العالم الآن

حروب الغاز المكشوفة والمستترة

الحوض السوري… ومملكة «نابوكو» التوراتية؟

بعد إطلاق مشروع «سايكس ـ بيكو» نهاية الحرب الأولى، والذي قسم جغرافية سورية الطبيعة إلى كيانات متواجهة، شهدت هذه المنطقة تحولات جذرية بدأت مع إنشاء الكيان الصهيوني، الذي جلب المستوطنين من كل أصقاع العالم، بناءً على أسطورة توراتية خرافية، وانتهت بأن شهدت كيانات هذه المنطقة انقساماً عمودياً على صعيد المجتمع الذي بدأ يتحوّل من كونه ذي هوية واحدة في وطن واحد، إلى «مجتمعات» و»هويات» متعددة. وما ساعد على ذلك أن حكومات هذه الكيانات غيّبت مفهوم المواطنية بشكل صارخ ما أوصل البلاد إلى ما يشبه حروب مشاريع تفتيتية وفكرية… وصولاً إلى الحروب الأهلية المتنقلة، من دون أن تكترث بإرساء قواعد جديدة لوحدة الحياة لمجتمع واحد في دولة قومية وهوية سورية واحدة.

شكّلت منطقة سورية الطبيعية بكياناتها الهشة وتعدديتها الشديدة الحساسية، عرقياً ودينياً ومذهبياً، محور (العقل التلمودي) منذ السبي البابلي وحتى الآن، حيث تكثر المشاريع ونحن في الألفية الثالثة، ومنها مشاريع الطاقة التي كانت سبباً في احتلال العراق والحرب على سورية. غير أن هذه الحرب فتحت الباب واسعاً أمام سقوط سمات المنظومة الاستعمارية القديمة في المنطقة ورسم واقع جديد، يعتمد على خطوط الدم وأنابيب الغاز.

منذ أن أطلق ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي السابق جورج بوش معركة الطاقة، كان هدفه احتواء الصين، ومواجهة روسيا كمنافس جيوسياسي، من أجل تقليص قوتها ونفوذها في أوروبا التي تعتمد على الغاز الروسي، وقد انخرط الرئيس باراك أوباما في جيوبوليتيك الطاقة هذه كجزء من صراع أميركي عالمي من أجل السيطرة المستقبلية على إمدادات النفط والغاز الطبيعي، وكان مشروع «نابوكو» أحد أهداف السيطرة الأميركية هذه، ولكن المشروع الروسي «ساوث ستريم» جاء معرقلاً لـ «نابوكو»، وصفعة للولايات المتحدة وحلفائها في الخليج وأوروبا.

ولكن اختيار اسم المشروع الأميركي العملاق «نابوكو» للغاز لم يكن عبثاً، فما هو سر هذه التسمية الغامضة؟

يأتي اسم «نابوكو» لتأكيد الطابع الجيوسياسي الأنكلوساكسوني، بل و(الديني التوراتي)، على هذا المشروع!؟ فقد ارتبط اسم «نابوكو» بالأفكار اليهودية السرية، فالاسم مشتق من أوبرا «نابوكو»، التي تتمحور حكايتها حول الصراع الأزلي على مدينة أورشليم تسمية آرامية ـ القدس. وتدعو الحكاية للتمسك بالديانة اليهودية، والتضحية من أجلها، والقصة برمّتها مستوحاة من العهد القديم، كتاب النبي دانيال، الذي يعكس صورة التاريخ اليهودي إبان حكم الملك «نبوخذ الثاني»، ملك بابل العظيمة ـ «العراق» من العام 605 إلى العام 562 قبل الميلاد.

ونابوكو صيغة تصغير و(تحقير) باللغة العبرية للملك السوري البابلي «نبوخذ نصر»، ويبدو أن الأطراف التي خططت لهذا المشروع، قد تعمّدت استعمال اسم الملك البابلي لدوره في إنهاء مملكة يهوذا وفي ما عُرف بالسبي البابلي. ثم قامت بإلصاقه على مشروع القناطر الكونية، التي ستنسف اقتصاد البلدان العربية، وتتلاعب بمصيرها، ويبدو أن التسمية جاءت بهذا الشكل لإنعاش الأحقاد اليهودية القديمة، والانتقام من نبوخذ نصر والحضارة البابليّة، وهكذا فالتاريخ السياسي للمشروع يسجل أن الإعلان عن «نابوكو» كان مقدّمة لتدمير العراق، بمعاول أميركا وحلفائها من الذين اتبعوا ما تلته الشياطين على الملك سليمان، فنبشوا بخناجر الحقد القديم قبر «نابوكوذ نازار – نبوخذ نصر»، وهو في مثواه البابلي الأخير، واشتركوا مع يهود الاشكيناز والسفارديم والفالاشا في عملية الانتقام الكبير والشامل.

ومما زاد الطين بلة أن دمشق نفسها كانت قد أبرمت مع العراق وإيران ولبنان اتفاقاً مبدئياً على مدّ حزمة بديلة للغاز الطبيعي لمنافسة أنابيب «نابوكو» تبدأ من بحر قزوين وتنتهي عند السواحل اللبنانية، يزيد طولها على خمسة آلاف كيلومتر، ولكنه توقف بعدما أثار جنون أميركا التي دفعت “داعش” لاجتياح الاراضي العراقية السورية عام 2014، وقد حاولت طهران إحياء فكرة المشروع لتصدير النفط عبر أنبوب يمر بالأراضي العراقية وصولاً إلى ميناء بانياس السوري على البحر المتوسط.

ومشروع النفط الإيراني إلى ميناء بانياس يتضمن خطين الأول بناء أنبوب كامل بطول 1000 كيلومتر يمر نحو نصفه بالعراق، أما مسار الأنبوب الثاني فسيكون من المحور الشمالي للعراق عبر سهل نينوى شمال البلاد ويدخل الأراضي السورية عبر محافظة دير الزور وصولا إلى الساحل السوري.

يشار إلى أن مضيق هرمز يعد من المضائق المهمة في العالم، إذ يعبر من خلاله أكثر من 20 مليون برميل يومياً من الخامات والمشتقات النفطية، يتجه معظمها إلى أسواق آسيا وأوروبا.

لذا فإن تلك المرحلة قضت بوجوب قيام أميركا باكتساح الدولة السورية بحشد شذاذ الآفاق الذين شحذوا سكاكين المذهبية لتدمير الدولة السورية، بحيث تضمّن الاستحواذ على خطوط الغاز القادمة من مصر وفلسطين ولبنان، وتتمكّن من ربطها بخطوط «نابوكو» عبر سورية الواقعة تحت الضغط التركي «النابوكي»، واستكمالاً لهذه الخطوة وافقت حكومة «إقليم كردستان» العراق، في ذلك الوقت، على ربط أنابيب تصدير الغاز في شمال العراق بقناطر «نابوكو» من دون الرجوع إلى الحكومة المركزية في بغداد .

هذه العقبة السورية الكأداء تفسر أيضاً سر ذلك السعار السعودي ـ القطري في محاربة النظام السوري ودعمهم اللا محدود للإرهابيين في سوريا، فالرئيس السوري بشار الأسد بكل بساطة هو العائق الرئيسي، بل والوحيد، أمام تدفق الغاز السعودي القطري إلى أوروبا.

في الحروب، عادة ما يتم التركيز في وسائل الإعلام والفضائيات على الضحايا والدمار، وتهتمّ الشعوب بسير العمليّات العسكرية والأمنية. وينسى الجميع البُعد الجيو – سياسي، وكذلك الخلفيّات الاقتصادية – المالية للدول المتورّطة، ولمن يقف وراءها. وهذا ما ينطبق تماماً على المشهد الحالي في الإقليم، حيث تتجاوز الأحداث مسألة «إسقاط دكتاتور» من هنا أو مسألة «قمع مسلّحين متمرّدين» من هناك، وهي ترتبط مباشرة بمصالح حيويّة فائقة الأهمية للدول الإقليمية الأساسية، وللدول العظمى أيضاً…

ولكن كيف ذلك؟

منذ بداية إطلاق هذه المعركة على سورية في العام 2011، شكل حوض الغاز السوري المكتشف في البحر محور الصراع، إذ بدا أن تقاطب القوى في الصراع يتعدّى بالتأكيد الأسباب الداخلية السورية مثلما يتجاوز حتماً مسألة المياه الدافئة على أهميتها، بعدما حُسم أمر واقع ثراء سورية بالطاقة وصولاً إلى إعطائها المرتبة الأولى، وبحسب الباحث في مجموعة «أوراسيا» كريسبين هاويس، « يمكن لسورية أن تغير مجريات اللعبة» العالمية، ولكن هذا يحتاج إلى إزاحة الرئيس بشار الأسد ليستطيع الغاز القطري والسعودي المرور عبر سورية ومنها إلى أوروبا، لتقليل اعتماد الأخيرة على الغاز الروسي.

إن مَن سيعرف السر الكامن في الغاز السوري سيعلم حجم الصراع على هذا المصدر لأن مَن سيملك سورية سيملك «الشرق الأوسط» وبوابة آسيا ومفتاح روسيا وأول طريق الحرير… وبتوقيع دمشق اتفاقاً لتمرير الغاز الإيراني عبر العراق إليها ومن ثم للبحر المتوسط يكون الفضاء الجيو سياسي انفتح على شريان العالم من البحر السوري، مختصراً الممرات البحرية من مضيق هرمز في مدخل الخليج العربي، كما اختصرت سابقاً قناة السويس رأس الرجاء الصالح عبر الأطلسي.

“ألغاز دولية ؟

وهكذا، ففي أجواء الاضطراب والفوضى التي يصنعها الغرب الأميركي وحلفاؤه الإقليميون بالمصائر البشرية، جاءت  حروب الطاقة لتفتح بوابة التحكم بالعالم..

ومَن يراجع خريطة الاحتياطي الغازي العالمي يمكنه أن يفهم طبيعة الصراع الدائر منذ سنوات في أماكن متفرقة، خاصة في منطقة الهلال السوري الخصيب، وتحديداً على شواطئ هذا الهلال الممتدّ من حيفا، مروراً ببيروت وطرطوس، وهي الموانئ التي تمثل بؤرة الصراع الأكثر سخونة في المرحلة السورية الراهنة، ولهذا يجب أن لا نستبعد سبب الاشتباه بأن تكون “إسرائيل” وراء تفجير ميناء بيروت لصالح ميناءي حيفا ودبي “الإبراهيميين”!.

إذا كان الاقتصاد هو عصب السياسة، فإن الطاقة هي عصب الاقتصاد، لذا يمكن القول: إن الطاقة هي عصب السياسة. ولا يمكن فهم خريطة الصراع السياسي عالمياً أو إقليمياً من دون فهم حقيقة الصراع الدائر حول الطاقة بصفة عامة، والغاز الطبيعي على وجه الخصوص، باعتباره الطاقة الصديقة للبيئة قياساً بالنفط، وهو الأوفر من حيث الاحتياطي، خاصة أن البترول قد استنفدته عقود طويلة من الاستهلاك، وهو على وشك النفاد في ضوء عقود خمسة أو سبعة على أقصى تقدير.

تأتي روسيا على قائمة الدول صاحبة الاحتياطي الأكبر على المستوى العالمي، تليها إيران وقطر والولايات المتحدة والسعودية. وإذا دققنا في أسماء الدول الخمس الأولى فسنجد أنها الأطراف البارزة في الصراع الدائر على الأرض السورية بشكل خاص، وكذلك في غيرها من المناطق في العالم. ولا يمكن تجاهل هذه العلاقة إذا أردنا أن نفهم حقيقة ما يدور في المنطقة، والتي أصبحت ساحة العالم الحربية.

حاولت روسيا – سيدة الغاز العالمي – أن تفرض نفسها عبر هذه الثروة على السياسة الدولية، باعتبارها لاعباً أساسياً، وتأتي شركة “غازبروم” لتمثل رأس الحربة الروسية في اختراق العديد من المناطق في العالم، والتي تعني إلى جانب عوائدها الاقتصادية الضخمة للدولة الروسية مساحة النفوذ الذي يسير في خطوط متوازية مع هذا الانتشار الواسع للشركة، وما دفع إلى ذلك لقاء باريس السري الشهير (رغم النفي من قبل دمشق)، الذي جمع الرئيس بشار الأسد، والرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، والأمير القطري السابق حمد بن خليفة آل ثاني، لإقناع الأسد بالقبول بأن يمر انبوب الغاز القطري عبر الأراضي السورية إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا، بهدف أغلاق الباب أمام وصول الغاز الروسي إلى أوروبا. وبطبيعة الحال رفض الرئيس السوري هذا المشروع رفضاً قاطعاً، لأنه يهدف إلى منع تحكم روسيا في سوق الغاز الأوروبي، خصوصاً أن روسيا تمد القارة العجوز بحوالي 34 % من حاجتها من الغاز، بما يمثله ذلك من حضور قوي على الصعيد السياسي، وتحكم لا يمكن تجاهله في هذا الشأن، وهذا ما يوضح سبب إنشاء خط نابوكو لأخراج أوروبا من القبضة الروسية!

وهنا ظهر الدعم الروسي للدولة السورية منذ البداية، لا دعماً معنوياً لحليف تقليدي كما يتوهم البعض، بل دعم كامل وصل حد المشاركة المباشرة في المعارك. فالهدف هو إيقاف مد هذا المشروع؛ والتقى الهدفان فكان دفاع روسيا عن نفسها يمثل في الوقت نفسه دفاعاً عن الدولة السورية.

هي حروب تشتعل من العدم، وغيوم حروب الغاز تتجمّع.. فهل سيهطل المطر شديداً؟

ليس لنا سوى أن نسأل، وسوى أن نصرخ، إلى أين تقودنا حروب الغاز الفظة؟

نظام مارديني

كاتب وصحفي سوري

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق