العالم الآن

روسيا السوريّة!

في التوّهم السوري بروسيا!

(روسيا السورّية)، مصطلح نقترحه لتكثيف شرح وتوصيف ما نسميه (التوهّم السوري بروسيا)، وهو ذلك التصوّر الحلمي – من الحلم – الذي يفترض ويرى تطابقاً تاماً بين المصلحة السورية العليا وصنوها الروسية، بما يتجاهل ويتجاوز الشروط والمحددات السياسية التي تنظم العلاقة بين دولتين والاتجاه لاعتبارهما (حالة جيوسياسية موحدة).

في الأصل الراهن لهذا (التوهّم)، تبدو الحاجة المصيرية السوريّة لروسيا واضحة دون أي التباس، والتي وصلت في صيف العام 2015، إلى المرحلة التي كان فيها وجود الدولة مهدداً أكثر من أي يوم مضى منذ الاستقلال في العام 1946. ومع التدخل الروسي المباشر إلى جانب الدولة في وجه الميليشيات الإرهابية المدعومة، بكيفيات خاصة ومتبدلة وحسب الأوليات الاستراتيجية، من تحالف دولي يضم 82 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، بدا وكأن روسيا تضع قدراتها في خدمة الدولة السورية، فبدأ آنذاك (التوهّم) يتأسس وفق مصطلح: روسيا السوريّة، الذي ساد معناه طوال السنوات الماضية بحضور متفاوت الدرجة، وبحسب المناسبات الميدانية العسكرية وطبيعتها، حيث وصل إلى ذروة حضوره مع استعادة حلب (كانون أول 2016) وتدمر (آذار 2017) والغوطة الشرقية (نيسان 2018)، ولكنه سجل تراجعات ملحوظة على ضفة الفرات الشمالية، كما على جبهة إدلب التي وضعت في النهاية، في حالة (ستاتيكو) منذ آذار 2020 بعد لقاء بوتين – أردوغان، في الخامس منه في موسكو، والذي أعقبه دخول مزيد من القوات التركية إلى الأراضي السورية.

في هذه اللحظة، بدأ (التوهّم السوري بروسيا) بالتفكك والتراجع وصولاً لانقلاب المصطلح على نفسه، من روسيا السوريّة إلى سورية الروسيّة!

تفكيك الوهم: (سياق سردي)

تتمثل المحددات والشروط السياسية التي تم تجاهلها، في سياق تشكّل (التوّهم السوري بروسيا/ روسيا السوريّة)، في السياق السردي التالي:

  • تاريخياً، لا تقرأ روسيا وجود إسرائيل، على النحو الرغبوي الذي يمكن أن نتوهمه؟ باعتبارها (عدواً) لها موازياً في معنى عداوته لسورية. هذه القراءة لم تكن موجودة في حقبة الاتحاد السوفيتي، ولم توجد بعد تفكيكه. روسيا على علاقة سياسية مرموقة مع إسرائيل ذات مضامين اقتصادية وثقافية، وذات بعد تاريخي رمزي يتصل بكون الاتحاد السوفيتي هو الدولة الأولى التي اعترفت بإسرائيل بعد إعلان تأسيسها. يكفي أن نقدّر ما معنى أن يشكل اليهود الروس أكثر من خمس يهود إسرائيل.؟

من المؤكد أنَّ الوجود العسكري الروسي المباشر في سورية، لا علاقة له بالصراع مع إسرائيل، بل إن روسيا حفظت لإسرائيل ميزة التدخل في سورية وضرب المواقع العسكرية للجيش السوري وحلفائه دائماً، مع حفاظها على مستوى الدعم العسكري الذي واظبت على تقديمه منذ حرب السادس من تشرين أول 1973. غير أنَّ قواعد صواريخ سام التي أعطت للسلاح السوري ميزة التفوق على الطيران الإسرائيلي في تلك الحرب، انتهت بعدها مباشرة، وحتى قواعد أس أس 300، لم تتمكن من استعادة تلك الميزة.

بهذا المعنى لا يشكل الحضور الروسي المباشر تأثيراً حاسماً على طبيعة الصراع مع إسرائيل، كما أنه من جهة روسيا قد يكون من المستحسن ربط توقف التدخل الإسرائيلي في سورية، بمسألة الوجود الإيراني ودرجته. في هذه الحالة تقدم إسرائيل خدمة استراتيجية خفية أو مبطّنة لروسيا في سورية.

  • بدأ الطيران الروسي ضرباته في 30 أيلول 2015، وبعد أقل من شهرين (24 تشرين ثاني 2015)، أسقطت تركيا طائرة سوخوي روسية فوق الأراضي السورية، في تحدٍ مباشر وصريح لروسيا ومؤداه في النهاية أن تركيا موجودة وترعى (المعارضة المسلحة بأنواعها الإرهابية)، ومستعدة للاشتباك المباشر مع روسيا إن تطلبت ظروف الصراع ذلك.

من المؤكد، أنَّ القيادة الروسية تلقت الرسالة وقرأتها كما تملي عليها الواقعية السياسية ذلك، مع استخدام فلاديمير بوتين خطاباً بإيقاع تاريخي يذكر بالصراع الطويل بين روسيا والامبراطورية العثمانية، ولكنه وحتى في تعبيره عن هذه الحادثة بألم لأنها (طعنة في الظهر)، لم يتردد بقوله: إنها أتت من (شركائنا). فحتى هذه الطعنة المؤلمة والمهينة لم تسقط تركيا من مرتبة الشراكة، بل كانت المناسبة التي سيبُنى عليها من أجل إعطاء هذه الشراكة مضامين متعلقة تحديداً بالمسألة السورية، بالتوافق مع اعتذار أردوغان من بوتين على الحادثة في 27 حزيران 2016.

في 16 تموز، أي بعد أقل من شهر على اعتذار أردوغان، وقعت المحاولة الانقلابية عليه، وفي حين بدأ السوريون بالتهليل لسقوطه الوشيك؟ كانت المفاجأة بأن روسيا قدمت له معلومات استخباراتية أنقذته من هذ السقوط! قد يكون الأمر غريباً ومستهجناً من وجهة المصلحة السورية العليا، ولكن بالتأكيد ومن الوجهة الروسية كان إنقاذه ضرورة استراتيجية ترتبط مباشرة بالضغوط الأميركية والاتحاد الأوروبي، وسورية لم تكن في الحساب الروسي في هذا الموقع.

الاستثمار الروسي لدعم أردوغان في مواجهة الانقلاب عليه، عبّر عنه بشكل واضح تحرير مدينة حلب في 22 كانون أول 2016، الذي شكّل المنصّة التي تمكّن منها بوتين من دعوة تركيا وإيران لبداية مسار أستانه في كانون ثاني 2017. ومن هذه اللحظة اتخذ الحضور الروسي في سورية هيئة الخيار التكتيكي، الذي سيضمن (حقوق الشركاء)!

ومن ضمن هذا الخيار، تمكّنت تركيا من القيام بعمليتي غصن الزيتون 2018، وينابيع السلام 2019، مستكملة عملية درع الفرات التي قامت بها في آب 2016، إضافة لنشر قوات إضافية لها في ادلب بعد اتفاق بوتين – أردوغان في 5 آذار 2020.

الضمانة التي تؤمنها روسيا لسورية في هذا المجال ذات طابع حقوقي سياسي يتمثل في إقرار تركيا من ضمن اتفاقات أستانه بوحدة الأراضي السورية.

إنَّ مستوى العلاقات الاقتصادية بين روسيا وتركيا، والذي يشكّل مشروع السيل التركي عموده الفقري المستقبلي قريباً، إضافة إلى مشاريع الطاقة النووية، مع صفقات السلاح التي يأتي على رأسها صواريخ أس 400 الروسية، إلى المجالات الأخرى التي تؤمن لروسيا تصدير ما يقارب 19 مليار دولار لتركيا قابلة للتضاعف مستقبلاً. إن هذا المستوى كفيل بتفسير المعنى التكتيكي للخيار الروسي في الشمال السوري.

  • تمكّنت روسيا مع الصين، وباستخدام متكرر لـ (الفيتو) في مجلس الأمن،[ استخدمت روسيا حق النقض في مجلس الأمن ما بين تشرين أول 2011 ونيسان 2018، لإحباط قرارات دولية ضد سوريا: 12 مرة]، من إحباط منهجية استنساخ التجربة الليبية سورياً، ما دفع الولايات المتحدة لإنشاء تحالف دولي لمحاربة (تنظيم الدولة الإسلامية – داعش – في سورية والعراق)، من خارج مجلس الأمن، في 11 أيلول 2014، بعد أن بدأت الطائرات الأميركية عملياتها العسكرية فوق الأراضي السورية في اليوم السابق، أي 10 أيلول، لإعلان التحالف. وفي حين شكّلت المساحات التي أخضعها داعش لسيطرته، من دولتي سورية والعراق (المشاع الاستراتيجي) الذي ستعمل واشنطن على إعادة (تدوير ملكيته) لصالحها، بعد إزاحة داعش منها، فإن المساحة المتبقية من الدولة السورية، لم يكن محسوماً مستقبلها بهذا الوضوح، بسبب تعقيدات الصراع فيها والحضور القوي للجيش السوري وحلفائه، وهو ما افتقدته الدولة السورية في منطقة الجزيرة تحديداً.

الواقع الميداني خلال عام من تدخل التحالف الدولي، لم يترك لروسيا خياراً سوى بالتدخل المباشر، في أيلول 2015، لمساندة الدولة السورية ومنع سقوطها، ولكن ضمن الشروط الاستراتيجية التي تُجنّب حصول المواجهة المباشرة بين واشنطن وموسكو.

التزمت موسكو، في سياق تدخلها المباشر في سياق الصراع على الأرض، بهذه القاعدة، التي وفقها أعادت واشنطن تدوير ملكية أراضٍ كانت خاضعة لداعش، لتضعها تحت حراسة قوات سورية الديمقراطية (قسد)، فيما مردودها الاستراتيجي، يظل أميركياً خالصاً.

هكذا، استملكت الولايات المتحدة الأميركية (سورية المفيدة) وتركت (سورية المُنهَكة) للدولة، مع الحضور الروسي المباشر والاستراتيجي.

  • عملية إعادة الإعمار، هو تعبير اقتصادي، ولكنه محشو بمضمون سياسي خالص. ما يسمى بـ (التسوية السياسية) للمسألة السورية، هو ما يشكل ذلك المضمون، الذي سيعطي لعملية إعادة الاعمار طاقة الانطلاق.

والتسوية السياسية، تعني لقاءً على (ما يجمع) بين مختلفين/متناقضين/ متصارعين/ متقاتلين. فإذا كان من المستحيل، الوصول إلى (مشتركات) ما بين محور الدولة وحلفائها من جهة، ومحور التنظيمات المسلحة الإرهابية و(غيرها؟) من جهة مقابلة، فما هو الحل إذاً؟؟

لا حلّ لهذه المسألة المستحيلة، إلاَّ بإسقاط أحد الطرفين، أو إخضاعه بالقوة، أو إعادة إنتاجه على نحوٍ مختلف.

روسيا حاولت كثيراً مع تركيا الوصول إلى إعادة إنتاج طرف بمواصفات سياسية، من ضمن منهجية: فرز المعارضة المعتدلة عن المتطرفة/الإرهابية. لكن هذه المنهجية لم تنجح بسبب من تركيا الدولة الراعية والمستثمرة، وبنية المعارضة التي لا يبدو فيها أية مظاهر تدل على (حالة اعتدال)!!

في الجانب الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، تتمسك (قسد) بالحل الفدرالي، وفي تسمية أخرى بـ (الاستقلال الذاتي)، وقد حاولت روسيا إقناع الدولة السورية بقبول منح (قسد) شيئاً ما من هذا الاستقلال، وهو ما بدا أن الدولة رفضته.

إذاً، التسوية السياسية بعيدة، رغم اجتماعات لجنة صياغة الدستور، وعملية إعادة الاعمار بعيدة، وقانون قيصر الذي بدأ مفعوله في 17 حزيران 2020، لم يستفز أي رد فعل روسي من أي مستوى، حتى زيارة الوفد الروسي الكبير، في السابع من أيلول، الذي ضم سرغي لافروف وزير الخارجية، لا يبدو أن ما توصلّت إليه هذه الزيارة من اتفاقات اقتصادية، قادرة على إنتاج صدمة إيجابية لدى الشعب السوري الذي بدأ يرتاب بالسلوك الروسي إزاء حوادث وكوارث (الحرائق في الجزيرة والجبال الوسطى والساحلية) وقعت دون ملاحظة أية مساعدة جدية تقدمت بها روسيا لتخفيف حدتها والتعويض عن الخسائر التي تسببت بها؟

من المؤكد أن هذا السياق السردي، من شأنه تقديم مساعدة منهجية في عملية تفكيك (التوّهم السوري بروسيا)، وإعادة وضعها والعلاقة معها في حقل المصالح العليا ومضامين الاستراتيجية التي تحققها.

يد القيصر بخمسة أصابع…يا للعجب!

من يتوهّم أنَّ للقيصر أكثر من خمسة أصابع، عليه التأكد بالنظر إلى يديه وتفحصّهما، حتى من وراء شاشة التلفزيون، ليتأكد أنه مثله بخمسة أصابع فقط، وليس أخطبوطاً! ومن يتوهم بأن سوريا – استخدمنا الاسم بالألف على نحو مقصود – هي روسيا، عليه الخروج من وهمه ليتأكد أن سوريا هي وطنه وليست روسيا!

لكن، إن جاء المثل الروسي (حتى يد القيصر لها خمسة أصابع)، لتأكيد القدرات البيولوجية المتساوية ما بين القيصر والفلاح، فإن هذا الأخير سيتساءل مدهوشاً: إن كانت يد القيصر مثل يدي، فلماذا أسكن في كوخٍ وهو يسكن في الكرملين؟

و- ي – ر – ا – س – خمسة حروف عندما يتم تحويلها إلى اسم، لا تخضع لمنهج نمطي مجرد، بل لسياق تاريخي هوياتي.

الاسم الأول: سوريا.

الاسم الثاني: روسيا.

فليس هناك من روسيا السورية، ولا من سوريا الروسية وإن كانت هذه الأخيرة هي القائمة بالمعنى الاستراتيجي الآن.

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق