العالم الآن

الصهيونيّة المسيحيّة وإسرائيل..ونهاية الزمان!

النشوء والمسيرة والدور الراهن

 

“الله في ورشة عمل. هو يعشق إسرائيل. هؤلاء هم شعبه”. هذا ما صرح به القس الإنجيلي الأميركي فرانكلين غراهام، رئيس جمعية “بيلي غراهام (والده) الانجيلية” وجمعية “سامارتن بالس” العالمية، الذي كان قد زار الكيان الصهيوني بعد شهر تقريباً من هجوم 7 تشرين الأول الفلسطيني واجتمع مع نتنياهو و”صلى له ولكل الإسرائيليين الذين تأثروا بالهجوم”(1). كان قد سبق ذلك الكثير من التصريحات الأميركية الداعمة والمشجعة لإسرائيل لخوض حربها “دفاعا عن نفسها” ومنها تصريح لرئيس مجلس النواب الأميركي المنتخب المسيحي الإنجيلي مايك جونسون بان “الله سيبارك الأمم التي تدعم إسرائيل”(2).

جذور المسيحية الصهيونية

قد ينذهل المرء لأول وهلة لعمق هذه الدعم “المسيحي” للدولة اليهودية في الأراضي التي تعتبر “مقدسة” مسيحياً، لكنه سيبدأ بفهمه عندما يغوص في التاريخ الأوروبي غير البعيد نسبياً. بعد ثورة مارتن لوثر البروتستانتية في بداية القرن السادس عشر على الكنيسة الكاثوليكية بدأت نظرة المسيحية إلى اليهودية تتحول تدريجياً وأصبح كتاب التوراة يأخذ أهمية كبيرة في إيمانهم وخاصة عند البروتستانت الذين اعتبروه بذات المستوى أو قد يفوق أهمية الإنجيل. الأمم الأنجلو-سكسونية كألمانيا وانجلترا وبعدها هولندا مالت إلى البروتستانتية، وفي 1539 خطى ملك إنجلترا، هنري الثامن، خطوة مهمة باتجاه الإيمان بكتاب التوراة بجمعه والإنجيل في (كتاب مقدس) واحد تمت ترجمته إلى اللغة الإنكليزية مع وضع نسخة منه في كل كنيسة. بعد هذه الترجمة أصبح (الكتاب المقدس) بعهديه القديم والجديد أعلى مرجع للكنيسة الإنجليزية وجزءاً من الثقافة الإنكليزية العامة. حسب الكاتب والباحث الفلسطيني أحمد الدبش “أصبحت اليهودية، على مدى ثلاثة قرون بعد ذلك، العامل القوي الوحيد المؤثِّر في الثقافة الإنجليزية ,… وحل (الكتاب المقدَّس) محل البابا، كسلطة روحية عليا، وحلَّت كلمة “الرب” لإبراهيم، وموسى، ووصايا أشعيا، وإيليا، ودانيال، والمسيح، وبولس، محل الأوامر البابوية”، وبذلك رُسِخت في إيمان البروتستانت فكرة الرابطة الأبدية بين اليهود وفلسطين، باعتبارها وطنهم القومي، الذي أٌخرجوا منه، والذي يجب أن يعودوا إليه(3).

 هذا الإيمان الجديد، بالإضافة إلى تفسير الرموز المشفرة في سفر الرؤيا في الإنجيل على أنها “جدول زمني لنهاية العالم”(4)، بدأت نتائجه تظهر تدريجياً من خلال الدعوات والنشاطات لترجمته سياسياً منذ نهاية القرن السادس عشر. نذكر من هذه الدعوات دعوة اللاهوتي توماس برايتمان في العام 1588 في كتابه “القيامة، القيامة” إلى إعادة اليهود إلى أرض الميعاد “لأن الله يفضل أن يعبد من هذا المكان”(5)، ودعوة “السير هنري فنش”، البرلماني والمستشار القانوني لملك إنكلترا، في العام 1621 في دراسته حول “الاستعادة الكبرى للعالم” إلى استعادة “امبراطورية الأمة اليهودية” ليعيش فيها اليهود بسلام إلى الأبد(6). استمرت هذه الدعوات إلى بداية القرن التاسع عشر حيث تم تأسيس عدة جمعيات مسيحية تبشيرية في بريطانيا مهمتها الترويج للمسيحية بين اليهود وهدايتهم وإقناعهم بالرجوع إلى فلسطين (إعداداً للخلاص)، ومنها “جمعية لندن” بإدارة القس لويس واي في العام 1809 و”جمعية التبشير الكنسية” في العام 1799 التي انتشرت بشكل واسع في منتصف القرن 19 وأصبحت منبراً أساسياً للمسيحيين “الصهاينة” أمثال امير شافتسبري السابع (Anthony Ashley-Cooper)(7).

شافتسبوري اعتبر أنَّ اليهود هم الأمل في العودة الثانية للمسيح بعودتهم إلى فلسطين، وهو أول من أطلق دعوة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” في مشروع قدمه إلى قريبه، لورد هنري بالمرتسون، وزير الخارجية ورئيس الوزراء في ما بعد (8)، أثناء عقد “مؤتمر الدول الأوروبية” في لندن عام 1840. المؤتمر تبنى مشروع “خلق كومنولث يهودي في النصف الجنوبي من سورية، أي فوق المساحة التي شغلتها فلسطين التوراتية” (9). بهذا حوّل بالمرستون طموح وجهود الإنجيليين إلى برنامج جيو-سياسي ربط به اليهود بالمصالح البريطانية في الشرق الأوسط. كذلك اتخذ الإنكليز عدة خطوات عملية في هذا الاتجاه، ففي العام 1839 تم إنشاء أول قنصلية إنجليزية في القدس وتعيين قس بروتستانتي نائباً للقنصل، وفي العام 1844 أسس البرلمان الإنجليزي لجنة “إعادة أُمة اليهود إلى فلسطين”، وفي العام 1845 بدأ العمل بـ”المكتب الاستعماري” الذي وضع الخطط الأولية لإقامة مستعمرة يهودية في فلسطين، وفي العام 1865 تم تأسيس “صندوق استكشاف فلسطين” في لندن لتمويل البعثات الاستكشافية التي وضعت الخطط للتمهيد للاستيطان. هذه التحركات وصلت إلى ذروتها السياسية في مؤتمر العام 1907 الذي دعا إليه “كامبل بنرمان”، رئيس وزراء بريطانيا، وحضرته سبع دول أوروبية وقُرر فيه زرع (جسم غريب) في العالم العربي يكون ولاؤه للغرب ويفصل المشرق عن المغرب، وذلك ليفقد (التوازن) ويمنع قيام أي نهضة فيه (10)، ومن ثم خُتمت بوعد بلفور في العام 1917.

 في هذه الترجمة السياسية للوعد الإلهي في التوراة التقت مصالح رجال السياسة مع مصالح رجال الدين وولدت الصهيونية من رحم الامبريالية البريطانية، لكن لتطبيقها كانت بحاجة للعامل الإنساني أو للحلقة (اليهودية) الضائعة كما ذكر تشارلز ه. تشرشل، أحد أنصار الصهيونية المسيحية، منذ العام 1841 في رسالة إلى المجلس اليهودي في لندن والتي قال فيها “إن استعادة اليهود لوجودهم كشعب في فلسطين أمر ميسور إذا توافر عاملان اثنان: أولهما أن يتولى اليهود أنفسهم وبالإجماع طرح موضوع العودة على الصعيد العالمي، وثانيهما أن تبادر القوى الأوروبية إلى دعمهم تحقيقاً لذلك”(11). في العام 1897 وجدت الخطة البريطانية ضالتها في الحركة الصهيونية اليهودية التي أسسها الصحافي النمساوي ثيودور هرتزل فتلقفوه وقدموا له الدعم في كل المجالات. أحد الذين لعبوا دوراً مهما في هذه المجال هو ملحق السفارة البريطانية في فيينا، القس وليم هشلر الذي رافق هرتزل على طول الطريق من البداية إلى النهاية ولولا مساعدة هشلر له وخاصة في البداية وتأمين اتصالات ولقاءات له مع قادة أوروبا لكان هرتزل تخلى عن مشروعه، وحسب نائب حاكم القدس ومدون سيرة هرتزل في الستينات من القرن الماضي، اندريه شوروكوي، الذي وصف علاقة هشلر “الفضولية” بهرتزل كعلاقة “نبي” ألهم “أمير” في مشروعه لخلاص اليهود (12).

المسيحية الصهيونية الأميركية

إنَّ دور الإنجيليين الإنكليز في بلورة المشروع الأنجلو-سكسوني في الاستعمار الاستيطاني اليهودي لفلسطين كان محورياً كما رأينا، وذلك من خلال التأثير على مراكز القرار ودعمهم المشروع شعبياً وتقوية وتعزيز دور الحركة الصهيونية. هذا الدور لم يقتصر على أوروبا فقط بل تخطاها إلى الضفة الغربية من الأطلسي من خلال المهاجرين البيوريتانيين (Puritans) الأوائل، فكل رؤساء أميركا الأوائل كانوا من المؤمنين بالعهد القديم وعلى رأسهم جورج واشنطن، أول رئيس أميركي، الذي أعرب عن أمله في أن ينعم (الرب يهوه) على الولايات المتحدة “بالبركات الدنيوية والروحية كما أنعم على شعبه” وكما “زرعهم في أرض الميعاد وسقاهم من السماء” (13)، ومنهم كذلك جون أدامز الذي كتب في العام 1818 ” “أتمنى حقاً أن يصبح اليهود مرة أخرى في يهودا دولة مستقلة”.

أهم العقائد التي شقت طريقها إلى أميركا الشمالية ولاقت شعبية كبيرة بين البروتستانت هي معتقد أو منهج سمي بـ”التدبيري” (القدري، dispansationalism) (12) الذي أسسه المبشر الأيرلندي، القس جون نلسون داربي (1801-1882). داربي قام بخمس رحلات تبشيرية بين 1862 و1877 إلى أميركا الشمالية وشاع منهجه في وقت لاحق بشكل واسع من خلال سايروس سكوفيلد، الأب اللاهوتي للصهيونية المسيحية، وتفسيره للكتاب المقدس في العام 1909. يقول المنهج إن الكنيسة المسيحية هي مملكة الله في السماء وإن إسرائيل هي مملكة الله على الأرض (11) وإن علاقة الله مع الجنس البشري تنقسم إلى سبعة أدوار ونحن في الدور السادس وبانتظار الدور السابع والأخير الذي سيرجع فيه المسيح للأرض لتأسيس حكمه الألفي على مملكة الله على أرض إسرائيل.

 أهم الإشارات لهذه العودة هي:

  1. عودة شعب الله المختار إلى (أرضه) الأمر الذي حدث في 1948.
  2. احتلال القدس الذي حدث في 1967.
  3. بناء هيكل سليمان الذي يُعمل له وينتظره (المؤمنون).

هذه الإشارات لم تكتمل كلياً فهي تنتظر (عودة) كل الأرض المقدسة إلى (شعب الله) وضم القدس وتدمير المسجد الأقصى لبناء الهيكل كشروط مسبقة لكي تندلع معركة “هرمجيدون” التي سينتصر فيها المسيحيون ضد (الكافرون) ويعتنق ما تبقى من اليهود المسيحية وتؤسس بذلك مملكة الله الألفية.

هذه المعتقدات والربط بين عودة اليهود إلى فلسطين وعودة المسيح إلى الأرض ساهم في نشرها دعاة آخرون أمثال القس وليم بلاكستون من خلال كتابه “المسيح آتٍ” ومن خلال منظمة “البعثة العبرية من أجل إسرائيل” التي أسسها في العام 1878. هذه المنظمة تابعت عملها فيما بعد تحت اسم “الزمالة اليسوعية الأميركية” مع منظمات أخرى نشأت تحت شعار تحقيق إرادة الله في الأرض الموعودة وعودة اليهود إليها تمهيداً لعودة المسيح، ومنها “الفيدرالية الأميركية المؤيدة لفلسطين” في العام 1930 و”اللجنة الفلسطينية الامريكية” في 1932 التي تكونت من 68 عضواً من مجلس الشيوخ و200 من مجلس النواب وعدد من رجال الدين الانجيليين وغيرهم، و”المجلس المسيحي لفلسطين” في العام 1942 من قساوسة بروتستانت وشخصيات مالية وسياسية (11).

هذه المعتقدات والدعوات والمنظمات قامت بدور فعال في التأثير على القرار الأميركي حيث وافق وودرو ولسون (رئيس اميركا 1913-1921) الذي كان يقرأ التوراة يومياً على وعد بلفور وصدق مجلسي الشيوخ والنواب عليه في العام 1922. بعد ذلك في عهد فرانكلين روزفلت تبنت أميركا قرار المؤتمر الصهيوني في 1942 في رفض تقييد حقوق اليهود في الهجرة والاستيطان في فلسطين ومطالبته “بتأسيس فلسطين ككومنولث يهودي”، وتعهدت في 1944 بموجبه بـ “بذل قصارى جهدها من أجل فتج أبواب فلسطين أمام اليهود للدخول إليها بحرية ولإتاحة الفرصة لاستعمارها حتى يتمكن الشعب اليهودي من إعادة تكوين فلسطين يهودية ديمقراطية حرة”. خليفة روزفلت، هاري ترومان، الذي كان يؤمن بالتبرير التاريخي لوطن قومي يهودي ويقول إنه كمعمداني “يحس بشيء عميق له مغزاه في فكرة البعث اليهودي”، اعترف بإسرائيل بعد إعلانها بدقائق في 15 أيار 1948. (11)

 ظلَّ دور الأصولية المسيحية يتنامى وظهر بعد حرب السويس في 1956 فوجه أتباعها انتقادات حادة للرئيس ايزنهاور واعتبروا ان طلبه من إسرائيل الانسحاب من سيناء هو “قرار يعارض ما يرسمه الله” (14). بعد حرب 1967 وسيطرة إسرائيل على القدس تلقى الأصوليون جرعة نصر كبيرة بتحقيق إحدى الإشارات المهمة لعودة المسيح بنظرهم، ولاقت هذه الأفكار طريقها إلى الشعب الأميركي عبر الصحف الرئيسية الأميركية التي لمّحت إلى أن “الله يدير الأمور ويتزعم مصير إسرائيل” (14). كذلك، انتعش اللوبي اليهودي المؤيد لإسرائيل، فتبنت “لجنة اليهود-الاميركيون”، (AJC)، التي تأسست في 1906 الفكر الصهيوني، وازداد أعضاء “لجنة العلاقات الأميركية-الإسرائيلية”، AIPAC) – التي كانت تتخبط داخلياً ولم يكن لها تأثير جدي على إدارة الرئيس أيزنهاور أو كندي من بعده – إلى حوالي 100 ألف عضو وميزانيتها إلى 60 مليون دولار(15).

هذا الدور المتنامي للطرفين والتقاء الأهداف بين الصهيونية المسيحية واللوبي اليهودي الصهيوني حول اسرائيل أدى إلى تنامي التعاون بينها ففي عام 1971 عقد مؤتمر في القدس شارك فيه أكثر من 1000 مندوب انجيلي من 32 بلداً برعاية بن غوريون (16). كذلك نشرْ الفيلم الوثائقي الديني “أرضه”، (His Land) في 1970 عن إسرائيل من قبل “جمعية بيلي غراهام الانجيلية”، الذي اجتاح العالم الانجيليكي كالنار في الهشيم ولاقى استحساناً من قبل الجمهور اليهودي واعتبرته  “لجنة اليهود-الاميركيون” تفسيراً أصيلاً “يقوي العلاقات بين الأديان حول مسالة الشرق الأوسط، قرب الفريقين من بعضهم البعض وشجع ومهد لحوار قاده ’الصديقين‘ مارك تاننبوم من “لجنة اليهود-الاميركيون” وبيلي غراهام الذي أبعد نفسه عن الحركات الانجيلية التي تسعى إلى تبشير اليهود لاعتناق المسيحية (Jewish Missions) ( 17). رغم خلاف الفريقين تقريباً على كل المسائل الاجتماعية المحلية، فالإنجيلين يدعمون الحزب الجمهوري المحافظ ويتهمون اليهود بعلمنة المجتمع الأميركي وزعزعة دعائمه كدعم زواج المثليين والإجهاض وغيرها وأكثرية اليهود يدعمون الحزب الديمقراطي الليبرالي-الوسطي ويتهمون الإنجيليين بالعداء للسامية وتقويض الديمقراطية، فقد تعاونوا وتحالفوا في موضوع إسرائيل والسبب كما شرحه ناثان بيرلموتر من منظمة بناي بريث الصهيونية في كتابه “اللاسامية الحقيقية في أميركا” هو أن اليهود يستطيعون “أن يتعايشوا مع الأولويات المحلية لليمين المتطرف وذلك لأن هذه القضايا كلها ليست في مستوى أهمية اسرائيل”. تابع بيرلموتر بأنه على الرغم من إيمانهم بأن على اليهود الإيمان بالمسيح العائد أو القتل في معركة هرمجيدون، “في الوقت الحاضر نحتاج إلى جميع الاصدقاء لدعم إسرائيل … فإذا جاء المسيح يومذاك نفكر بالأمر. أما الآن فلنمجد الله ولنرسل الذخيرة إلى إسرائيل” (18).  هذا التحالف أدى الهدف المرسوم له فخلق أقوى اللوبيات في تاريخ أميركا وأدّى إلى إجماع بين الحزبين الحاكمين، الجمهوري والديمقراطي، على دعم إسرائيل المطلق في العقود الخمسة الماضية.

اللوبي الصهيوني المسيحي

يُقدر عدد البروتستانت في اميركا بحوالي 150 مليون أي نصف السكان، وينقسمون إلى تقليديين وإنجيليين الذين يشكلون 28%، أي حوالي 40 مليون، ويومنون بالتفسير الحرفي للعهد القديم (التوراة)، ويؤيدون اسرائيل ولو بدرجات متفاوتة.

يشكل الإنجيليون الأصوليون أو المسيحيون الصهاينة كما يُعرفون حوالى 75% من الإنجيليين في أميركا، أي حوالي 30 مليون حسب الباحث والأكاديمي تريستان ستارم (19)، وهم بالإضافة إلى إيمانهم الحرفي بالتوراة والوعد الإلهي يعتبرون الرموز المشفرة في سفر الرؤيا في الانجيل على أنها “جدول زمني لنهاية العالم”(4) . يُقدر عدد المنظمات والجمعيات التي تمثلهم بالمئات ويديرون حوالي 100 محطة تلفزيونية و1000 محطة إذاعية للتبشير وجمع التبرعات. أهم الشخصيات التي لعبت دوراً محورياً في دعم إسرائيل هي بيلي غراهام، مؤسس “جمعية بيلي غراهام الانجيلية” في 1950 والمستمرة إلى اليوم، الذي أسس مع لجنة اليهود-الاميركيون”، (AJC) لتفاهم وتحالف يهودي-إنجيلي في السبعينات كما شرحنا وأنشأ عدة مؤسسات إعلامية التي كان لها الأثر الكبير في صياغة الرأي العام الأميركي لدعم اسرائيل. كذلك لعب جيري فالويل، مؤسس “أكاديمية الحرية المسيحية” في 1967 و”جامعة الحرية” في 1971 و”الأكثرية الأخلاقية” في 1979 و”محطة الحرية للبث” في 1986، دوراً رئيسياً في تعبئة المسيحيين المحافظين كقوة سياسية وخاصة في انتخاب رونالد ريغن الذي صرح بأنه “يمكن أن يكون جيلنا هو الجيل الذي سيرى هرمجيدون! (20)” وفي انتخاب جورج بوش الأب في الثمانينيات، وفي دعم إسرائيل في توسيع مستوطناتها وضرب المفاعل النووي العراقي وغزو لبنان، عاكساً إيمانه بأن الله “كان طيباً مع أمريكا لأن أمريكا كانت جيدة مع اليهود”. إسرائيل قدرت جهوده فبعد أشهر قليلة من تأسيسه “الاكثرية الأخلاقية كرمه وبيلي غراهام رئيس وزراء إسرائيل اليميني مناحيم بيغن شخصياً بمنحهما وسام جابوتنسكي المئوي في غداء في نيويورك(21).

من الشخصيات الأخرى التي لعبت دوراً إعلامياً وداعماً لمرشحي اليمين المسيحي لمجلس النواب والشيوخ في الثمانينيات والتسعينيات وبداية الألفين هو بات روبرتسون (Pat Robertson)، الذي كان مذيعاً دينياً، ومعلقاً سياسياً، ومرشحاً رئاسياً، ووزيراً معمدانياً جنوبياً. روبرتسون أسس في 1960 شبكة البث المسيحية (CBN) التي تضم “نادي 700″ (The 700 Club) التي كان مضيفه و4 محطات تلفزيونية ومحطة راديو ووصل عدد مشاهديها إلى 24-27 مليون، وبعدها أسس الائتلاف المسيحي في 1987 وكان له التأثير الكبير على سياسات الحزب الجمهوري وتأمين الدعم المطلق لإسرائيل في كل المجالات (22). من ناحية أخرى، له عدة مواقف معادية لليهود فهو يعتبر أن كل من لا يعترف بالمسيح هو “شيطاني الجذور” واتهم اليهود الليبراليين بالسعي إلى تدمير المسيحية و”البنّاين والثوريين اليهود” بأنهم في قلب المؤامرة “للسيطرة على العالم”(23).

كذلك هناك العشرات من المنظمات الأخرى التي نشطت في أواخر القرن الماضي وما زال معظمها ناشطاً اليوم وتدعم إسرائيل من خلال المؤتمرات والمحاضرات وجمع التبرعات لبناء المستوطنات وتنظيم رحلات الحج “للأرض المقدسة” والتشجيع على إعادة بناء الهيكل. نذكر منها “فريق الدعاء للقدس” و”الصندوق الاسرائيلي الموحد” و”العمل المسيحي لأجل إسرائيل” واللجنة المسيحية-الإسرائيلية للعلاقات العامة” و”مؤسسة الائتلاف الوحدوي الوطني من أجل إسرائيل” و”السفارة المسيحية العالمية في القدس”. بالإضافة إلى هؤلاء، ظهرت في بداية هذا القرن منظمة “المسيحيين المتحدين من أجل إسرائيل” (CUFI) التي يطلق عليها البعض “اللوبي الهرمجيدوني” (Armageddon Lobby) او “ِأيباك المسيحية” (Christian AIPAC). أسس هذه المنظمة القس جون هاجي (John Hagee) في 2006 من 400 قسيس وأصبح عددهم اليوم حوالي 10 ملايين عضواً حسب إحصاءاتهم، وهدفها حسب صفحتها على الانترنت (24) هو بأن “تقوم بتعليم وتمكين ملايين الأمريكيين من التحدث والعمل بصوت واحد دفاعاً عن إسرائيل واليهود”. كذلك توضح المنظمة بأنها “قامت بتنمية شبكة وطنية من الناشطين المتفانين في جميع الولايات الخمسين مع الأدوات والموارد اللازمة لتوقع التحديات العديدة المختلفة التي تواجهها إسرائيل والاستجابة لها بسرعة وفعالية”.

في أحد مؤتمراتها في 2017 قال نتنياهو لجون هاجي و”كوفي” بان “ليس لإسرائيل صديق أفضل منكم في أميركا” وذلك لدعم المنظمة المطلق لإسرائيل وخاصة لسياسات اليمين الإسرائيلي في الاستيطان في الضفة الغربية وإعادة بناء “الهيكل”. إن تصريح نتنياهو تجاهل فيه ما قاله هاجي في 1999 بأن “هتلر كان وسيطاً أرسله الرب لإجبار يهود أوروبا، من خلال الاضطهاد والمحرقة، على التوجه إلى فلسطين”(25) لأنه يعي مدى تأثير هاجي على السياسة الخارجية منذ عهد إدارة الرئيس جورج بوش الابن عندما أدانوا مبادرته للسلام واجبروا بعض اليمين المسيحي على التراجع عن تأييدهم للمبادرة وأجهضوها. هذا التأثير المتنامي وصل إلى حد صياغة السياسة الخارجية خلال إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووزير خارجيته الإنجيلي الصهيوني مايك بومبيو التي نقلت السفارة الأميركية إلى القدس (جون هاجي تلا صلاة المباركة في حفل الافتتاح (26) وأيدت ضم اسرائيل لمرتفعات الجولان السورية. كذلك لعبوا دوراً مهماً في تشجيع الحكومة الأميركية والولايات الأميركية وخاصة تلك المعروفة بـ”الحزام-التوراتي” ومجالس المدن والبلديات لتبني توصيات “التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة” (International Holocaust Remembrance Alliance, IHRA) التي عرّفت انتقاد الصهيونية أو انتقاد إسرائيل أنه معاداة للسامية (29 ولاية تبنت التعريف!(27))  ووصلت بهم الأمور وبالتنسيق مع اللوبي اليهودي إلى ربط التوظيف الحكومي في بعض الولايات بالتعهد بعدم مقاطعة إسرائيل! ضاربين بعرض الحائط الحقوق الفردية التي يضمنها الدستور الاميركي.

خلال الحرب الحالية على غزة وفلسطين يلعب اللوبي الصهيوني المسيحي (كوفي، CUFI) مع اللوبي الصهيوني اليهودي (إيباك، AIPAC) دوراً محورياً في عدم السماح للتأييد الشعبي الأميركي المتنامي لمسالة فلسطين بأن يجد طريقة إلى قاعات مجلس النواب والشيوخ فأنّبوا النائبة من أصل فلسطيني رشيدة طليب على اعتبارها اسرائيل دولة ابارتيد وتمارس الإبادة الجماعية بحق أهل غزة ومرر مجلس النواب قراراً أكد فيه بأن “معاداة الصهيونية هو معادة للسامية”(28). كذلك رفض المجلسين أي وقف شامل لإطلاق النار قبل وصول إسرائيل لأهدافها ودعا بعضهم علناً إلى إبادة الفلسطينيين في غزة!

التأييد الشعبي المتنامي للمسألة الفلسطينية

رغم أن نشاط (اللوبي العربي) المتمثل اجمالاً بالجمعية “العربية-الأميركية لمكافحة التمييز” (ADC) انحسر في العقدين الأخيرين فإن التأييد الشعبي للمسألة الفلسطينية ازداد بعد 2015 من 15% إلى ما يقارب 30% تقريباً في بداية 2023 (جدول-1). من أهم أسباب هذا التحول هو النشاط الكبير الذي قاده الطلاب الفلسطينيون والعرب في الجامعات، وحملة المقاطعة المعروفة ب BDS التي حققت أهدافها بشكل محدود في المقاطعة لكنها نجحت في نشر الوعي بشكل كبير عن عنصرية إسرائيل وعدالة المسالة الفلسطينية. كذلك نشر الصور والفيديوهات على صفحات التواصل الاجتماعي عن الوحشية الاسرائيلية في التعامل مع الفلسطينيين من قتل وسجن للأطفال وتدمير البيوت والذل على الحواجز وغيرها شق طريقه الى بيوت ووجدان الاميركيين.

جدول-1: إحصاء تأييد الدول العربية\الفلسطينيين وإسرائيل في أمريكا (29)

خلال الحرب على غزة، تلعب هذه الصور والفيديوهات دوراً محورياً في تغيير الرأي العام الأميركي والعالمي وهذا يتجلى بوضوح في المظاهرات الحاشدة المؤيدة لفلسطين في كل المدن الرئيسية الأميركية والكندية والبريطانية والعالم، وفي آخر الإحصاءات التي جرت في 15 تشرين الثاني في أمريكا بينت انحسار التأييد للهجوم الاسرائيلي على غزة من 41% الى 32% (30). الأهم من ذلك هو إحصاء “هارفرد كابس-هارس” (Harvard CAPS-Harris) الذي وجد أن دعم إسرائيل في الجيل الذي تتراوح أعماره بين 18 و24 لا يتعدى 45-55%، واحصاء آخر وجد أن 57% من الأميركيين (الجيل الطالع هو الأكثر اعتراضاً) لا يوافقون على سياسة بايدن في غزة. الكاتب في صحيفة هآرتس الإسرائيلية، ألون بنكاس (Alon Pinkas)، نبه بأن هذه الإحصاءات “ليست بالضرورة ظرفية، بل أصبحت موقفاً متشدداً يمكن أن يصبح سمة دائمة. على الرغم من أن بعض استطلاعات الرأي تشير إلى أن الأمر ليس عداءً صريحاً حتى الآن ـ ـ ولكنها تشير إلى انتقادات كبيرة تنبع من عوامل أعمق من مجرد لقطات الدمار واليأس التي تظهر في قطاع غزة” (31).

إن التغيير الذي نلمسه في الرأي العام الأميركي والكندي والأوروبي لمصلحة المسألة الفلسطينية قد يشكل نقطة انطلاق لوعي شعبي على مدى قوة اللوبيات الأجنبية والدينية الأصولية وتأثير أصحاب المال على الانتخابات والاعلام وعلى سياسات بلدانهم الخارجية، ويحفز العمل على مجابهتها. إن الجاليات العربية والإسلامية في أميركا وكندا على مفترق طرق فإذا استطاعت منظماتها وجمعياتها المختلفة بأن تنظم وتوحد صفوفها بالحد الأدنى في الانتخابات القادمة فسنرى انتخاب النائبة رشيدة طليب يتكرر في الكثير من الولايات الأميركية والمحافظات الكندية. كذلك فإن على الكنائس المسيحية المشرقية في شمال أميركا تفعيل العمل المناهض للصهيونية المسيحية لتشويهها الديانة المسيحية والعمل مع زعماء الكنائس الأنجليكانية والكاثوليكية والسريانية الأرثوذكسية واللوثرية على أساس “إعلان القدس بشأن الصهيونية المسيحية” الذي صاغوه في عام 2006 وحددوا فيه معارضتهم للصهيونية المسيحية باعتبارها “تعليماً كاذباً” وأعلنوا فيه أن تحالف المسيحيين الصهاينة مع بعض القادة السياسيين أدى إلى “دوامات عنف لا تنتهي تُقوض أمن جميع شعوب الشرق الأوسط وبقية العالم” (19).

 إن الدعم الأميركي لإسرائيل عماده اللوبي الصهيوني، اليهودي والانجيلي-الاصولي. الصهيونية الانجيلية الأصولية سبقت الصهيونية اليهودية تنظيمياً في أوروبا ومهدت لها، وكذلك الأمر في أميركا فهي لعبت دوراً مهماً في تبني اميركا لوعد بلفور وتشجيع وتنسيق هجرة اليهود إلى فلسطين مع بريطانيا والاعتراف بإسرائيل قبل بروز دور اللوبي الصهيوني اليهودي بعد حرب 1967. إن التحالف بين الفريقين في موضوع إسرائيل فقط (بعد تغاضي اللوبي اليهودي عن عداء الصهيونية الانجيلية وأهم رموزها لليهود) أدى إلى إجماع الحزبين الحاكمين على التأييد المطلق لإسرائيل في العقود الخمسة الماضية، ويمكن الاستنتاج بأن دور اللوبي الصهيوني المسيحي ربما تخطى دور اللوبي اليهودي وخاصة في سياسات الحزب الجمهوري وذلك لعدد الصهيونيين المسيحيين الذي يبلغ خمسة أضعاف عدد اليهود (30 مليون مقابل 6 مليون) وكثافة تصويتهم في الانتخابات ونفوذهم الإعلامي والمالي.

إن عدم اكتراث الصهيونية المسيحية للمأساة الإنسانية والإبادة الجماعية التي تحصل في فلسطين، وإيمانها بنهاية الزمان وتمحوره حول إسرائيل والقدس، وبناء سياستها على أساس معركة ’هرمجيدون‘ الخيالية، يعطي إشارات مهمة على ما يمكن أن تفعله هذه المجموعة الأصولية المتطرفة ضد الشعوب (الكافرة..!) في الشرق الأوسط والعالم إذا استمرت في سيطرتها على أهم مؤسسة برلمانية في العالم، ووضع أحد أعضائها اصبعه على زناد الترسانة النووية؟

المصادر:

(1)       Franklin Graham on Israel: ‘God is at work, He loves Israel …

          https://highergroundtimes.com/higher-ground/2023/nov/30/franklin-graham-on-israel-god-is-at-work-he-loves-/?utm_medium=higher-ground

(2)        Evangelical US House speaker pledges support for Israel, in line with his faith

https://www.aa.com.tr/en/americas/evangelical-us-house-speaker-pledges-support-for-israel-in-line-with-his-faith/3039153

(3)  الصهيونية المسيحية “البروتستانتية”، أحمد الدبش؛ الجزيرة نت

https://www.aljazeera.net/blogs

(4)       Why Evangelicals Love Israel – Candida Moss

https://www.thedailybeast.com/why-evangelicals-love-israel

(5)   بلا حدود| محمد السماك مع أحمد منصور: المسيحية الصهيونية وتفاصيل الاختراق الصهيوني للمسيحية

https://www.youtube.com/watch?v=8WfF_ziyuz4

(6)  ارض الميعاد والصهيونية الحديثة – ارثوذكس https://orsozox.org/

(7)   موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية-6، ص 137-138 – عبد الوهاب المسيري

(8)  Albert M. Hyamson – British projects for the restoration of Jews to Palestine

(9) لولا التواطؤ البريطاني الاستراتيجي لما قامت دولة «اسرائيل» https://www.addustour.com

(10)  من “كامبل بنرمان” إلى “وعد بلفور” المشؤوم مشروع واحد؟! – شرحبيل الغريب، الميادين https://www.almayadeen.net

(11)  كتاب الصهيونية المسيحية، محمد السماك – دار النفائس

(12)  “What is Modern Day Israel” Yakov M. Rabkin

(13)   أمريكا هي المالك الحقيقي للمشروع الصهيوني 

            https://faynaq.blogspot.com/2019/04/blog-post_52.html

(14)  الإنجيليون الأميركيون والصهيونية: هكذا دعمت الأصولية المسيحية إسرائيل – جوي سليم

            https://al-akhbar.com/Literature_Arts/231306

(15)      How Important is the Israeli Lobby?

https://www.meforum.org/1004/how-important-is-the-israel-lobby

(16)     Evangelists Meet in The Holy Land – NY Times

https://www.nytimes.com/1971/06/20/archives/evangelists-meet-in-the-holy-land-1000-from-32-countries-confer-on.html

(17)     His Land and the Origins of the Jewish-Evangelical Israel Lobby – Daenil G. Hummel

(18)     يد الله – غريس هالسل، ترجمة محمد السماك

(19)     Factsheet: Christian Zionism

https://religionmediacentre.org.uk/factsheets/factsheet-christian-zionism/

(20)     خرافات فالويل واستجابات ريغان – القدس العربي

https://www.alquds.co.uk

(21)     The New Christian Right’s relations with Israel and with the American Jews: the mid-1970s onward

https://journals.openedition.org/erea/2753?lang=en

(22)      ويكيبيديا؛ https://en.wikipedia.org/wiki/Pat_Robertson

(23)     Jews & The Christian Right – Phil Zukerman

https://www.bjpa.org/content/upload/bjpa/jews/JEWS%20AND%20THE%20CHRISTIAN%20RIGHT.pdf

(24)      Christian United for Israel؛ www.Cufi.org

(25) March for Israel Speaker Pastor Hagee Once Said God “Sent Hitler to Help Jews Reach the Promised Land”

https://www.democracynow.org/2023/11/15/washington_march_for_israel

(26)     الإنجيليون .. رياح نهاية العالم من أمريكا حتى القدس

https://180post.com/archives/23413

(27)     States Adopt IHRA Definition of Anti-Semitism

https://www.jewishvirtuallibrary.org/states-adopt-ihra-definition-of-anti-semitism

(28)     The House of Representatives Rules that Anti-Zionism Is Antisemitism

https://www.thenation.com/article/politics/house-anti-semitism-resolution/

(29)     Gallup Polls on American Sympathy Toward Israel & Arabs/Palestinians

          https://www.jewishvirtuallibrary.org/gallup-polls-on-american-sympathy-toward-israel-and-the-arabs-palestinians

(30)     US Public Support for Israel Drops; Rueters

https://www.reuters.com/world/us-public-support-israel-drops-majority-backs-ceasefire-reutersipsos-2023-11-15/

(31)     Don’t Ignore the Polls: Israel is Increasingly Seen as a Liability in the US; Haaretz

https://www.haaretz.com/israel-news/2023-12-21/ty-article/.premium/dont-ignore-the-polls-israel-is-increasingly-seen-as-a-liability-in-the-u-s/0000018c-8c1b-da31-adff-8e5bd6a70000?v=1703976525062&lts=1703976635879

راجي سعد

مهندس وباحث في شؤون المشرق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق