[محمود درويش، شاعر فلسطين وقضيتها، بل (إيقونتها)، يستغرب في العام 2000، كيف أنَّ الحكومة الإسرائيلية لم توافق على مقترح وزير التربية يوسي ساريد، بإدراج قصائد له في الكتب المدرسية الإسرائيلية! ويزداد استغرابه فيقول طلبوا تغيير الميثاق الوطني الفلسطيني فغيرناه… أخذوا كل شيء؟
درويش، سياسياً، من فريق أوسلو، وربما يتجاوز هذا الفريق في الكيفية التي ينظر فيها إلى مستقبل القضية الفلسطينية في إطار مفهوم للسلام، قائم على التنازل عن عتبة الهويّة.
تناول الناقد السوري المعروف فيصل درّاج هذه المسألة، ومن ثم تناولتها بدوري في هذا المقال، الذي أستعيده الآن، في هذه اللحظة التي يتم فيها حصار الخيار الفلسطيني، ما بين الشروط الإسرائيلية/الأميركية/العربية، من جهة، وفريق أوسلو في رام الله وحماس في غزة من جهة أخرى.]
يستبعد فيصل درّاج (الوسط: العدد 424، تاريخ 13/ 3/ 2000م)، قراءة قرار وزير التربية الإسرائيلي يوسي ساريد بإدراج قصائد محمود درويش في المناهج التعليمية الرسمية، يستبعد الثقافة والسياسة كحقلين محتملين لهذه القراءة، معتبراً أنها ممكنة على نحو جازم في حقل وثنايا إيديولوجيا الانتصار (التي تجعل الضحية سعيدة، لأن جلاّدها لم يعد يراها قبيحة، كما كان يفعل). حيث تفصح هذه الإيديولوجيا ـ حسب درّاج ـ عن مضمون يُشكّل آليات فعلها، فالمنتصر (يعترف بعدوه بعد أن يهزمه، لا قبل الهزيمة، كما لو كانت الهزيمة تنقل العدو السابق من وضع المحارب المرفوض إلى وضع المهزوم المقبول.)، ومن جهة أخرى (يحتاج المنتصر إلى ما يريح به ضميره، وذلك في صيغة مجردة، يصفح فيها المنتصر عن المهزوم ويصفح فيها المهزوم عن المنتصر أيضاً).
ووفق هذه الآلية يماثل درّاج بين وضع محمود درويش (كعدو مهزوم) ووضع (الهندي الطيب) الذي تم اختراعه في أمريكا، بعد انسحاب المحارب الهندي إلى بقاع (ضيّقة ومحاصرة) ومهزومة نهائياً.
لا شكَّ بأن إيديولوجيا الانتصار، كما يعرّفها درّاج، توفر فضاءً مناسباً لقراءة القرار الإسرائيلي وردود الأفعال عليه، سواء تلك التي صدرت عن رئيس الحكومة، أو عن الأحزاب الموصوفة بالتطرف: الليكود، شاس… على أن هذه الإيديولوجيا لا تكتفي بنفسها ـ برأينا ـ بل إنها تنتج إيديولوجيا الانهزام أو الهزيمة. فإذا كان المنتصر بحاجة إلى (إيديولوجيا) تمكّنه من التوقف عن القتل بوصفه عملاً من أعمال الحرب، فإنه لا يمكنه ذلك إلاّ إذا اطمأنّ أنه ليس بحاجة إلى هذه الحرب. ولا يكون ذلك ممكناً إلاَّ بإعادة إنتاج العدو كـ (مهزوم مطلق) غير قابل للخروج من هزيمته في الأحوال كلّها، إذ ذاك (يرتاح ضمير) المنتصر، ليس بتأثير من (مرجعياته الأخلاقية)، بل استكمالاً لحربه المستمرة غير القابلة للتراجع عن (أخلاقياتها).
من هنا، يكون (الهندي الطيب) المُخترع أميركياً (مهزوماً مطلقاً)، لأنه وإن كان، راهناً، يعيش في نيويورك أو لوس أنجلوس، فهو غير قادر على العودة إلى السهول المشمسة التي شكّلت مكانه التاريخي، ووقعت نهائياً تحت سيطرة المغامر الأميركي الذي غيّر سحنتها وأحالها إلى (مكان جديد) يخصه وحده بالمعنى الثقافي العام، الذي يحيل إلى معنى الهوّية.
تُنتج إيديولوجيا الانتصار ضرورتها أو تعكس مراياها في الطرف الآخر، وفق مرتسم استراتيجي عام. أي أنها تُخضع فضاء الآخر ومجاله لمقتضياتها، ووفق قوانين السيطرة الاستراتيجية، ومن ضمن مجال نفوذها يقوم هذا الآخر (المهزوم) بإنتاج إيديولوجيته التي تبرر هزيمته وانتصار الآخر عليه، مستهدفاً من ذلك (شرعية) ما، تاريخانية على الغالب تحيله إلى مهزوم بقوة القانون التاريخي السائد، وليس بانحسار وضمور القوة الذاتية، خاصته.
ووفقاً لذلك يقبل المهزوم هزيمته ويتآلف معها، فيقبل معها انتصار الآخر عليه، ولا يكون صفح المنتصر والمهزوم عن كليهما في آن (ضميرياً) أو ذا عائدية أخلاقية، بل يندرج هذا الصفح في إطار النظام الجديد الذي يقونن العلاقة بين الطرفين، وهي علاقة تؤكد (الانتصار المطلق) و(الانهزام المطلق) في آن، فتحيل المهزوم إلى (موجود) من (موجودات) الآخر دون أن تبيح له استعادة (وجوده) على نحو تاريخي. وعلى ذلك، يأتي إلغاء (الميثاق الوطني الفلسطيني) كتراجع عن العتبة التي كان يجب أن يقوم عليها الوجود الفلسطيني الراهن، وهي عتبة مُجاهرٌ بعلوها خلال الحرب، ومُعترفٌ بسقوطها مع نهاية هذه الحرب، على أن هذا الاعتراف الذاتي لا يرضي الشهوة المفتوحة للمنتصر، ولذلك يأتي كلام درويش بصيغة التعجب والاستغراب: (حتى الآن نفذنا كل شروطهم. كانت لديهم شروط لإلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني كجزء من السلام الموعود، فألغيناه.. لقد قدمنا تنازلات لا حدَّ لها، ولكن بلا جدوى، الوسط 424 ـ 13/ 3/ 2000م)، ويبقى درويش أسير المتاهة عندما يحاول تحديد ما يريد الإسرائيليون قائلاً: (إنهم يطالبون بإلغائي، فكيف يتم ذلك؟ لا أحد يفهم شراهة المطالب الإسرائيلية…).
يبدو طبيعياً وصول درويش إلى حالة من عدم الفهم للكيفية التي تمارس فيها إسرائيل عملية إلغاء فلسطين، وذلك لأنه يفترض أن عملية الإلغاء الذاتي، المتمثلة بانضواء منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات في إطار عملية التسوية، وما استوجبته من تراجع عن الوجود الفلسطيني (الميثاقي)، وإعادة صياغة هذا الوجود في فضاء مهزوم وإن أوهم بتحقيق (استقلال ذاتي)، يفترض درويش أن هذه العملية كافية لإتخام الشهوة الإسرائيلية المتشاوفة بانتصارها الحاسم راهناً، وإذ بها تعود مجدداً لتأكيد جبروتها مع اعتبارها أن (خرقاً) ما طال النظام الذي يحدد علاقتها بـ(فريستها).
وها هنا يُفترض بـ (درويش) ألاّ ينظر إلى ذاته إلاّ بكونه (فريسة) دائمة في ساحة الملاحقة الواقعة سلفاً تحت سيطرة الآخر الإسرائيلي، وإن كان يظن أن الوقت الراهن لا يجعل من هذه الساحة مكاناً للحرب، إلاّ أنه يفوته الانتباه إلى أن إيديولوجيا الانتصار تحدد وظيفة هذه الساحة في زمن (السلام) بكونها للتدريب على الحرب، ولذلك يحتفظ كل بدوره: الوحش يبقى وحشاً وإن شبع راهناً، والفريسة تبقى فريسة وإن لم تعد صالحة للأكل بسبب هزالها. وبسبب تخمة المنتصر وهزال المهزوم تتحول المسألة إلى عملية تدريب مستمرة حتى لا ينسى أي منهما موقعه وواقعه.
وفي الوقت الذي يكون فيه قرار الحرب واضحاً وحاسماً في تحديده للعدو، وفي استهداف القضاء عليه تماماً، فإن قرار السلم المُنتج من إيديولوجيتي الانتصار والانهزام في آن، يتسم بالغموض الشديد، وفي أكثر حالاته وضوحاً يأتي مُلتبساً قابلاً للانقلاب على نفسه. فبالنسبة لإسرائيل يكون محمود درويش مقبولاً، وهو مقبول، ضمن إطار انضوائه في نظامها الوجودي الذي يحدد له (وجود) ومستواه، فهو وفق هذا النظام قادر على أن يتعلم في المدارس الإسرائيلية، وينتمي إلى الأحزاب الإسرائيلية، ويمارس فعالياته السياسية والثقافية من ضمن نظامها، وقادر أيضاً على أن يحلّ سجيناً في أحد سجونها (وليس قتيلاً) من ضمن قتلاها!. وأن يحمل علمها في مهرجان عالمي، وأن يخرج منها محتجاً، ليتبوأ مركزاً رمزياً في (الضمير الجمعي الفلسطيني)، يحسده عليه غسان كنفاني الشهيد والمقتول بفعالية (النظام الإسرائيلي) نفسه الذي لم يصل إلى تحديد درويش كعدو من مرتبة قتيل، ولكنه بالتأكيد، حدده كعدو من مرتبة مهزوم دائم.. ثم ليعود درويش في وقت آخر إلى حيفا ويزور من يشاء بـ (فيزا) رسمية ممهورة من الأجهزة الأمنية والسياسية، وليقابل (شخصيات) إسرائيلية ضمن توهم العمل من أجل صياغة (الوجود الإنساني) المتنوع في إسرائيل، الذي يقوده في النهاية، وقد قاده فعلاً، كما أوصله سابقاً وعلى نحو صريح، إلى ذلك الوجود الملتبس الذي تعبّر عنه هذه الصياغة المركبة من (إسرائيلي ـ فلسطيني) التي تجعله مطمئناً إلى إقامته في رام الله، كما توفر لرجل مثل يوسي ساريد اتخاذ قرار بإدراج قصائده في المناهج التعليمية، ولكنها في النهاية تعطي المرجعية النهائية لشرعية هذا القرار لـ (الضمير الجمعي الإسرائيلي) الذي يلغيه.
فإذا كانت إيديولوجيا الانتصار، تحاول التعرّف إلى ضحيتها، خارج مختبرات الأجهزة الأمنية، فإنها لن تمكّن هذه الضحية أبداً من تجاوز ذاتها عبر إيصالها إلى حقل التربية والتعليم، الذي يكسبها (تطويباً ضميرياً ما) يمكّنها من تأسيس موقع لها قادر على الاستمرار والديمومة بمعزل عن حالاتها الراهنة، وحالات (المنتصر) عليها.
ولعل ذلك، ما يفسر لنا على نحو واضح كيف أن ديوان (سرير الغريبة) لدرويش ترجم إلى العبريّة، (وقد حظيت الترجمة بقراءات وانطباعات إيجابية) حسب درويش الذي يعتبر هذا الأمر مقروناً بمنع تدريس قصائده في إطار المناهج التعليمية، واختصار الكلام عنه بالحديث عن قصيدة (عابرون في كلام عابر)، يعتبر هذا الأمر من المفارقات المدهشة؟! في الوقت الذي يجب عليه الانتباه إلى أن الحقل الذي تمت فيه ترجمة (سرير الغريبة) ليس حقل التعليم، بل هو الحقل الثقافي العام، الذي عادة ما يشكل منطقة قابلة (للتجريب) إلى حدود معينة لا يسمح بها الوصول إلى ملامح مضادة لهذا الحقل من خلال هذا (التجريب)، على العكس من حقل التربية والتعليم الذي يقع خارج إطار (التجريب) باعتباره حقلاً نمطياً خالصاً.
هكذا، يؤسس المهزوم لوجوده في فضاء المنتصر، فهو يقرّ له بانتصاره ولكن مع طلبه له بأن يظلّ نفسه، ولمّا كان ذلك يقلل من النتائج التي يحصدها المنتصر عادة، فإنه لا يقبل بأن يظل المهزوم نفسه، فيعمل على إحالته إلى وجود آخر ملتبس، ولما كان من الصعوبة على المهزوم الانقلاب ضد نفسه على نحو نهائي، فإنه يقبل بهذا الوجود الملتبس، فيستحيل الفلسطيني، كما هي حالة محمود درويش، إلى (إسرائيلي ـ فلسطيني) (اسراطيني)، أو فلسطيني من (إسرائيل)، فيكون (إسرائيلياً) بـ (القوة) يتم تحويله رويداً رويداً إلى (إسرائيلي) بـ(الفعل).
وها هنا لا يعود من مبررات لاستغراب درويش ودهشته، ولا لاحتجاجه على عدم الاعتراف به كهويّة ذات شأن، لأن الهويّة بهذا المستوى وفي حقل الالتباس المسوَّى بين المنتصر والمهزوم، ليست سوى (ملامح طبيعية) غير قابلة للتأرخة أو للإندراج كسيرة جمعية في الماضي، ولا قادرة على تأسيس ذاتها المستقلة في الحاضر.
من هنا، تكون قصيدة (عابرون في كلام عابر)، خروجاً على النظام الذي تفرضه إيديولوجيا الانتصار، ومندرجة في إيديولوجيا الهزيمة، فلا تتمثل خطورة القصيدة بمشابهاتها النازية واشتقاقاتها السياسية الدعائية (رمي اليهود في البحر)، بل في كونها تشكّل إحدى محاولات المهزوم للخروج من هزيمته، عبر نسف وعيه لنفسه كـ (فريسة) مطوّبة لـ (وحش)، وإعادة تركيب هذا الوعي بما يحيل (المهزوم) إلى (مقاوم) أو قادر على المقاومة، وإن كان بالانتصار الطويل الدهري، وها هنا يستفيق الوحش من أسر البلادة التي يسببها الانتصار عادة، وتعود ذاكرته إلى حركتها، فيستعيد خوفه ورعبه، الذي يمكّنه من ضبط تحولات شخصيته، ليبقيها ضمن حدود نظام إيديولوجيا الانتصار التي تكرّسه (وحشاً وحيداً في الساحة، كما تكرّس الآخر (فريسة دائمة) له، لا يجب ولا يجوز أن تتجاوز ذاتها، بالخروج على وعيها الراهن.
إن كان قرار يوسي ساريد يُقرأ في ثنايا إيديولوجيا الانتصار، كما يقول فيصل درّاج، فإن تمكنه من اتخاذ هذا القرار لا يأتي على نحو مطلق. أي لا يستهدف هذا القرار إعادة الاعتبار للشعر الفلسطيني كهوية محددة، بل يتجه نحو حالة خاصة، وشاعر معين، وقصائد مختارة، ليمارس فيها رؤيته وكيفياته، ومن المؤكد أنه لا يستطيع إدراج هذا الشاعر في مدى هذه الرؤية، كما تم إدراج إميل حبيبي سابقاً، بطريقة أخرى، لو لم يكن هذا الشاعر نفسه مُدرجاً في إطار وثنايا إيديولوجيا الانهزام التي يمثلها باعتناقه ذلك الالتباس المؤسَس على ثنائية ضدية (إسرائيلي ـ فلسطيني)، تحاول أن تنتج (مخلوقاتها) التي من غير الممكن التعرف إليهم وتوصيفهم خارج كونهم مُخترعاً إسرائيلياً بأيدي عاملة فلسطينية.
كتب هذا المقال في جريدة/ الاسبوع الأدبي العدد 735 تاريخ 18/ 11/ 2000م.