في 12 شباط من العام 1979، تم الإعلان رسميّاً عن انتصار الثورة الإسلامية في طهران، فطغت صورة أية الله الخميني على خريطة إيران، كما على تاريخها. بدا الخميني، حينها، وكأنه (ملء الزمان)، فلا يُرى ما قبله، ولا يُرى غيره في ما بعده، إن كان ثمّة تخيّل لـ (ما بعده)؟
في 19 شباط 1979، زحف الثوّار نحو السفارة الإسرائيلية في طهران، واحتلّوها ونزعوا عنها اسمها، واستبدلوه باسم سفارة فلسطين، وأعطوا لياسر عرفات الذي كان قد وصل مسبقاً إلى طهران (17 شباط)، شرف رفع العلم الفلسطيني فوق ما كان اسمه (سفارة دولة إسرائيل).
في خلال أسبوع واحد فقط، وقع هذا الحادث. بدا الأمر وكأنَّ الثورة الإسلامية في إيران، هي ثورة ضد (إسرائيل)، أكثر مما هي ثورة ضد الشاه والعائلة البهلوية!
كان احتلال السفارة الإسرائيلية واستبدالها بالفلسطينية نوعاً من تقديم (مثال حيّ)، عن طبيعة العلاقة التي تراها الثورة الإسلامية مع (إسرائيل)، والتي ليست، وفق هذا المثال، سوى (إزالتها من الوجود وعودة فلسطين لمكانها)، وعلى ذلك بدأت بإنتاج (خطاب الإزالة)، كما باشرت ميدانيّاً، بدعم أو بتأسيس القوى التي ستنضوي في إطار العمل على إنجاز هذا الهدف التاريخي الفاصل.
يعود خطاب الثورة إلى مرجعية إسلامية، ترى في فلسطين أرضاً محكومة بمعناها بـ (القدس) ورمزيتها التاريخية، غير القابلة للتراجع عن هذا المعنى بوجود المسجد الأقصى وقبّة الصخرة… ترتبط المسألة هنا بـ (موجودات) تشكّل جانباً من الأعمدة الكبرى التي ترتكز إليها (الهويِّة الإسلامية) التي اتخذتها الثورة شخصية نهاية لها. وبهذا المعنى لا تعود مسألة فلسطين تُدرج في حقل السياسة بآلياته النسبية، بل في حقل الهويِّة الدينية المحكوم بـ (إطلاقية) النصّ المرجعي.
خلال 40 سنة انقضت، واظب خطاب الثورة الإسلامية في إيران، على تكرار مفردات من نوع (محو، إزالة) لوصف مصير (إسرائيل) القادم حتماً… بل إنَّ مرشد الثورة علي خامنئي أعلن في العام 2015، بوضوح تام أنَّه (لن يكون هنالك شيء اسمه إسرائيل في العام 2040). لاحقاً، قام الثوّار وفي يوم القدس العالمي في العام 2017، بإزاحة الستار عن (العدّاد الألكتروني) الذي تم نصبه قرب السفارة الفلسطينية في طهران، والذي تُظهر شاشته العدّ التنازلي لزمن الوصول إلى إزالة (إسرائيل) والذي قرر السيد خامنئي حده الأعظمي عام 2040؟
نظريّاً، خطاب الثورة الإسلامية الإيرانية صارمٌ ونهائي. غير قابل للتعديل. وعلى ذلك إن كان الشاه محمد رضا بهلوي، لا يوجد له مكان في إيران، بدا وعلى التوازي، وكأنَّ (الفارسيّة) قد خرجت معه لتقيم في المنفى. حيث يمكن ملاحظة الارتباك الذي يسم العلاقة بين الثورة الإسلامية و (العمق الفارسي) للشخصية الإيرانية، والذي يبدو مُستبعداً، أقلّه من بنية الخطاب السياسي الرسمي.
في إطار الحرب السياسية – الإعلامية، التي تخوضها (إسرائيل) ضد إيران، قام بنيامين نتنياهو في آذار من العام 2017، بإضفاء بعد تاريخي، يتجاوز الزمن الإسلامي، نحو الفارسي عمقاً في وصفه لسياسة إيران الداعية إلى (إزالة إسرائيل)، قائلاً: (الإيرانيون سعوا قبل 2500 عام إلى القضاء على اليهود ولكنهم فشلوا في ذلك)؟
ليس معروفاً، إن كان نتنياهو جاهلاً بالتاريخ أو ناكراً لحقائقه، أو أنَّه يتجاوز هذه الحقائق قاصداً استفزاز (الشخصيّة الفارسيّة) الملتحفة بـ (الشخصيّة الإسلامية) لدى قادة الثورة والدولة؟
ذلك لأنَّ ردّ الفعل الإيراني الذي عبّر عنه وزير الخارجية محمد جوّاد ظريف، في إحدى تغريداته على مِنَصّة تويتر، يشي وكأنَّ نتنياهو نجح في دفع عدوّه نحو (فارسيّته) المستبّعدة، وإن كان من باب النصّ اليهودي: التوراة. حيث ارتكز ظريف في دفاعه، إلى كتاب الأسفار، وكتاب استر منه على نحوٍ خاص. فاتّهم نتنياهو بتحريف التوراة، وأكّد أنَّ الشعب الإيراني أنقذ اليهود في ثلاث مرات. اثنتان في الحقبة الفارسية وواحدة في العصر الحديث.
يُظهر القصّ التوراتي، كيف أنقذ الملك أحشويرش اليهود من مؤامرة هامان، وكيف أنقذ الملك قوروش اليهود من الأسر البابلي. أما في العصر الحديث، فيُعرف كيف قام الدبلماسيون الإيرانيون بإنقاذ آلاف اليهود من المحرقة النازية، ويضاف ما وفّرته إيران من طرق لهروب يهود العراق إلى فلسطين بعد العام 1948.
سيعود الوزير الإيراني، لتكرار دفاعه هذا في آذار من العام 2019، في إطار ردّه على وزير خارجية الولايات المتحدة مايك بومبيو الذي قال: (الله، ربما، أرسل ترامب لإنقاذ إسرائيل من إيران). أكدّ ظريف مرة أخرى في تغريدته قائلاً: إنَّهم يحرّفون التوراة لخدمة الإيرانوفوبيا. كما أكّد أنَّ من أنقذ اليهود من الاستعباد ليس سوى الملك الفارسي قوروش.
سيتباهى ظريف ويتشاوف على بومبيو قائلاً: إنَّ قوروش هو الأجنبي الوحيد الذي أُشير إليه – في التوراة – باسم: المنقذ. ودون أدنى عناء يمكن التأكّد من مصداقية كلام وزير الخارجية الإيراني، بفتح التوراة وقراءة مطلع سفر أشعيا (45:1): هكذا يقول الربّ لمسيحه، لكورش الذي أمسكتُ بيمينهِ لأدوس أمامه أمماً، وأحقّاء ملوك أُحلّ، لأفتح أمامه المصراعين، والأبواب لا تُغلق.
الدفاع الإيراني، في وجه نتنياهو وبومبيو، يعود في مرجعيته إلى (الفارسيّة) لا إلى (الاسلاميّة)، أي هو استعارة أو لجوء اضطراري إلى ما قبل الإسلام. بهذا المعنى هو وقوع في أسر استراتيجية النصّ التوراتي من جهة، ورواية النصّ السياسي الشاهنشاهي في واقعته الحديثة من جهة مقابلة.
لا شكَّ، أنَّ محمّد جوّاد ظريف، يمكنه كسياسي (غير مُعَمم)، من استعارة هذه الآليات الدفاعية، على نحوٍ لا يتيسّر لأيّ سياسي (مُعَمم). فعلى العكس، سيعود السيد خامنئي في أيار من العام 2020 ليقول: (فلسطين ستتحرر: الحلّ النهائي: المقاومة حتى الاستفتاء). قاصداً أنَّ الدولة الإسرائيلية ستزول، وسيتولى (المسلمون واليهود والمسيحيون) انتخاب دولتهم البديلة والجديدة.
يستخدم السيد خامنئي العبارة النازية (الحلّ النهائي)، التي تشكّل العبارة المفتاحية في البرنامج التسويقي المستمر لـ (اللا ساميّة) والذي يشكل السلاح الاستراتيجي الدعائي الإسرائيلي. يعود خامنئي بهذا المعنى ليدفع خطاب ظريف جانباً، مقصياً (البرعم الفارسي)، وعائداً إلى نصّ الثورة الإسلامية ومن صفحاته الأولى.
يقع اغتيال العالم النووي الإيراني فخري زادة، في إطار استهداف تدمير (العمارة البشرية) العلمية والنووية الإيرانية، والتي خسرت العديد من أركانها خصوصاً ما بين سنتي 2010 و2012، وها هي تخسر الآن واحداً من دعائمها الحامل لثقلها ومشروعها. هذه العمارة، ودون أدنى شكِّ، من مستولدات الثورة الإسلامية وطرازها الأيديولوجي ورؤيتها الاستراتيجية، التي تمتد شرفاتها نحو جنوب لبنان وغزة وتحاول بناء شرفة لها مقابل هضبة الجولان، لتطل على فلسطين المليئة بـ (إسرائيل).
نصُّ الثورة الإسلامية، هنا، هو المفتوح، مقابل النصّ التوراتي الذي يحفظ للملك قوروش مكانته الاستثنائية كـ (منقذ) لليهود من مصير الاستعباد، وها هي الدولة الإسرائيلية تقوم في العام 2015، بإصدار طابع بريدي يحمل صورة (إعلان قوروش) المكتوب باللغة المسمارية الأكادية على أسطوانة طينية.
رغم ذلك تظلّ عيون البرنامج الاستراتيجي الإسرائيلي مصوّبة تراقب ذلك العدّاد الألكتروني المنصوب في طهران، والذي سيتوقف تماماً عام 2040، ويمكن أن يتوقف قبلاً إذا ما تجاوزت الشرفات الاستراتيجية الإيرانية لأماكنها الراهنة، أو إذا ما نجح البرنامج الاستراتيجي الإسرائيلي في استكمال تدمير (العمارة البشرية) التي تقف وراء شاشة ذلك العدّاد وغيره من شاشات في طهران؟