العالم الآن

حجابُ الفمْ…!

-1-

يمكن أن يعود مشهد (الكِمَامَة) التي نراها الآن مشدودة على أفواه الناس، إلى واحدة من نبوءات مسلسل سمبسون في أوائل تسعينيات القرن العشرين، التي أكدت اقتراب ظهور فيروس ما، سيجبر البشر على وضع كمامات للوقاية من العدوى. كما يمكن أن يعود هذا المشهد، إلى تقارير استخباراتية موازية للتنبؤات الطبية والعلمية، التي أشارت مسبقاً إلى أنَّ البشر مع اقتراب العام 2020، سيضطرون إلى ارتداء الكمامات الواقية من هجوم فيروس قاتل.

المشهد الراهن المؤسس في مشاهد تلفزيونية ونصوص علمية واستخباراتية، لها طابع إشكالي، يوحّد العالم اليوم، إذ نرى الكمامة تسدّ فم البشرية من اليابان شرقاً إلى الولايات المتحدة غرباً.

-2-

اعتاد الصينيون واليابانيون على وضع الكمامة للوقاية من عدوى الأنفلونزا العادية. كان مشهدهم مثيراً للسخرية عند بعض الناس، ومثيراً للإعجاب عند بعضهم الآخر، غير أنَّ من سخر ومن أُعجب، لم يخطر بباله الاقتداء بهم، فصداقته مع الانفلونزا لابدَّ أن تستمر عاماً بعد آخر! بدا الأمر وكأن هذه المادة التي تُغلق الفم والأنف، ماهي إلاّ لباسٍ تقليدي صيني – ياباني – شرق آسيوي؟ مرةً أخرى أطلَّ كارل ماركس، من وراء (الكمامة الآسيوية) ليتفاخر بأطروحته حول (نمط الإنتاج الآسيوي) التي انتُقِدت بشدة باعتبارها من منهجيات الاستشراق، إلاَّ أنَّ السبق الصيني – الياباني باعتماد الكمامة جعل (النموذج الآسيوي) من اليقينيات، بعد أن أنجز عمارته الشاهقة في عالم الاقتصاد والمال ومختلف شؤون وعناوين التحديث والحداثة.

-3-

رمزياً: الكمامة، هي إلغاء لحريّة التعبير، ذلك لأنَّ تكميم الأفواه يعني إخراسها ومنعها من الكلام.

رمزياً، وربما عضوياً، أيضاً: الكمامة، هي إضعاف للتنفس، وتسهّيل للاختناق، ذلك لأن التنفس باعتباره فعلاً تبادلياً ما بين شهيق وزفير، مع الكمامة، يميل رويداً، رويداً ليغلب عليه الزفير ويستهلك ما خزنه الشهيق من أكسجين، خلال لحظات! والتبادلية التنفسية العضوية، هي المعادل الموازي لتبادلية الحوار، الذي يقوم على شهيق كلمة (الآخر) وزفير كلمة (الأنا)، ومع استمرار إقامة الكمامة وتكميمها الفم والأنف، فإن زفير الحوار(الأنا) سيستهلك شهيقه (الآخر)، ليستحيل الحوار جثة هامدة، ولا يبقى غير الزفير(الأنا) حبيس عزلته بفمٍ مُغلق!

-4-

 تَفَقُّهاً: الكمامة، هي نقاب ناقص، فيما النقاب كمامة كاملة. يمكن للسلفّي إذاً أن يدّعي الأسبقية بإنتاج الكمامة الكاملة النموذجية المغلقة للفم، الناسفة الملامح الشخصية، المنمّطة للمشهد الإنساني الذي تسوّره بأسلحة التكفير وثقافة الجدار.

بالنسبة للسَلَفي: الكمامة الفموية التي نراها اليوم، غير شرعية. هي قصيرة تغلق الفم والأنف، ولكنها لا تحجب مفاتن الوجه! غير أنَّ الأمل بشتاءٍ قادمٍ قاسٍ، سيُضطر البشر خلاله اعتمار القبعة ذات الامتداد على جهتي الوجه، سيمكّن من مزاوجة القبعة مع الكمامة الدارجة القصيرة، ليولد من هذا التزاوج: النقاب السلفي الشرعي!!

 

-5-

 إيديولوجياً: يبدو الاتجاه واضحاً إلى تحميل وظيفة الكمامة مضموناً وطنياً وقوميّاً، بشحن مشهدها برموز هويّاتية، حيث يتم صناعتها من نسيج ورموز وألوان علم الوطن/الدولة، وتغزو الأسواق مختالة بزيها، محمّلة بذلك الإيحاء المخفف لوظيفتها الرمزية كمغلقة أفواه ومخرسة حناجر، إلى كونها (الهوية الملتصقة بالشفاه بقبلة لا تنتهي)، والتي من أجلها، وبسببها يمكن أن نبتلع الكلام، ونتحشرج به ونختنق ونحن سعداء!

صراع الكمامات/ الهوياتية/ العَلَمية (من العَلَم) بدأ، فلا تسمح دولة باستيراد (كمامة/علم) من دولة أخرى، حتى ولو عندها نقص بالكمامات، وحتى لو ظلَّ شعبها فاغراً فمه لجيوش فيروس كورونا الهائج! ما هو مسموح فقط: تلك القطعة القصيرة البيضاء والزرقاء التي لا ملامح لها، وإن يُطلق عليها (الكمامة الصينية)، ابنة العولمة؟

هكذا تسكن الصين على أفواه البشر!

تسكن كـ (كلمة)، وتسكن كـ (إنتاج).

-6-

 قاموسياً: (ثمّة من يتمسك بالتعريف القاموسي): الكِمَامَة، ما يُجعل على أنف الحمار أو البعير لئلاَّ يؤذيه الذُّباب، ولمنعه من العضّ.

-7-

الكمامة: خطٌ دفاعيٌ في مواجهة الفيروس/

          تنقّية للكلام قبل خروجه /

          قمعٌ للكلام غير المرغوب/

         إخضّاع التنفس لموجبات التفقّه/

        اختناقٌ لـ (الأنا) بكربون الزفير/

        استسلامٌ غير مشروط للهويِّة/

        كبحٌ لشهوة العضّ/

…….  إبعاد للذباب …؟

-8-

الِكمَاَمة: حجاب!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق