طغت صورة (إسرائيل – الاستثناء) على المخيلة العامة، كما على عقل النخب السياسيّة والفكريّة في أعظمها. ولا يعود الحضور الطاغي لهذه الصورة إلى العبارة المفتاحيّة التي ولدت بعد حرب حزيران 1967، والتي وصفت الجيش الإسرائيلي بـ (الجيش الذي لا يُقهر) في اتجاه واضح لأسطرته ووضعه خارج الشروط التاريخيّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي من منسوبها يتم قراءة وتحليل القوى والظواهر العسكريّة منها وغير العسكريّة. بل يعود النظر إلى (إسرائيل) كاستثناء، بالأصل، إلى رؤية الجماعة اليهوديّة في مسارها التاريخي وكيف حافظت على نفسها وثقافتها بالانعزال عن (الآخرين) ضمن (غيتوات) تؤمّن الشروط الكافية لإقامة (تاريخ خاص) على التوازي مع التاريخ العام للمجتمعات الأخرى، تاريخ خاص يجتهد أصحابه كي لا يتقاطع مع التاريخ العام بأحداثه وثقافته، ما يضمن وحدة الجماعة اليهوديّة ويحصّنها ضد الأمراض الاجتماعيّة الناتجة عن حياة تلك المجتمعات.
بهذا المعنى، تكون الجماعة (نقيّة من الداخل) – دون أمراض – فيما تنظر إلى الخارج دائماً كمصدر خطر عليها ويتجه لاستهدافها لـ (تلويث نقائها) وتفكيك وحدتها ونسف فرادتها.
بطبيعة الحال، ستتمكن الجماعة من تنصّيب استثنائيتها بالاستناد إلى مرجعيّة النصّ التوراتي والشروحات التلموديّة الموسّعة والمؤكّدة له. ستتوضّع عبارة سفر التثنية (لأنك شعب مقدس للرب إلهك، وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض. 14 – 2). ستتوضع هذه العبارة في المخيلة اليهوديّة العامة كوصيّة ربّانيّة سيكون الخروج عليها بمثابة الخروج من فضاء الدين اليهودي والتموضع خارجه تماماً.
ستقوم (الاستثنائيّة)، في سياق وظيفتها، بدور رادع لمحاولات التفكير إن كانت (إسرائيل) قابلة كغيرها من الجماعات أو المجتمعات أو الدول، للإصابة بعوارض سياسيّة تاريخيّة ناتجة عن نقاط ضعف في بنيتها ونظامها ومؤسساتها. سيُنظر إليها بكونها خالية من العيوب البنيويّة، مدججة بعناصر القوة، عصيّة على علم السياسة وقوانين التاريخ. وبهذا المعنى يتم تكريس (إسرائيل) ككائن عابر للتاريخ، بخروجه عن شروط حياة (الكائنات السياسيّة) التاريخيّة.
البحث المستمر عن القوة الأسطوريّة للبنية الصلبة (الجماعة اليهوديّة) التي يرتكز إليها المشروع الصهيوني المؤسس في نهاية القرن التاسع عشر، ساهم في مد نفوذ هذه القوة التي تمكنت من السيطرة على مختلف المرجعيات السياسيّة السلطويّة التابعة للدول المحيطة بها أو لتلك البعيدة عنها. طغيان الصورة وهيمنتها سينتج (إسرائيل) كقوة خالصة، دون نقاط ضعف، أو منافذ لتسرّب التلف والصدأ إليها بحكم التاريخ.
الآن، ودفعة واحدة، سقطت الصورة، وها هي (إسرائيل) في العراء التام، وشعب الله المختار في الشارع يتواجه كـ (شعبين) أسوة بالشعوب التي تواجهت حواليه وفي القرب منه.
خرجت إحدى مفاخر (إسرائيل) الأثيرة والمنظور لها دائماً كميزة خاصة في (شرق لا يمكن أن يعرفها!): الديمقراطيّة، خرجت عن شروطها ولم تعد قادرة على ضبط النظام الإسرائيلي ومكوناته وآلياته. فقدت الديمقراطيّة الاسرائيليّة المكونين الذين يشكّلان الديمقراطية، أي الموالاة – السلطة، والمعارضة – السلطة البديل، مع اتجاه (لعبة الشارع) ليس نحو العنف وحسب، بل نحو الخروج عن فلسفة المشروع الصهيوني المرتبط رأساً بمرجعيّة النصّ التوراتي.
وصل العراء الإسرائيلي إلى الحدود التي بدأت فيها قوى المعارضة بالمطالبة بفصل الدين عن الدولة، وبالطبع هذا المبدأ يحكم الدولة القوميّة الحديثة منذ القرن التاسع عشر على نحو تام، بل وجوده من عدمه يعتبر مؤشراً لوجود تلك الدولة من عدمها. على أنَّ (إسرائيل – الاستثناء) ليست دولة قوميّة وفق هذا المعنى، بل دولة أثنية – دينيّة، بنظام ديمقراطي خاص مستند إلى جوهر ثقافة (الجماعة اليهوديّة) وتاريخها. أي أن فصل الدين عن الدولة في إسرائيل من شأنه فتح ثغرة كبيرة في البنية الصلبة التي تشكّل (عصبية الجماعة اليهوديّة) وتستمد منها (استثنائيتها)، ما يؤدي استطراداً إلى تلف في تاريخها الخاص ويفتح الباب واسعاً لغمرها بالتاريخ العام الذي يعني نهايتها كجماعة خاصة وكدولة – استثناء.
يبدو أن (إسرائيل) اليوم لم تعد تسمع صوت مؤسس مشروعها هرتزل الذي كان ينظر إلى الجمهور بازدراء لأنّه (بطبعه بربري، وفور أن تمنحه شيئاً من الحرية يمسخها إلى فوضى)، لأنَّ (الديمقراطيّة تعني الفوضى، فكيف يمكن أن نثق بأحكام الغوغاء؟)، غير أن العبارة الموجهة بالأصل إلى البرابرة يصح اليوم توجيهها إلى (الخاصّة) التي تتواجه كما يتواجه (الأغيار)!
(إسرائيل) في الشارع، كما نزل غيرها إلى الشارع، تتواجه كشعبين كما تواجه غيرها كشعبين. الفرق الكبير أن (شعب الله المختار) انقسم إلى اثنين؟
ماذا سيفعل الله، إذ يرى (شعبه) ينقسم ويعيش فوضى عارمة مرتبكاً في أرض كنعان؟