-1-
يتندر العديد ممن يعتقدون أنّهم على اطلاع على التاريخ السياسي… يتندرون بعبارة تُنسب لونستون تشرشل، وهم يظنون أنّها (طرفة – نكتة)، تنتمي للأدب الساخر، لا لإرث الدهاء الإنكليزي العريق!
يقول تشرشل: (الحقيقة غالية جداً. يجب أن نحرسها بجيوش من الأكاذيب).
ما قاله تشرشل، قد يكون من المرات القليلة التي لم يكذب بها، في خلال حياته السياسيّة كلّها، فيما يواصل المؤرخون إحصاء أكاذيبه دون أن يتوقف العدّ إلى اليوم!
بلى، الحقيقة غالية جداً، ولا يمكن الترخيص بقيمتها وعرضها على قارعة الاعلام والمعارف المتداولة لدى عموم الناس، إلاَّ بعد أنَّ يمرّ عليها الزمن وتكون قد انتهت حياتها في (الواقع) وتحوّلت إلى (تاريخ). [لهذا السبب وجد قانون حفظ الوثائق وعدم الافراج عنها إلاَّ بعد 30 عاماً أو 50 أو 100 وصولاً إلى السجن المؤبد لوثائق لا تقدَّر بثمن – الحقيقة].
لهذا السبب تماماً – السبب غير المُضحك حتماً – يمكن أن نستخدم حرف الـ (لم) كافتتاحية لبداية التنقيب عن تلك الحقيقة المحميّة بأساطيل الأكاذيب وجيوشها الجرارة، في حوادث – أمثلة كهذه:
لم تقع الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، لأنَّ الصربي غافلريلو يرينسيب اغتال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فراند فرديناند، في 28 حزيران من العام 1914 في مدينة سارييفو.
لم تقع الحرب العالمية الثانيّة (1939 – 1945) لأنَّ أدولف هتلر يؤمن بالتفوق العرقي وحسب.
لم يتأسس (المشروع الصهيوني) لاعتبارات متعلقة بالـ (ظلم) الذي يلحق باليهود في مجتمعات العالم.
لم…..
لم يُقتل جون كينيدي لأنَّ (مخبولاً)! اسمه: لي هارفي أوزوالد، كانت هوايته اصطياد الرؤساء.
لم تسقط أبراج نيويورك في 11 أيلول 2001، لأنَّ المُقيم في مغاور تورا بورا كان عبقرياً فذّاً ومخططاً (فرط – استراتيجي)!
لم تحتل الولايات المتحدة أفغانستان لأنَّ أبراج نيويورك سقطت!
لم تدمّر الولايات المتحدة مع بريطانيا العراق لأنَّ صدام حسين يُخفي أسلحة الدمار الشامل تحت وسادته!
لم، ولم… ولم يدخل الجيش الروسي أوكرانيا لأنَّ اتفاق مينسك لا يتم تطبيقه!
عادة، ومع الطلقة الأولى لأية حرب تنشب، يُقال بأنَّ الضحيّة الأولى ستكون الحقيقة، والواقع أن هذه (المتنكرة) بثوب الضحيّة ليست سوى (كنز) لا يُقدَّر بثمن، ويُفترض أنه محمي بتلافيف من الأكاذيب المتوالدة التي تتكاثر وفق نظام الخوارزميات الذي تعتمده الآن الكومبيوترات العملاقة.
بالتأكيد، تشرشل لم يكن مهرّجاً.
-2-
جيوش الأكاذيب الفتّاكة المُعتمدة لحراسة وحماية (الحقيقة) في هذا العصر هي: الديمقراطيّة – الحريّة – حقوق الإنسان.
-3-
يمكن التيقن بسهولة من وجود أسباب جيو – سياسيّة واستراتيجيّة لـ (الحدث الأوكراني)، كما يمكن التيقن من وجود أهداف جيو – سياسيّة واستراتيجية ستنتج عنه. يكفي أن نستعرض بضع عبارات متداولة:
حلف الأطلسي وتوسّعه شرقاً حتى حدود روسيا.
مشروع نورد ستريم 2 وإمداد ألمانيا وأوروبا بالغاز الروسي الذي سيكون غير قابل للمنافسة وما يعكسه ذلك على قدرة ألمانية بالدرجة الأولى ومن ثم أوروبا – دون بريطانيا – على الاستقلال أكثر فأكثر عن القرار الأميركي.
الرؤية الروسية المتجددة حول تغيير نظام القطب الواحد العالمي، الذي اعتبره بوتين في كلمة له منذ العام 2007 بأنّه خطر على مستقبل العالم. وتصحيح الانهدام الناتج عن تفكك الاتحاد السوفيتي الذي وصفه بوتين أيضاً بأنّه (كارثة جيوسياسية).
إلى ما هنالك من مسائل مرتبطة بهذه القضايا المركزية ومتفرعة عنها. غير أنَّ الحدث الأوكراني ومن اللحظات الأولى لبدايته، تخطّى هذه المعاني كلّها، واتجه ليكون حول وجود روسيا في هذا العالم أو عدم وجودها.
-4-
تعتمد الولايات المتحدة الأميركيّة (نظام العقوبات) في إطار حروبها ومنازعاتها الدوليّة الدائمة، فهي مثلاً تفرض عقوبات على فنزويلا وإيران والجمهورية العربية السوريّة وكوريا الشمالية… وغيرها. وفي إطار مواجهتها لروسيا في أوكرانيا فعلّت هذا النظام على نحوٍ غير مسبوق بزجها لأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية للمساهمة في إيصال فعاليته إلى أقصى مدى ممكن.
يكفي أن نستعرض عينة عشوائية من العقوبات التي تفرض على روسيا الآن، لنقف على حدتها وشراستها، ولنبحث بالأخص في معناها ومرجعيتها:
إخراج روسيا من نظام سويفت.
استهداف الشركات الروسية دون استثناء.
استهداف رجال الأعمال الروس.
تجميد أصول تابعة للصندوق السيادي الروسي.
حجب روسيا من المنصّات الإلكترونية (فيسبوك، تويتر…).
شركات ماستر كارد وفيزا تحجب روسيا من خريطتها.
……
الشركة السويسرية المسؤولة عن مشروع نورد ستريم 2 تعلن إفلاسها.
جامعة بيكوكا الإيطاليّة تصدر قراراً بالتوقف عن تدريس مادة أدبية خاصة بالأديب الروسي فيودور دوستويفسكي (لماذا دوستويفسكي وليس تولستوي أو تشيخوف مثلاً!! هل انتقاماً من مقاله: المسألة اليهودية، والمستبعد من أثاره الكاملة؟ أو لأنّه قاهر النفس الكامدة وقادر على الوصول إلى أقصى ظلامها / جحيمها؟ – تراجعت عن القرار لاحقاً).
الاتحاد الدولي لكرة القدم يمنع الفرق الروسية من اللعب دولياً.
الاتحاد الدولي للقطط يقرر منع القطط الروسيّة من المشاركة في المسابقات الدولية.
متحف أرميتاج الهولندي يقطع علاقته مع المتحف الروسي الأم (أرميتاج) في سان بطرسبرغ.
فريق هاس الأميركي يفسخ عقد سائقه الروسي نيكيتا مازيبين.
منع الطيران الروسي من التحليق فوق أجواء أوروبا، وكندا، والولايات المتحدة ،وغيرها.
العمل على الاستغناء التام عن البترول والغاز الروسيين.
توقف سلسلة مطاعم ماكدونالدز عن العمل في روسيا وإقفال أبوابها (850) مطعم.
توقف سلسلة مقاهي ستاربكس عن العمل في روسيا وإقفال أبوابها.
أوركسترا ميونيخ الفيلهارمونية تستغني عن قائد الأوركسترا الروسي فاليري غيرغييف.
….. والعقوبات تتوالى على مدار الساعة، وكأنها بركان مدمّر لا أحد يعرف متى يتوقف وإلى أين ستصل حممه؟
عقوبات في مختلف الحقول، وحيثما يوجد روسي، دون استثناء.
دون أدنى شكّ: ثمة من ضغط على (الزرّ) الذي أعلن (النفير العام) في مختلف هذه الحقول والأنشطة التي نزلت كلّها إلى (جبهة العقوبات). (زرٌ) أخرج حتى سويسرا من حيادها التاريخي فتولت حصّة في جبهة العقوبات.
-5-
أكثر الأمثلة وضوحاً عن فعالية العقوبات الأميركية هو العراق، حيث أدت إلى تدمير كل ما تم بناؤه فيه منذ العام 1920. بلغة الأرقام بلغت الخسائر الناتجة عن العقوبات الأميركيّة في العراق أكثر من 30 تريليون دولار، عدا الخسائر البشرية.
السؤال: هل يمكن أن يكون للعقوبات التي تستهدف روسيا الدرجة نفسها من تلك التي طاولت العراق؟
الجواب، ليس بسيطاً من أحد خيارين: لا أو نعم.
في الحالة الروسية، وبسبب وضع روسيا ومستوى حضورها وقوتها ومكانتها، يتغير مضمون السؤال ليصبح: في هذه المواجهة الآن، التي تتمركز في المِنصّة الأوكرانية، وبدأت تتوسع اضطراداً مع العقوبات الغربية: هل ستغيّر روسيا العالم ونظامه، أو ستخرج منه، أو سيتجه العالم نحو دمار غير مسبوق؟
-6-
في الساعة الحادية عشرة مساءً، من يوم الجمعة الواقع فيه 31 كانون ثاني 2020، غادرت بريطانيا الاتحاد الأوروبي.
خروج بريطانيا من (الاتحاد – النظام الأوروبي) ليس مسألة عابرة، أو محدودة الأبعاد. هو في أحد أهم معانيه، عودة مخلصة لـ (البروتستانتي الأنكلو ساكسوني الأبيض) White Anglo Saxon Protestant (أنطر مفالة أحمد أصفهاني) الذي لا يرى في أوروبا الراهنة أي امتداد له، بل هي – أي أوروبا – ستكون من (الآخرين) الذين سيصار إلى ترتيب العلاقة معهم تأسيساً إلى رؤيته الخاصة لنفسه ولهم في آن.
هكذا استعادت منظمة (الأعين الخمس-Five Eyes Alliance) رؤيتها.[ تضم المنظمة الدول التالية: الولايات المتحدة، بريطانيا، كندا، أستراليا، نيوزنلاندا]، وأولى ثمار هذه الاستعادة إلغاء أستراليا لصفقة الغواصات النووية مع فرنسا. واستعادة التحديق بالقوس الأوروبي الشرقي الذي أسماه تشرشل (الستار الحديدي) في كلمة له ألقاها في كلية فولتون بولاية مونتيسوري الأميركية في 5 آذار 1946.
في 2 أيلول 1945، توقفت الحرب العالمية الثانية. الجيش السوفياتي هو من دخل برلين، وبعيداً عن مناقشة العامل الحاسم في هزيمة ألمانيا، غير أنَّ قوساً من الشركاء ساهم فيها، من الاتحاد السوفيتي إلى الولايات المتحدة مروراً ببريطانيا.
إذاً، ما الذي يجعل رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل، يسارع بعد 6 أشهر فقط للتحذير من الشريك السوفياتي وفتح باب العداوة المبكرة معه؟
تشرشل هو ابن المؤسسة الإمبراطورية البريطانية التي بلورت (عقيدة العداء لروسيا) في القرن التاسع عشر، والتي يكمن سببها العميق في ما عبّرت عنه ملكة بريطانيا فكتوريا (1837 – 1901)، مكثّفة فيه ما كان يُسمى باللعبة الكبرى. قالت: إنَّ المسألة هي (مسألة السيادة الروسيّة أو البريطانيّة على العالم – يذكر هذا القول المؤرخ الأميركي دافيد فرومكين في كتابه: سلام ما بعده سلام، ص 26، وهو يأخذه عن مصدر أخر من تأليف ج. كلايتون). والقول الملكي هذا جاء في إطار ذلك الانتباه البريطاني الخاص الذي بدأ وتنامى نحو روسيا التي لعبت دوراً حاسماً في هزيمة نابليون بونابرت (1814 – 1815)، والذي حاول، ابتداءً من مصر، الوصول إلى الهند (درّة التاج) البريطاني.
في تدرج متسارع – في ذلك القرن – تبلورت العقيدة البريطانية بمعاداة روسيا. يقول فرومكين: كانت خشية بريطانية (أنَّ روسيا لا تعرف أين ينبغي لها أن تتوقف. ومع انهماك مجتمع ترقى ديمقراطيته رقياً متزايداً، جيلاً بعد جيل، في الصراع مع روسيا ذات النظام المستبد، نشأت في نفوس البريطانيين كراهيّة لروسيا تجاوزت حدود الخلافات السياسيّة والاقتصادية المحددة التي تفرق بين البلدين. لقد أخذ البريطانيّون يكرهون الروس لا لمجرد ما يفعلون، وإنما لكونهم روساً. ص29 – المصدر السابق).
أكرر العبارة الأخيرة: أخذ البريطانيون يكرهون الروس لا لمجرد ما يفعلون، وإنما لكونهم روساً.
التاريخ مرة أخرى يضع روسيا شريكاً إلى جانب بريطانيا في الحربين العالميتين الأولى والثانية. الدور الحاسم الذي لعبته في هزيمة نابليون في القرن التاسع عشر، ستلعبه بدرجة ما في هزيمة (المحور) في الحرب العالمية الأولى (روسيا القيصريّة كانت إلى جانب الحلفاء في الحرب، لكن مع انتصار البلاشفة عام 1917 عقدت روسيا اتفاق سلام ثنائي مع ألمانيا، ولذلك لم تشترك في مؤتمر فرساي 1919، الذي سيُعتبر لاحقاً السبب في نشوب الحرب العالمية الثانية)، كما ستلعبه بدرجة حاسمة في هزيمة ألمانيا النازية بقيادة زعيمها وعدو بريطانيا اللدود أدولف هتلر.
والتاريخ مرةً تلو المرة، يؤكد (عقيدة العداء لروسيا)، وخصوصاً مع انتصار الشيوعيّة فيها وإقامة الاتحاد السوفيتي.
تشرشل، الذي يستخدم جيوش الأكاذيب، يعرف الحقيقة تماماً، ويعرف التاريخ حتماً. ويعرف أن اغتيال الدوق النمساوي لم يكن سبب الحرب العالمية الأولى. هو نفسه، عندما كان يرأس الأميرالية الملكية من أمر بإرسال البوارج البريطانية لمواجهة السفينتين الألمانيتين في مضيق الدردنيل في أيلول من العام 1914، ومن هناك ابتدأت الحرب، والتي كانت في سببها صراعاً على السيطرة على العالم ووراثة الإمبراطورية العثمانية المحتضرة.
لهذا، ولم تكد نشوة النصر تنتهي بعد هزيمة ألمانيا صيف 1945، سارع تشرشل إلى إيقاظ (عقيدة العداء لروسيا) ولكن هذه المرة في الولايات المتحدة التي ستستلم الراية منه (في كلية فولتون العسكرية)، وتبدأ رحلتها منذ ذلك الوقت في إنتاج كل ما يلزم لاستمرار تلك الراية مرفوعة، على عموم (العالم البروتستانتي الأنكلوسكسوني الأبيض).
التاريخ يشير إلى عدوين أزليين لبريطانيا: روسيا وألمانيا. والمفارقة أن المشاركة الحاسمة لروسيا في هزيمة ألمانيا في الحربين العالميتين، لم تجعلها صديقة لبريطانيا، وتالياً للولايات المتحدة، بل عمقت العداوة بينهما!!
هل يمكن، في ضوء ما سبق، قراءة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بأبعاد إضافية متعلقة بـ (الحقيقة الغالية) لا بجيوش الأكاذيب التي تحرسها؟
وبالتالي، هل يمكن تفسير (الحماس البريطاني المفرط) في المواجهة مع روسيا؟ والذي يتخطى أحياناً الإيقاع الأميركي في هذه المواجهة، والتي تلقائياً ستؤدي إلى (تأديب أوروبا، وخصوصاً منها فرنسا وألمانيا). ليس فقط بسبب طبيعة علاقتهما المتنامية بروسيا يوماً بعد يوم، بل وأيضاً لأن الرئيس الفرنسي غامر ذات مرة وبدأ التبشير بنهاية سيطرة (الغرب) – الذي يقوده المركز الأميركي / البريطاني الانكلو سكسوني…) ولأن ألمانيا لم ينقصها إلاَّ أن يبدأ الغاز يسيل من خط نورد ستريم 2 حتى تعلن استقلالها عن القرار الأميركي والأطلسي عموماً؟
أيضاً وأيضاً، يعود التاريخ إلى تأكيد استمرار اللعبة الكبرى، فـ (الحقيقة الغالية) تشير إلى أن مشروع الخط الحديدي بغداد – برلين، الذي كان كفيلاً بإيصال ألمانيا إلى (قلب الشرق الأدنى) كان سبباً رئيساً في نشوب الحرب العالمية الأولى، وها هو خط نورد ستريم 2 يرثه في التسبب في المواجهة الراهنة.
روسيا كما ألمانيا، تحكمهما جغرافيا تجعل من إمكانية وصولهما لبحار وسط العالم (ابتداءً بالمتوسط) عملية ذات تكلفة عالية أقلها خوض حروب.
بريطانيا كما الولايات المتحدة، بحار العالم امتداد لهما. الأولى مقيمة تماماً في الماء المالح الذي اعتبرته ملكها وبساطها الذي مكنها من أن تكون امبراطورية لا تغيب عنها الشمس. الولايات المتحدة ورثت هذه الوصاية على بحار العالم، بإقامتها محروسة من محيطين.
بريطانيا والولايات المتحدة، تحاولان الإبقاء على حكم الجغرافيا أبدياً في روسيا وألمانيا.
-7-
العقوبة في معناها، تتدرج من كونها (تربويّة) إلى كونها (عقاباً). والعقاب يتدرج من أبسط حالاته التي يشار إليها بـ (فركة أذن) ليصل إلى أقصاها: الإعدام.
في مختلف معانيها، مجرد أن تأخذ بها (دولة) كسياسة تمارسها ضد غيرها، تنذر بذلك المعنى الذي يشير إلى أن (المُعاقِب) يتماهى مع (القدرة الكلّية) التي تجعله (يؤدب ويربّي) من يؤمل منهم تصحيح سلوكهم، ويقرر إعدام من ارتكب جريمة لا تغتفر ولا أمل منه يجعله متجهاً لتصحيح سلوكه في (حياة) لم تعد تحتمل وجوده.
العقوبات الأميركية عموماً، تأخذ معنى الحكم المؤبد وصولاً للإعدام. بالطبع (المُعاقَب) هنا هو (الكائن السياسي) ومعه (الكائن المجتمعي). أي الدول والأمم والمجتمعات. (العراق مثالاً، والآن الجمهورية العربية السورية).
في (تسونامي العقوبات) الصادرة بحق روسيا والتي تطاول (القطط الروسيّة) جنباً إلى جنب مع (الغاز والبترول والطيران…) ثمّة ما يدعو لملاحظة ذلك المعنى الذي يؤكده (تسونامي) أي الفيضان / الاعصار الكاسح المدمّر لكل ما هو موجود على (اليابسة).
(القدرة الكلّية) هي من تقرر حدوث الفيضان. ها هنا يدل (الإله الخبيء) عن نفسه، يشير إلى وجوده، أو إلى افتراض وجوده دون حاجة إلى جيوش الأكاذيب لتحرسه كـ (حقيقة غالية).
(الغرب – وهو بشكل رئيسي: أميركي – بريطاني) ووفق نسق العقوبات التي يفرضها على روسيا، يتصرف وكأنه يقرر (إعصاراً / فيضاناً) سيكون من الصعوبة الخلاص من شراسته، فإن كان (نوح) قد أخطأ في الفيضان الأول ووضع في سفينته من جملة أعراق الجنس البشري، (سلافياً أنجب الروس لاحقاً) الذين أنجبوا تالياً: بطرس الأكبر… ولينين ودوستويفسكي وبوتين… ففيضان العقوبات الهائج الآن لن يمكّن مركب (الحفاظ على الكائنات) إلاَّ من حمل وإنقاذ من يقف إلى جانب أخواته الأوروبيات المؤدَبات كفرنسا وألمانيا، في العالم الذي يسيطر عليه الأميركي – البريطاني (الكلّي القدرة).
هل (عقيدة العداء لروسيا) المؤسسة قبل قرنين تفسر المعنى المرجعي للعقوبات؟
وهل العقيدة الحداثية، التي تجعل الأميركي مؤمناً على نحو كلّي أنَّ مستقبل العالم، ومعه مستقبل الجنس البشري هو اختصاص أميركي صرف غير قابل للمشاركة على الإطلاق. هل تشكّل هذه العقيدة مرجعية لتفسير حدوث هذا (الفيضان العقابي) وتالياً طبيعة المواجهة الراهنة؟
-8-
ماذا في الجانب الآخر؟
فلاديمير بوتين ليس رجلاً (بلا فكر) – يحاول الاعلام الغربي إنتاجه كنسخة معدّلة عن هتلر- هو، بوصف أولي، (سوفيتي عابر نحو أوراسيا).
كان قرب جدار برلين (يوضّب أوراقه) عندما شاهده يسقط مفتتحاً باب تلك (الكارثة الجيوسياسية) التي فككت الاتحاد السوفيتي، ونصّبت الولايات المتحدة (قطباً وحيداً) يتجه لـ (يُنهي التاريخ).
هو يعرف ذلك الزمن الذي كانت روسيا فيه مع جمهوريات الاتحاد، تشكّل العمود الثاني الذي يحمل العالم ونظامه، مع العمود الآخر الذي تشكّله الولايات المتحدة مع حلفائها.
لم يستسغ أن يكون العالم محمولاً على عمود واحد، لا لسبب جيوسياسي وحسب، بل ولسبب أخلاقي، كما قال ذلك في مؤتمر ميونيخ للأمن 2007.
لم يُصَب بـ (نكوص نستالوجي) نحو نظام شيوعي قضى بفعل إرهاق السباق مع النظام الرأسمالي. بل واجه (الكارثة) بمراجعة نقدية مسلّحاً بالعدّة المنهجية لما يشكّل (العقيدة الأوراسيّة) التي ستشكّل عقيدته ومرجعيته، كما سيُشار إلى واضعها وفيلسوفها ألكسندر دوغين بأنّه يقيم في (فكر بوتين) للتدليل على سلطته المرجعية عليه.
سيعيد مع دوغين اكتشاف الاتحاد السوفيتي، بكونه ليس سوى (روسيا التاريخيّة) التي لعب بها البلاشفة (إدارياً) واستولدوا (جمهوريات) لم تكن موجودة تاريخياً.
الاتحاد السوفيتي، بالنسبة لألكسندر دوغين، هو روسيا التاريخيّة المشوّهة بفعل جراحة (سايكس – بيكوية) أجرتها الشيوعيّة. واستناداً لذلك سينتقد بوتين صراحة لينين لفصله أوكرانيا عن روسيا واعتبارها جمهورية (راجع خطابه في 21 شباط 2022). سيقول: ظهرت أوكرانيا السوفيتية نتيجة للسياسات البلشفية، فهي (أوكرانيا فلاديمير إليتش لينين). واستتباعاً ولكونها (سوفيتية الولادة) كان يُفترض أن تقضي مع (الموت السوفيتي) مع تفكك الاتحاد.
لكن بوتين نفسه، لم ينتبه إلى هذا الربط السببي إلاَّ مؤخراً، فكان اعترافه بحكومة أوكرانيا بمثابة (خطأ) سيلومه عليه ألكسندر دوغين.
لا يتوقف الأمر عند المسألة الأوكرانيّة، فالأوراسية تقدم نفسها كـ (نظرية رابعة) إلى جانب الفاشيّة والماركسيّة والليبراليّة. ولكنها فلسفياً تشكل بديلاً عن هذه كلّها.
سيتوجه النقد الأوراسي نحو اللينينية والستالينية والتجربة السوفيتية عموماً وليس نحو ماركس بوصفه فيلسوفاً مرجعياً لها. وبطبيعة الحال ستكون الفاشية نقيضاً مهزوماً تاريخياً، ولكنه يتجدد مع (النازيين الجدد) في أوكرانيا (الغربية).
المواجهة الكبرى والحاسمة ستكون مع الليبرالية الغربية.
بالنسبة لألكسندر دوغين، الليبرالية الغربية تبشّر بقيم حداثية مفرطة سيصل الانسان معها إلى العدم، مع تمكنها من تهديم أسس المجتمعات وركائزها التقليدية. الأوراسيّة تعود إلى ذلك (الإرث العريق) والمقدس للعهد الامبراطوري الذي يحفظ تلك المجتمعات وقيمها. ومن هنا سينظر إلى (الأرثوذكسية) باعتبارها ملازمة لنهوض (روسيا التاريخيّة) ومرجعيّة لصياغة القيم الروسية ماضياً وحاضراً وفي المستقبل.
بهذا المعنى تكون (الأرثوذكسية الروسيّة) المقابل الضدي لـ (البروتستاتيّة الأنكلوسكسونيّة).
[في إطار هذا المفهوم، أصدر بوتين القانون الذي يحمي (العائلة) من التشتت والضياع والاندثار الذي تسببه (المثَليّة الغربيّة الليبراليّة). كان ردّ فعل السفارة الأميركيّة في موسكو حينها، نكاية ببوتين وإمعاناً في إظهار التناقض (القيمي) معه، أن رفعت علم (قوس قزح) الذي يرمز للمثليين!]
قطعاً، لا يتجه بوتين نحو استعادة (مكانة الاتحاد السوفيتي) لإحياء نظام عالمي ثنائي مجدداً. بل حتى الثنائي خطر على العالم الذي يجب أن يكون مستقبل نظامه متعدد الأقطاب، استناداً إلى الرؤية الأوراسيّة.
شكّل تدخله المباشر في (الحدث السوري) ابتداءً من العام 2015 صدمة استراتيجية استثنائية، لكنها لم تكن خرقاً لما تعتبره واشنطن لـ (الخطوط الحمراء). فيما وبناءً على نصيحة ألكسندر دوغين حاول بوتين اختراق هذه الخطوط بتقربّه من ألمانيا خصوصاً. اعتبر ذلك بمثابة (اعتداء) على النظام الأميركي ومجاله، فمن شأن نوردستريم 2 وملحقاته أن يغيّر أوروبا برمتها. ألمانيا خط أحمر أميركي – بريطاني.
يؤكد دوغين ما قاله برجينسكي من أنَّ روسيا لا يمكن أن تكون دولة عظمى دون أوكرانيا. ولهذا قال بوتين في خطابه الأخير: (لا يريدون وجود بلد كبير مثل روسيا).
في دخول الجيش الروسي أوكرانيا يتجه فلاديمير بوتين لتصحيح ثلاثة أخطاء: خطأ لينين باختراعها إدارياً، وخطأ استقلالها مع تفكك الاتحاد السوفيتي، وخطأ روسيا بالاعتراف بها. وإذا ما تمكّن من ذلك تكون الأوراسيّة قد أنتجت نسختها التطبيقية التي نقترح مصطلحاً لها هو: الدوغينيّة – البوتينيّة، على التوازي مع الماركسيّة – اللينينيّة المنقضية. وتكون روسيا في طريق الانتصار الذي إن كان كاملاً (كاملاً فقط) سيتغيّر العالم.
-9-
العقوبات / الإعصار، تستهدف (اقتلاع روسيا)، بل (استئصال روسيا) من جسد (النظام العالمي) المحكوم أميركيّاً، وهو (استئصال) مكلف جداً وخصوصاً في الجبهة الأوروبية، فمن شأن ارتداد الفيضان إغراق أقوى المواقع التي تعتبر نفسها بمستوى جبل (آرارات) حيث كانت ترسو سفينة (نوح).
روسيا لا يمكنها الخلاص من هذا الإعصار إلاَّ بتغيير جسد هذا النظام، أي تغيير العالم.
-10-
قطعاً:
تشرشل لم يكن مهرجاً.
بوتين ليس مهرّجاً.
اللعبة الكبرى لا تزال (تُلعب) منذ العهد الفيكتوري إلى الأحفاد… عبر الأطلسي.
تحية عاطرة إلى الباحث والكاتب الأمين نزار سلوم وثناء على دراسته الموضوعية وطلبا منه الإكثار من نشر دراساته القيمة تعميما للفائدة وتوسيع مدى الاطلاع عليها ومعرفة خفايا الأمور الدولية التي تحجب حقيقتها اركان من الأكاذيب التي تنطلي على معظم الناس،وما دور الكتاب والباحثين امثال الأمين نزار سلوم الا فضح الأكاذيب وإظهار الحقائق وفاء للمعرفة واحتراما للتاريخ وتنوير العامة التي تؤخذ بالاشاعات والأساليب…
بكل محبة وتقدير.
شكراً جزيلاً لتفضّلك بالقراءة العميقة للمقال، ولثقتك الغالية، وأرجو أن نتمكن دائماً من مقاربة الأحداث المعقدة ونبسطها بعد تفكيكها حتى تبدو على حقيقتها.
خالص الاحترام والتقدير.
عزيزي نزار
مقال رائع جدا وتحليل عميق.
تحياتي
ألف شكر دكتور
لك تحياتي ومحبتي.
مقال رائع يفنّد حقيقة الصراع والسيطرة
شكراً جزيلاً.
الدوغينية- الپوتبنية تقتصر على مجال جغرافي معين مثل روسيا، ولكنها لاتصلح لمجلات جغرافية اخرى ولايجمعها بالمجتمع العالمي سوى انشاء قطب جديد مبني على مصالح قومية ضيقة ضمن دولة مشوهة اقتصاديا ويتحكم فيه الرأسمال او الرأسمالية واقطاب البنوك والمؤسسات المالية، والاوليغارشية واللوبي او بالاحرى اللوبيات..، و ان كانت توجد فيها عدالة اجتماعية فهذا يعود الى الإرث السوفيتي. هو الحنين للماضي، ماضي الإمبراطورية الروسية وتوسعتها وضم الكثير من الأراضي بالقوة، اما الماركسية البينية فهي نظرية كاملة الاهداف يعني انها تمثل العمال والفلاحين في كل ارجاء المعمورة انه فكر موحد لكل الطبقات المسحوقة والمهموشة، انها خارطة طريق وكبداية او محاولة إنسانية لانشاء مجتمعات مبنية على عدالة اجتماعية وبطييعة الحال لم تطبق الاشتراكية بالشكل المطلوب في الاتحاد السوفيتي السابق، بسبب عدة أمور: ومنها الضغطوتات الغربية ,هذه الضغطوتات إدت لى غلق المجتمع، منها ايضا الحرب العالمية الثانية ونتائجها الوخيمة على الانسان السوفيتي، ازيد من 26 مليون قتيل وتدمير اكثر من 80 الف مدينة زيادة وقرية، ولمنتصف السبعينات كان الاتحاد السوفيتي مشغطغول بإعادة بناء البنى التحتية التي دمرت نتيجة الحرب العالمية الثانية، اي الغرب كان يتطور في مجالات عديدة والاتحاد السوفيتي مشغول او منهمك بإعادة بناء البنى التحتية التي دمرها آلة النازية الغربية. باعتقادي( وانا على قناعة تامة) بان الاتحاد السوفيتي قدم للبشرية افضل الخدمات والانجازات وأكثر من كل دول العالم جامعتا خلال تاريخه القصير. الصين إستفادت اكثر من التجربة السوفيتية وعلى اسس هذه النظرية بنت مجتمعها الخاص بها ومشاريعها العملاقة والاكثر رفاهية من المجتمع الروسي. اما الروس فقد استفادوا من البنى التحتية للاتحاد السوفياتي والحنين للماضي الروسي القيصري ومسمتعمراتها، ولم يقدموا نظرية شاملة لتطوير الفكر الروسي، نظريتهم مبنية على إعادة مجد للدولة القيصرية والكنسية الارثودكسية، وتتغلب مبادئها القومية على مبادءها الانسانية ( العصر السوفيتي)، والكثير مع روسيا ليس حبا فقط بالرئيس بوتين انما نكدا بسياسة الغرب المدمرة هذه السياسة التي خربت بلدان كثيرة.هنا ايضا يجب ان اعترف بان السياسة الروسية في المواجهة مع الغرب هي اكثر وضوحا من الموقف الحرباء ي الصيني.
دون أدنى شكَّ، الماركسيّة – اللينينيّة هي مسألة مختلفة في مرجعيتها وفي حمولتها الفلسفيّة وفي أهدافها.
اقترحت مصطلح الدوغينية – البوتينية كتعبير عن النظام الروسي القائم وليس للمقارنة مع الماركسية – اللينينية.
شكراً جزيلاً لتعليقك.
هذا المقال في إطلالته البانورامية على كل شيء، عموديا وأفقيا، تاريخيا وفكريا، نظريا وعمليا.. يجب أن يؤخذ كمادة لحلقات البحث في كليات العلوم السياسية.
مقدرة محترمة عند الكاتب على التوزيع والتجميع من جديد.
شكرا
شكراً جزيلاً لمطالعتك المتمعنة، وأرجو أن نساهم في تطوير المنهج المقارب للمسائل المعقدة حتى لا نبقى أسرى كتابات صحفية إنشائية.
هذا ما يسمى برأيي ب”العودة نحو المنبع” لفصل التلوث الطارئ عن التكوين الأساسي لتيار الماء الذي يصل إلينا.
وفي هذا فائدة منهجية نقدية هائلة القيمة للوصول إلى تصور عما يحدث، والمساهمة في الحدث بما يخدم حقوقنا المشروعة كبشر أولاً، و كأمة ذات هوية ثانياً.
رأي عميق وكثيف المعاني. شكراً جزيلاً.