عندما سقطت أبراج نيويورك في 11 أيلول 2001، واستحالت ركاماً هائلاً، لم يجد الأميركيون تسمية للخلاء/الفراغ، الذي حلَّ بعد إزالة الركام سوى: الصفر الكبير/المنطقة صفرGround Zero.
الصفر الكبير، في أحد معانيه الاقتصادية، يشير إلى عملية إنتاج خريطة طريق، غير مؤسسة على أفكار مسبقة، من أجل صياغة أهداف مستقبلية، يفترض تسخير أحدث الوسائل لإنجازها. على أن هذا المعنى الذي تأخذ به الشركات الكبرى المتعثرة، يقصّرعن معنى الصفر الكبير الوطني أو القومي، الذي يأتي بعد وقوع حادث استثنائي وغير مسبوق.
بهذا المعنى، شكّلت المنطقة النيويوركية المسمّاة: الصفر الكبير، بمعناها الثقافي، الهويِّة المستجدّة والمرافقة لنظام استراتيجي، تم ترتيب أوليّاته تأسيساً إلى (الهدم) الذي لحق بالبرجين العملاقين، الذين استحالا إلى (ركام)، وإلى ما يجب (تعميره) في الفراغ، بما يتفق وهذه الأوليّات.
من حيث المعنى الرمزي، وربما الواقعي، يترادف تدمير مرفأ بيروت، مع تدمير أبراج مركز التجارة العالمي في نيويورك، وعلى ذلك يبدو. التسلسل:ركام —> فراغ، متجهاً نحو تأسيس الصفر الكبير اللبناني.
على أنَّ (الركام) الذي يثقل واجهة بيروت البحرية ومرفأها، كان قد سبقه (الركام) المالي الناتج من احتجاز مدخرات المودعين و(إفراغ) جيوبهم، ونسف الحياة المصرفية، مع تدهور قيمة الليرة، مضافاً إلى ذلك كله تأثيرات قانون قيصر والعقوبات التي طالت بيروت كما دمشق.
في موازاة ذلك، تسارعت ورشة إنتاج (الركام السياسي)، مع قدوم الرئيس الفرنسي لتفقد (الركام الخرساني) مع السياسي، الذي يتوالى ارتفاع أشلائه يوماً بعد يوم، وسيكون مطلوباً إزالته، للوصول إلى (الفراغ السياسي الكبير).
يمكن توضيح هذا الإطار النظري، وفق النقاط التالية:
أولاً – إنَّ تدمير مرفأ بيروت، أنتج (الركام) الذي يحتاج إلى (إزالة) أو كنس، ليصار إلى (تعمير الفراغ) بمرفأ جديد وحديث. لكن، مَن سيقوم بذلك؟ ولماذا؟
من المؤكد أنَّ إدراج بند (إعادة الإعمار)، في مؤتمر دعم لبنان الذي عُقد بمبادرة فرنسية، يعني أنَّ المنظومة الدولية، بحصّة فرنسية وازنة، هي من ستتولى هذه العملية. الحروب – مثل الحرب الدائرة في سورية – لا تتوقف، غالباً، إلاَّ بعد الاتفاق على عملية (إعادة الإعمار)، حيث تعني هذه العملية بالمعنى الحرفي (ملء الفراغ)، بمختلف مستوياته: الخرسانية، من أبنية وبنية تحتية وغيرها، وسياسية واقتصادية، من أنظمة وقوانين وقوى سياسية.
ثانياً – يرتبط بذلك عضوياً، البحث في طبيعة الوظيفة العتيدة لـ ( المرفأ الجديد)، وتالياً (لبنان الجديد)؟
هل يمكن أن يستعيد مرفأ بيروت القادم، وظيفة مرفأ بيروت القديم؟ ليس بقدرته وطاقته الاستيعابية، بل بتوضّعه، بشكل رئيسي، على خريطة الحركة الاقتصادية الآيلة إلى إجراء تغييرات كبرى في مواقعها وقواها المتحكمة بمجالها، وذلك في ضوء المصير الذي ستؤول إليه ملفات المنطقة الممتدة من طهران وحتى طرابلس الغرب؟
ثالثاً – على التوازي مع هذا المستوى، هل يتضح المقصود بضرورة تغيير النظام/ الميثاق اللبناني، الذي تحدث ماكرون عنه، ليكون النظام القائم ليس سوى (الركام السياسي) المفترض إزالته، و(تعمير) نظام بديلٍ وموازٍ لـ (الوظيفة الجديدة) التي سيتنكبها (لبنان الجديد)؟
رابعاً – أيندرج طلب إنجاز إصلاحات تطاول المصرف المركزي، في استكمال إنتاج (الفراغ) المالي، الذي سيصار إلى تعميره بآلية ربطٍ محكم مع صندوق النقد الدولي؟
خامساً – هل التهديم السياسي الذي يحصل الآن، من حركات تتوسّل العنف الممنهج، إلى استقالات سياسية، سيستكمل جبل (الركام السياسي)؟ وكيف تتأكد طبقة الركام السياسي (العريقة)، أنها غير مشمولة بـ (الإزالة)؟ أو ستكون حاضرة في عملية إعادة الإعمار السياسية؟
تساؤلات كثيرة ومتعددة، قد تجيب عنها وقائع الأيام القادمة، ومن المؤكد أنها ناتجة من نار وغبار ذلك التدمير التام لمرفأ بيروت. التدمير الذي صاغ: الصفر الكبير اللبناني، وأسوة بغيره من الأصفار الكبرى، تصاحبه حقيبة استراتيجية تملأ فراغه، وتغيّر عمارته ووظيفتها وثقافتها، وربما، سكانها؟
أحييك. شكرا لهذا المقال !