واحد بالمئة من الروس يحوز على أربعة وسبعين في المئة من الثروات الوطنية، وعشرة بالمئة منهم يستولون على تسعة وثمانين بالمئة من تلك الثروات، وهذا يفوق ما هو قائم في الولايات المتحدة الامريكية نفسها، بلد التفاوتات الطبقية بامتياز، أو في الصين/ مقالة لنهلة الشهال”.

الملياردير إبراموفيتش مثلاً

رومان ابراموفيتش

لنلقِ نظرة على تجربة واحد من حيتان روسيا الرأسمالية المعاصرة، والملياردير النافذ في الأوليغاركية الحاكمة أو النافذة في روسيا هو رومان ابراموفيتش، البالغة ثروته واحداً وعشرين مليار دولار، والمعتبر صديقاً شخصياً لبوتين. فحين عاقبه الغرب وراح يطارد يخته الفخم وسفنه وطائراته الشخصية، ويجمد ويصادر أرصدته المالية ويستولي على قصوره لم يجد هذا الملياردير بلدا يلتجأ إليه غير “إسرائيل” التي يحمل جنسيتها، ولكن – ويا للمفاجأة، إنْ كان ثمة مفاجأة حقاً- فقد رفضت السلطات الإسرائيلية السماح له بالإقامة وطلبت منه المغادرة، رغم كونه يهودياً وحاملاً للجنسية الإسرائيلية، لتؤكد هذه الدولة القائمة على الفصل العنصري أنها لن تحترم حتى يهوديتها المزعومة إذا تعارضت مع مصالحها ككيان أيديولوجي خرافي  ومصالح الأسياد الممولين والمسلِحين لها في الغرب الإمبريالي الذي اختلقها.

عُرف رومان إبراموفيش – كما كتب سلام مسافر، الإعلامي العراقي المقيم في روسيا منذ عقود – بأنه أحد أغنى أثرياء روسيا، جمع ثروته الخيالية من نهب أموال وممتلكات الدولة السوفيتية، وشعوبها، عقب الانهيار…ابراموفيتش هذا وبشهادة ايغور غيدار وزير الخصخصة “نائب رئيس الوزراء” في حكومة يلتسين – كما يضيف مسافر – “يؤكد أن رومان المدلل خصخص مصنع الماس في ياقوتيا مثلاً بمبلغ يعادل سعر زوجي حذاء إيطالي فاخر / مقابلة مع رئيس تحرير مجلة فوربس- الطبعة الروسية”.

بروباغاندا بمخالب وأنياب

لنعد إلى البديهيات الأولية في موضوع الحرب الإعلامية. ليس ثمة حرب، قديماً وحديثاً، بلا أكاذيب وبروباغندا حربية؛ فسلاح الإعلام في الحروب لا يقل أهمية عن جميع أنواع الأسلحة الحربية المدمرة المعروفة. إنه أمر يمكن اعتباره مألوفاً وعادياً، أما غير العادي فهو أن يستهدف الإعلام الحربي المتلقي والمتابع سواء كان مواطناً أو إعلامياً أو محللاً سياسياً يزعم الحياد عموماً ويحاول إرغامه – كما هي الحال في الحرب الجارية في أوكرانيا- على تصديق وتكرار الأكاذيب الحربية التي ينتجها الطرف الغربي، ويمنعه من الوصول إلى خطاب الإعلام المقابل، ويتخلى عن استعمال عقله النقدي الخاص طوعاً وإلا اتهم بمحاباة الإعلام الروسي!

في الحرب الدائرة في أوكرانيا لا يمكن تبرئة الروس أو غيرهم من هذا النوع من البروباغندا الحربية والأكاذيب، وربما تميزت أكاذيب الإعلام الحربي الروسي بنوع من البدائية والسذاجة وضعف الكفاءة المهنية باعتراف لافروف، واعتماد لغة مملة ، شاحبة، فقيرة بالمعطيات والأرقام والوقائع الموثقة، ولا تبتعد كثيراً عن لغة الإعلام في المرحلة الستالينية؛ أما الغربيون فهم يتمتعون بكفاءة تقنيات إعلامية عالية، تستند إلى معاهد علمية ومراكز أبحاث متخصصة، ومؤسسات أمنية واستخباراتية ذات خبرة، ويستعمل الإعلام الغربي في حربه جيشاً عريضاً من مرتزقة القلم والشاشات والخبراء وأشباه الخبراء المنحازين للغرب وبعض المستقلين للزينة وكسر الملل والانحياز الفاضح، ولكنَّ جموح الإعلام الغربي الأورومركزي الاستعلائي غلب على خطابه، وهو خطاب بات مصوغاً  بلغة غير لائقة وتحقيرية للخصوم وتفتقر لأدنى حد من اللياقة والدبلوماسية حتى على مستوى رؤساء متقدمين في السن كبايدن وجونسن الذي فاق نظراءه الغربيين في التشنج والعدوانية ومحاولة تحويل الحرب إلى صراع شخصي بين الزعماء مع إصرار صبياني على مخاطبة الرئيس الروسي باسمه المجرد ونعته بأقسى النعوت.

إن الغربيين، رغم شراستهم وادعاءاتهم بتبني السلمية والديموقراطية ورفض العنف، أعرف من غيرهم بتفاصيل تاريخهم الاستعماري الغزَوي قديماً، ومنذ العهد الروماني وحديثاً مع حروب عصر الاستكشاف والاستعمار واجتياح قارات العالم لثلاثة قرون مضت، ثم حروب التدمير الشامل في القرن الماضي والجاري كما هي الحال في محارق هيروشيما وناكازاكي النووية ومجازرهم في الجزائر التي أبادت فرنسا خمس سكانها وفيتنام والعراق، وفي الهند التي “جعلت بريطانيا سهولها بيضاء لكثرة عظام الضحايا الهنود، بعبارة ماركس”، وفي الكونغو وعموم أفريقيا التي أبادت فيها جيوش الملك البلجيكي ليوبود الثاني أكثر من عشرة ملايين أفريقي، وإسبانيا وفظاعاتها الدموية في العالم الجديد حيث بدأت حملة إبادة السكان الأصليين الأميركيين وانتهت باجتثاثهم. أما الروس ورغم أن تجربتهم الاستعمارية لا تبلغ من حيث البشاعة والاتساع تجربة الإنكلوساكسون والرومان والفرنجة والجرمان، ولكنها ليست بريئة تماماً كما قلنا، ولنا في مشاهد الخراب والتدمير التي ارتكبها جيش الروسي في عهد يلتسين وخليفته في الشيشان خلال الحربين؛ الأولى في آب 1994 والثانية في آب 1999، وانتهت بتدمير العاصمة الشيشانية غروزني مرتين ومقتل الآلاف من سكانها مجرد مثال في هذا السياق! فأين يكمن الفرق؟

يرونها بعيون حروبهم

إنه يكمن في طريقة رؤية الغربيين للأحداث، وصياغتها بلغة مرنة وإيحائية، وينجم عن ذلك نوع من الانجرار الجماعي إلى اللعبة الإعلامية الغربية وابتلاع أكاذيبها، أو التظاهر بابتلاعها لتفادي العقاب والعزل. إنَّ الغربيين بزعامة الولايات المتحدة يفكرون في الحروب ويقيمونها بطريقتهم الخاصة في خوضها، ويرونها بمقياس حروبهم وغاراتهم، إذْ يسيطر على أذهانهم وإعلامهم نمط “الحرب الخاطفة” و “الصدمة والترويع” و “وثبة النمر” واجتثاث العدو من الجذور، وهو نمط حربي ورثوه من ماضيهم الروماني – أمرت روما جيشها بعد تدمير قرطاجنة سنة 149 ق.م، بأن يحمل الجنود الرومان سلالاً من الملح وينثرونه في الحقول والمزارع الفينيقية، فقرطاجنة “يجب أن تزول”، كما أمرت روما!

أما الأسلوب الروسي في خوض وإدارة الحروب فيقوم على البطء والنفس الطويل والتقدم بطريقة القضم التدريجي للأراضي وتدمير إمكانات العدو قبل أن يتحولوا إلى الهجوم وملاحقة الغزاة لاحقاً. إنَّ هذا ليس أسلوباً جديداً، وقد استعمله الروس في جميع حروبهم وخرجوا منها منتصرين انتصارات مكلفة وباهظة الثمن بشرياً ومادياً منذ غزوة نابليون لروسيا في القرن التاسع عشر وحتى خلال الحرب العالمية الثانية، وهنا يكمن الفرق بين العقلية الحربية الغربية الأميركية والأخرى الروسية، إنه الفرق بين “وثبة النمر” الغربي الأميركي و”زحف الدب” الروسي البطيء والثابت. والنتيجة هي أن الغرب يرى أن روسيا فشلت في حربها لأنها لم تحتل كييف وتدمرها حتى الآن بالقصف السجادي كما اعتاد هو أن يفعل في حروبه.

إفراغ الانتصارات من محتواها

لقد كتبتُ بعد ثلاثة أيام على بدء الحرب، أن الطرف الروسي حقق الأهداف السياسية الروسية الرئيسة المعلنة منها بإعلان الرئيس الأوكراني موافقته على حياد بلده وعدم الانضمام إلى الحلف الأطلسي، وقلنا إن ما تبقى من عمليات حربية لا يعدو كونه محاولات من الطرفين لتحسين شروطهما التفاوضية وبما يسمح للسلطات الأوكرانية من استثمار مقاومتها الشرسة للجيش الروسي. غير أن آفاق الحرب وتداعياتها لن تكون واضحة وسهلة، وربما تحدث تطورات خطرة على هذه الجبهة أو تلك تؤدي الى مجابهة غربية روسية. فالمعادلة الجيوسياسية العسكرية محكومة الآن بحدين؛ الأول هو رغبة الغرب وروسيا بإنهاء الحرب سريعاً لأن ثمنها الاقتصادي أمسى باهظاً جداً على الطرفين وقد يؤدي إلى انهيارات غير محسوبة ونشوب اضطرابات اجتماعية في الغرب كما في روسيا، سيما وأن شبح مجاعة ونقص في الغذاء والطاقة بدأ يلوح. والثاني هو رغبة الغرب في توريط روسيا في حرب طويلة ومنعها من تسجيل انتصار واضح أو في الأقل تمييع انتصارها. وهذه الاستراتيجية جربت في العقد الماضي وخصوصاً في سوريا، وتقوم على مبدأ: لينتصر الخصم عسكرياً، ولكننا سنجعل انتصاره السياسي النهائي مستحيلاً!

بناء على ما تقدم، يمكن القول إن الحرب الميدانية العسكرية الرئيسية قد انتهت تقريباً بنهاية أسبوعها الأول، وسقطت ضحايا من الجانبين الروسي والأوكراني من العسكريين والمدنيين، وظل الروس يحاولون تثمير أدائهم العسكري سياسياً عبر مفاوضات مباشرة مع القيادة الأوكرانية التي ماطلت كثيراً وتعمدت التأخر في الحضور ومحاولات التعطيل لأنها فاقدة لقرارها السيادي لمصلحة واشنطن والعواصم الغربية الأخرى، وقد راهنت كييف على تدخل غربي أطلسي مباشر ينقذها ويطرد الجيش الروسي من بلادها. واتضح لها أن هذا مجرد وهم، فالغربيون لن يضحوا بجندي واحد من أجل أوكرانيا، ولكنهم سيقاتلون الجيش الروسي حتى آخر أوكراني!

في الأيام القليلة الماضية، بدأت الحرب تهدأ عسكرياً، وتحولت إلى حرب تطويق ومواقع، وقصف وقطع إمدادات في الغالب، واختفى سلاح الجو الأوكراني من السماء تقريباً وتحولت بعض المناطق والمدن الأوكرانية إلى غابات من السلاح الغربي الفعال وخاصة صواريخ ستنغر أرض جو، وجافلين وإنلاو المضادين للدبابات والمدرعات، وهذه الأسلحة الفعالية والدقيقة كما هو معروف عسكرياً وفي الغرب قبل غيره لا تحسم حرباً ولا تنتج انتصاراً، فالغرب أعلن مبكراً أن من المستحيل أن تخرج أوكرانيا منتصرة في هذه الحرب وضغط كثيراً ومنذ الأيام الاولى من الحرب ليخلي الرئيس وفريقه الحاكم وينقله من كييف ولكنه سيؤخر الحسم الروسي ليس إلا بثمن باهظ تدفعه أوكرانيا وشعبها. غير أن هذا الرهان سيؤدي إلى تدمير أوكرانيا مزيداً من التدمير، ومقتل آلاف أخرى من البشر في هذه الحرب التي كان تفاديها ممكناً لولا جشع ودموية الدول الإمبريالية الغربية، وعناد الأوليغاركيات الحاكمة، وتبعية وسذاجة القيادة الأوكرانية وطيش رئيسها زيلينسكي.

حماقة استهداف زيلينسكي

وبصدد زيلينسكي أيضاً، يمكن الاعتقاد أن الكرملين سيرتكب حماقة كبرى قد تسبب له هزيمة استراتيجية إذا استهدفه بالقتل أو الاعتقال والأسر وإذا قرر تغيير نظام الحكم الموالي للغرب في كييف بالإسقاط والاستبدال بنظام حليف لموسكو، وسيتحول زيلينسكي من ناكث بوعوده الانتخابية التي وعد فيها شعبه بالسلام والوفاق مع روسيا ومتسبب بنشوب حرب مدمرة في نظر شعبه وقد دفع بلاده إليها دفعاً، سيتحول – إذا ارتكب الكرملين هذه الحماقة -إلى بطل وشهيد!

صحيح أن الشعب الأوكراني ساكت الآن على زيلينسكي وأن هناك قطاعات مهمة تؤيده بسبب الغزو الروسي الذي يبقى غزواً في نظره ونظر التاريخ، وبسبب انشغال الشعب تحت وطأة الدمار والموت الذي يحاصره، ولكنه يعرف حقيقة ما حدث أكثر من غيره، وأعتقد أنه سيعاقب زيلينسكي – رغم كل التلميع الإعلامي الغربي له -حتى لو لم تسقطه هذه الحرب إسقاطاً مباشرة، إن موسكو وحدها هي مَن ستحول هذا الشخص من رئيس فاشل مغامر وناكث بالوعود ومهزوم عسكرياً إلى بطل وشهيد كما قلنا، وإلى رمز لمقاومة الغزاة في نظر الناس!

إن زيلينسكي على الأرجح لا مستقبل سياسياً له بغض النظر النهايات المتوقعة لهذه الحرب، فالشعب الأوكراني لن يغفر له طيشه ومغامرته هذه ونكثه لوعوده الانتخابية كما يقول المنطق السليم، وربما سيقضي عليه حلفاؤه القوميون المتطرفون المحيطون به قبل أن تنتهي الحرب بتهمة جاهزة هي الخيانة والاستسلام لروسيا!

نهاية عصر الدولرة

يمكن إيراد الكثير من الأمثلة التطبيقية لتبيان زيف وركاكة البروباغندا الإعلامية الغربية، ولكني سأكتفي بإيراد مثالين فقط، تاركاً للقارئ حرية الخروج بالاستنتاجات المناسبة:

المثال الأول: صاحبَ فرض دول التحالف الغربي الأطلسي والدول الدائرة في فلكه كاليابان وكوريا الجنوبية للعقوبات الاقتصادية والثقافية ضد روسيا تجييش حماسي وانتصاري بقرب انهيار الاقتصاد الروسي وفقدان الروبل لأكثر من نصف قيمته وأنه على وشك الانهيار ووجدنا وزيراً فرنسياً هو برونو لومير يتجرأ تهديد الأمة الروسية نفسها، وليس الدولة أو الحكام بأنها ستدفع الثمن، قبل أن يتراجع عن تصريحه المعيب بعد تحذير شديد اللهجة تلقاه من طرف حكومي روسي سابق.

مايكل هيدسون

ولكن، وفي غمرة هذا الحماس والهياج الغربي، علت أصوات غربية محذرة من الآثار الوخيمة لهذه العقوبات؛ حيث أكد الاقتصاد الأميركي الأشهر مايكل هدسون، كما ينقل الكاتب البرازيلي بيب أوسكابار، من أنه “يشعر بالقلق الشديد من التصعيد شبه النووي للولايات المتحدة، وقال إنه في ما يتعلق بمصادرة الاحتياطات الأجنبية الروسية وعزل موسكو عن نظام سويفت، فإن النقطة الرئيسة أن الأخيرة تستغرق بعض الوقت، لوضع نظام جديد مع الصين، ونتيجة ذلك ستنهي الدولرة “التعامل بالدولار” إلى الأبد. وعن إمكانية إدخال نظام دفع روسي صيني جديد، يتجاوز منظومة “سويفت”، والجمع بين نظام (SPFS) الروسي ونظام (CIPS) الصيني، فإن هدسون لا يساوره أي شك في أنهما سيفعلان ذلك، كما سيسعى الجنوب العالمي للانضمام إلى النظام الجديد ونقل احتياطاته إليه، مع الإبقاء على “سويفت” في الوقت نفسه.” أما أسكوبار نفسه فيقول إنَّ العقوبات الغربية ستجعل الصين تستولي على جميع الموارد الطبيعية الروسية، وستترك أوروبا كرهينة يُرثى لها!” و”ينقل أسكوبارعن مدير شركة (Bocom International) هاو هونغ قوله إن إزالة الدولار من تجارة الطاقة بين أوروبا وروسيا، تمثل بداية تفكك هيمنة الدولار، وهو التحذير الذي سمعته الإدارة الأمريكية الأسبوع الماضي، من بعض أكبر بنوكها متعددة الجنسيات، بما في ذلك “غي بي مورجان” و”سيتي غروب”. وتابع هونغ “الحقيقة الآن هي أن الهروب من النظام المالي الغربي، الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، أصبح لا رجوع فيه عبر أوراسيا، كما أنه سيستمر مع تدويل اليوان”. مقالة لإسكوبار على موقع (The Cradle).

ورطة مختبرات البيولوجية

المثال الثاني: يتعلق بانخراط الإعلام الأميركي والتابع له، بتكذيب خبر وجود مختبرات للسلاح البيولوجي في أوكرانيا، ونفيه نفيا قاطعاً، واعتباره نوعاً من الأكاذيب التي يروجها إعلام الكرملين. فكيف ولدت هذه القضية وما مقدار صحتها: نقرأ في التقرير الأول “أن نائبة وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية، فيكتوريا نولاند، حذرت من وقوع بعض “مراكز الأبحاث البيولوجية” في أوكرانيا في قبضة القوات الروسية. وقالت خلال جلسة استماع في الكونغرس أمس الثلاثاء، رداً على سؤال حول ما إذا كانت في أوكرانيا أسلحة كيميائية أو بيولوجية: “تتوفر لدى أوكرانيا منشآت خاصة بالأبحاث البيولوجية، ونحن قلقون من سيطرة القوات الروسية عليها”. وبعد أن نشرت السلطات الروسية بعضاً من الوثائق التي ضبطتها في تلك المختبرات البيولوجية الأوكرانية الممولة أميركياً نفت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية الخبر، ولكن نفيها انطوى على شيء من تأكيد الخبر فهي لم تنفي وجود المختبرات البيولوجية ولكنها وصفتها بمختبرات “التشخيص والدفاع البيولوجي الأوكرانية” وليس منشآت أسلحة بيولوجية”. حيث قالت قناة الحرة الأميركية “إن وكيلة وزارة الخارجية للشؤون السياسية، فيكتوريا نيولاند، كانت تشير إلى مختبرات التشخيص والدفاع البيولوجي الأوكرانية خلال شهادتها في الكونغرس، والتي هي ليست منشآت أسلحة بيولوجية”. ورغم ذلك ظل المعلقون والمحللون العرب وغير العرب سادرين في نوع غريب من النفي وعلى طريقة “ملكيون أكثر من الملك”! أما في الإعلام الأميركي المغرد خارج السرب، وهو نادر، فقد أكد مقدم برامج قناة “فوكس نيوز” تاكر كارلسون، صحة التصريحات الروسية حول المختبرات البيولوجية في أوكرانيا، ونقل عن نولاند قولها إنَّ ما كان الأوكرانيون يفعلونه في تلك المختبرات خطير ومخيف للغاية لدرجة أن وقوع الأبحاث المزعومة من تلك المعامل في أيدي القوات الروسية مسألة “مثيرة للقلق”. وأخيراً، فقد جاء بيان منظمة الصحة العالمية، التابع للأمم المتحدة، ليحسم الجدل ويقر بصحة المزاعم الروسية و”يوصي السلطات الأوكرانية بشدة بإتلاف مسببات الأمراض في مختبراتها البيولوجية منعا لتسربها وضرورة تعزيز الأمن البيولوجي في المختبرات الأوكرانية، لمنع تسرب مسببات الأمراض العرضي أو المتعمد منها”.

جنرال أميركي عاطفي!

وأخيراً، لعل الأكثر استخفافاً بعقول البشر هو تصريح الجنرال الأميركي بن هودغز الذي قال لقناة “سي بي أس” معللاً صمود الأوكرانيين في الحرب بأنهم “يملكون مورداً لا نهاية له يسمى القلب، أما الغزاة الروس الذين يقتلون الأبرياء فلا شيء لديهم من ذلك – القلب- شيئاً، هذا هو الاختلاف الرئيس”، ولست أشكك برصانة واعتدال وطيبة غالبية الشعب الأوكراني مقارنة بغالبية جمهور الطبقة الوسطة في أوروبا والولايات المتحدة والشهادات المؤكدة لذلك كثيرة، (من الطريف – مثلاً -أن تشكو صاحبة مقهى روسي في ستوكهولم من اعتداءات الجمهور السويدي عليها ومقاطعة مقهاها، ولكنها تضيف: ولكن غالبية زبائننا بقيت من الأوكرانيين والروس!)، بل أقول إن آخر من يحق لهم الكلام عن “طيبة قلوب الغزاة” الذين “لا يقتلون الأبرياء” هم الأوربيون والأميركيون وصفحات التاريخ القديم والحديث تقول الكثير في هذا الخصوص ومنه أن الغرب لا يقيم اعتباراً للبعد الأخلاقي لا في الحرب ولا في السلام وأنه لا يحترم الحياة بل يمجد ويستمتع بموت وقتل الآخر وإبادته والتفنن في إيذائه، وأن روسيا قد كسبت هذه الحرب في بعدها الأخلاقي حتى الآن، وهذا ما يدركه الغرب شعوباً وحكومات، ولكنه لا يقيم له أية أهمية، فكلمة “أخلاق” ليست واردة في قاموسه الحربي!

علاء اللامي

باحث وكاتب من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق