سورية الصغرى – الجمهورية العربية السورية – شكّلت ولا تزال ما يمكن تسميته بـ ( العقدة الجيو- سياسية )، وعلى نحوٍ واضح، يؤشر هذا الملتقى الاستثنائي على أراضيها، لمختلف الإرادات والاستراتيجات العالمية والإقليمية، إلى تلك العقدة وطبيعتها، كما يؤشر أيضاً، إلى أن هذا الملتقى محكوم استمراره بـ ( هندَسَةٍ ) هي أقرب لأن تكون من عمل صائغ ذهب وألماس، أكثر من أن تكون حصيلة صراع استراتيجي مركّب.
لم تأخذ سورية صفة ( العقدة الجيو- سياسية ) وطبيعتها، ابتداءً من آذار 2011، عندما اندلعت شرارة الأحداث التي لا تزال نارها مشتعلة فيها، بل هذه العقدة موجودة بحكم الارتسامات السياسية الممتدة خلفاً، والظاهرة بوضوح منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحصول الكيانات السياسية على استقلالها.
كان ( الصراع على سورية ) هو التعبير المُكثِف لمعنى أن تكون مكاناً / ملتقى، مشكّلاً لتلك العقدة التي شهدت بوجود نظام دولي ثنائي، ومع تغيير جذري أجرته على استراتيجتها السياسية، مترافقاً مع تعمير ( مِنصة قوة ) عبّرت عنها حرب تشرين 1973، ومن ثم دخول الجيش إلى لبنان 1976، شهدت هذه العقدة تحوّلاً في التعبير عنها، فأمست ( الصراع مع سورية )، الذي حافظ على انضباطه، بميزان حسّاس، كان وراءه الرئيس حافظ الأسد، حدث ذلك في لجّة متغيرات إقليمية ودولية عاصفة، لكنها لم تخرج عن ضوابط النظام الثنائي القطب إلاّ مع الحرب على العراق 1991، عندما كان أحد طرفي هذا النظام، الاتحاد السوفيتي، يتشّظى استراتيجياً وبنيوياً.
خلال تسعينيات القرن العشرين، وصولاً إلى الحرب الأميركية – الدولية المباشرة على العراق 2003، ظلّت ( المنصّة السورية ) محكومة استراتيجياً بمفردات الصراع مع ( إسرائيل ) في بعده العسكري عبر المقاومة في لبنان، وفي بعده السياسي في إطار المباحثات التي ابتدأت في مؤتمر مدريد 1991، واستمرت شاقّة وطويلة برعاية أميركية، دون أن تتوصل إلى نتيجة نهائية.
مع خروج كولن بأول من دمشق في مطلع أيار 2003، بعد زيارة حمل فيها مطالب رفضتها القيادة السورية، بدأ اللعب بـ ( المنصّة السورية ) يأخذ أبعاداً استراتيجية شديدة الوضوح، تمثلت بالقرار 1559، الذي أخرج الجيش من لبنان، إضافة إلى الإقامة الملغومة والخدّاعة لتركيا وقطر واسترخائهما في مختلف جوانب هذه المِنصة، مروراً بحرب تموز 2006 التي وقفت دمشق فيها بقوة إلى جانب المقاومة، وصولاً إلى اندلاع الأحداث في آذار 2011، التي أفضت على نحوٍ سريع إلى حرب متعددة الأطراف ومتشابكة ( دولية – إقليمية – إرهابية ) نسفت بطريقة دراماتيكية ما تبقى من المكونات التقليدية لمبدأ ( الصراع مع سورية ) وأعادت تركيب مبدأ ( الصراع عليها ) – سيصفها محمد بن جابر آل ثاني رئيس وزراء قطر السابق ، لاحقاً، بـ [ الفريسة ] – لتتشكل تلك ( العقدة المعقدة ) جداً وذلك الملتقى الاستثنائي فيها وعليها.
تتوضّع دمشق الآن، في إطار ( هندسة جيو- سياسية )، مكوناتها مشكلة من خليطِ حلفاء وأعداء! يتوازعون النفوذ المتشابك، ويحفظون ميزان التوافقات والتناقضات، بشكلٍ دقيق وغاية في الحِرفية!
بكل تأكيد، يمكن من جهة الحلفاء، الحديث عن محورٍ قائم، وهو يتشكّل أساساً من دول ومنظمات وحركات وأحزاب، تتجه في حركتها نحو صراع مفتوح مع ( إسرائيل )، وفق استراتيجية تصطدم بالداعم الأكبر لهذا المحور المتمثل بروسيا، التي تعتمد مبدأ الصراع المفتوح مع المنظمات الإرهابية، وفي الوقت نفسه تعمل على ضبط الصراع السوري – الإسرائيلي وإلزامه بتاريخه المحكوم بالقرارات الدولية الواصلة في مرجعيتها إلى القرار 242 عام 1967.
تخوض دمشق نوعاً من الصراع المفتوح مع ( إسرائيل )، ولكنها، رسميّاً، لم تتجاوز سقف القرار الدولي 242 منذ صدوره. بهذا المعنى تتوضع في مركز محور المقاومة، وتترك لنفسها مكاناً إلى جانب روسيا في إطار اعتماد ( الحل الدولي ) لهذا الصراع، وبسبب من ( الوجود الفائض ) لهذه الأخيرة، الآن، على الأرض السورية، فهذا يعني استطراداً، أن المواجهة السورية- التركية، بدورها مرتبطة على نحوٍ مباشر، بالمتطلبات الاستراتيجية الروسية ومصالحها في تركيا. وعلى ذلك لا يمكن الحديث عن مواجهة على جبهة إدلب، إلاّ في حكم هذا الشرط، كما حدث سابقاً في معارك استعادة الطرق الدولية التي تربط حلب بدمشق واللاذقية. ويزيد من تعقيد وآلية اتخاذ القرار بهذا الخصوص العلاقة التركية – الإيرانية المُكره عليها كلٌ منهما.
في جهة الأعداء، يبدو الوجود الأميركي على الأرض السورية، مُكّرساً بالقوة الاستراتيجية الأميركية، أكثر منه بالوجود العسكري المباشر، وذلك في إطار ( التفاهمات الفوقية ) مع روسيا، التي، نظرياً، وضعت قرارها في حالة ( ستاتيكو ) بما يخص الشمال والشرق من سورية، ولا يمكن تحرير قرارها من هذه الحالة إلاّ بأحداث غير متسقة مع تفاهماتها مع كلٍ من تركيا والولايات المتحدة.
الطرفان الوحيدان اللذان يتحركان بحرية نسبية في ( العقدة السورية ) هما ( إسرائيل وتركيا )، وهما من الأعداء، وعلى علاقات مع روسيا والولايات المتحدة في آن، بالمقابل محور الحلفاء أو المقاومة حركته محكومة بحسابات تعود في جانب كبير منها إلى القرار الروسي، كما إلى طبيعة الوضع المعقّد الذي يتمدد عليه هذا المحور من طهران إلى بيروت.
صاحبة ( العقدة الجيو- سياسية )، دمشق، تجد نفسها أسيرة هندسة شديدة الحساسية، لا يمكن تغييرها إلا بعمل هيكلي كبير، لا يبدو متاحاً في الأفق الراهن لأسباب كثيرة ليس أقلها أن وحدة النسيج الاجتماعي السوري مشروخة وممزقة، الأمر الذي يحيل الحديث عن استفاقة مفاجئة للسوريين كي يتكاتفوا ويتوحدوا ويصيغوا مستقبلهم بأيديهم، إلى حلم بعيد، لأن عوامل وحدة المجتمع لها مقومات عميقة ، وتحتاج إلى مراجعة جذرية لمعنى الهوية ومضمونها، والتاريخ وحقيقته والحداثة وثقافتها.