العالم الآن

الجيش الأبيض يفقد جنوده…!

ملحمة استشهاد الأطباء في سورية في مواجهة كورونا

في الأيام الأولى لاجتياح وباء كورونا للبشرية، وارتباك الدول الكبرى والصغرى في تنظيم قدراتها للحدّ من توسّعه وانتشاره، بدت سورية خارج هذه الحملة الشرسة لفيروس لا يطلب التعرّف إلى الهوية، عندما يختار ضحيته. ورغم ذلك ذهب الظن بالكثير من الناس للقول بأن الحصار المضروب على سورية جاء في صالحها هذه المرة!

الأرقام الرسمية لم تكن تشير إلى إصابات بالمرض، والإجراءات لم تربك حركة العمل، ولا شيء يثير القلق، بل ثمة ارتياح عام بدا وكأنه تعبير عن أن سورية خارج نطاق الفيروس وقدرته؟

منذ أسابيع عدّة، بدأت تتسرب الأخبار المؤلمة: كورونا يضرب في سورية دون رحمة! هي ليست في مأمن إذاً؟ الإصابات تتزايد، الضحايا بدأت صورها بالتداول، الناس لم تأتلف مع متوجبات الحماية، الحكومة لم تأخذ أية إجراءات استثنائية…؟

وماذا بعد؟

بدأ الجيش الأبيض / الأطباء، خط الدفاع الأول والأخير، يفقد جنوده واحداً تلو الآخر في ملحمة لا تزال فصولها تتوالى…

من نافل القول أن َّخسارة أطبائنا في سورية، واحداً بعد الآخر، وربما العديد من ممرضينا، في غياب إعلان رسمي، وإحصاءات دقيقة، تثير كثيراً من الحزن والخوف وربما الهلع، وتستدعي كثيراً من التساؤلات والريبة.

لعل هذا الحزن، وذلك الخوف والريبة، ينبع أساساً من إحساسنا العام أن مصيرنا قد يتعلق بمصير هؤلاء الذين كانوا ولا زالوا يتمتعون بمكانة مرموقة في نظرنا وفي مجتمعنا – تلك المكانة التي ترتبط بخيالنا الذي يربط الطبيب بالذكاء والصبر والمثابرة والحكمة والسماحة التي نتغنى بها دائماً.

كيف لنا، خاصة في هذه الأيام الصعبّة، أن ننسى تلك الرحلة الطويلة التي تفصل تلك الطفولة المميزة لطبيب المستقبل، وصولاً إلى ذلك الطبيب المميز حامي المرضى وراعيهم.

ما أن تتوضح شخصية الطفل، وتتأكد قدراته وتميزه، حتى يعيّنه أهله “طبيباً”، وتبدأ رحلة طويلة شاقة يتحمل تبعاتها الأهل أولاً من جهد وشد عصبي ورقابة دائمة وسهر ومرافقة تهدف دائماً إيصال فلذات أكبادهم أطفالهم / مراهقيهم / شبابهم إلى الدراسة الثانوية المرهقة ثم الجامعة بسنواتها الطويلة، التي تتطلب جهوداً جبارة لإنتاج ذلك الطبيب فخر نفسه وفخر عائلته. في هذا الخصوص جدير ذكره وما يجب الاعتراف به أن نظام التعليم الحكومي السوري يتفرد بكونه شبه مجاني يتيح لفقراء الحال كما لأغنيائه أن يتابعوا حلمهم بدراسة الطب.

تبدأ مرحلة التخصص الطبي مترافقة مع نضج فكري وعاطفي ونفسي، لتدوم مرحلة إعداد طبيب اختصاصي في سورية قرابة عشرين سنة كاملة من الطفولة الباكرة. للمفارقة، الجيش الأبيض السوري ينتشر في مختلف دول العالم. خصوصاً في اوروبا والقارة الأميركية. في ألمانيا وحدها يوجد حوالي4500 طبيب سوري، والاحصاءات تشير إلى أن تعداد الأطباء في سورية لا يتجاوز 28 ألف طبيب!

كل ما عرضت سابقاً يوضح حجم الخسارة الهائلة والكارثة الكبيرة التي تحلّ عند خسارة طبيب في هذه الظروف.

تشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية أن إصابات العاملين في مجال الصحة بداء COVID-19 تشكل حوالي 10% من مجمل الإصابات، لتصل إلى 25% في بعض البلدان، يشكل الأطباء أكثر من 50% من وفيات العاملين في القطاع الصحي، وتتوزع نسبة الوفيات الباقية على الممرضين والصيادلة وعمال النقل وغيرهم في أوساط المشافي.

مما لا شك فيه أن حال قطاعنا الصحي لم يسلم من تبعات الحرب الكونية في سورية، مع فقدان مئات المنشآت الصحية جزئياً أو كلياً، وفقدان وسائل العناية الدوائية في جزء كبير منها، وفقدان مئات بل آلاف العاملين في مجال الصحة بسبب الهجرة أو الموت أو فقدان العمل وغيرها من الأسباب، ليصاب قطاعنا الصحي بإنهاك وإحساس بالعجز رغم الجهد الجبّار المبذول والمشرّف من جميع العاملين في قطاعنا الصحي، كل تلك العوامل أدت للأسف الكبير لخسارة عدد كبير من أطبائنا ليزيد حزننا حزناً، وإرهاقنا إرهاقاً.

لا تمثل خسارتنا لطبيب ما خسارة فردية، بل هي خسارة المرضى فيما بعد بما أن حياتهم تعتمد على حياة طبيبهم، خاصة في غياب البديل من الكادر الصحي…

تشير الإحصاءات أيضاً أن احتمال إصابة الطبيب بـ COVID-19 ترتفع إلى 12 مرة عندما لا يتحمل المجتمع كسر حلقة العدوى، فيدفع الطبيب والمريض ثمن الاستهتار غير المبرر، نتيجة عدم تطبيق التوصيات الصحية المعتمدة، واتباع قواعد التباعد الاجتماعي ومنع التجمعات.

ترتفع بعض الأصوات من هنا وهناك لتشير إلى قلة وسائل الحماية لهؤلاء الجنود في خط الدفاع الأول، مما لا شك فيه أن خسارة هؤلاء الأطباء يهدد “مخزوننا الاستراتيجي” في حُماته ومفكريه وروّاده…

أيها الطبيب، أيها الملاك الحارس، لا تميل، لا تنكسر، رغم الريح، رغم “الهشاشة”، ثمّة من يتكئ عليك…

الجيش الأبيض السوري، رغم تراجيديا سقوط جنوده، لا بدَّ أن ينتصر في هذه المواجهة.

د.حاتم سلّوم

طبيب وأديب سوري مقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق