العالم الآن

روسيا فوبيا

خطاب الحرب وأوهام الليبرالية

هل أسقط القيصر الروسي “فلاديمير بوتين” كذبة الديمقراطية الليبرالية بـ “الضربة القاضية” على الحدود الأوكرانية البولندية التي تعرض اللاجئون فيها، العرب والأفارقة، إلى سلوك عنصري عرقي قميء، وحيث لجأ الخطاب السياسي إلى أقنعةِ، وتضمن صيغاً للمرور ناقلاً معه حمولات أيديولوجية معتادة؟

لعل الجواب هنا يأتي أيضاً بصيغة السؤال على لسان أحد أبرز زعماء النظريّة النقديّة المعاصرة، الفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر، وهو كيف يمكن أن نعيش حياة حقيقية ضمن حياة زائفة؟”. أي لا حياة حقيقية داخل عالم مبني بشكل واسع على اللامساواة والاستغلال والاقصاء كما تشير إليه بتلر في أميركا وأوروبا.

السؤال الذي طرحته الحرب في أوكرانيا كشفت من خلاله أن العدالة والمساواة لم تكن أصلاً حقيقية، وشكل الوصم العرقي انتهاكاً للحقوق المتساوية، وهو لذلك سيبقى سؤالاً يتردد لسنوات وسيرافقه انقسام عالمي، عمودي وأفقي كبير، على الصعيد الإنساني، خصوصاً وأن كذبة العدالة الاجتماعية كان قد سبقها منذ أكثر من عقدين خطاب الكراهية و”الإسلاموفوبيا” وصولاً راهناً إلى “روسيا فوبيا”.

في مقالة له، يقول الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك:

“حين سقطت أفغانستان بيد “طالبان” منذ ستة أشهر، رفضت حكومة “سلوفينيا” استقبال اللاجئين الأفغان، بحجة أنّه من الحريّ بهم أن يبقوا في بلادهم ويقاتلوا. ومنذ بضعة أشهر، حين كان آلاف اللاجئين – معظمهم من كرد العراق – يحاولون دخول بولندا عن طريق بيلاروسيا، عرضت الحكومة السلوفينية المساعدة العسكرية دعماً لجهود بولندا الدنيئة في إبعادهم، زاعمةً أنّ أوروبا تتعرض لهجوم”.

ويتابع جيجيك “لقد برز في أرجاء المنطقة نوعان من اللاجئين، توضح تغريدةٌ للحكومة السلوفينية في الخامس والعشرين من شباط المنصرم، الفارق بينهما: “يأتي اللاجئون الأوكرانيون من بيئة تختلف تماماً في معناها الثقافي والديني والتاريخي عن تلك التي يأتي منها الأفغان”. وبعد احتجاج صارخ، حُذفَت التغريدة بسرعة. لكن الحقيقة الفاضحة انجلت: يجب أن تحمي أوروبا نفسها من غير الأوروبيين”.

العلاقة بين الحقوق الدينية والقوانين العلمانية في الغرب ما تزال فيها محل جدل في العديد من الأحوال المرتبطة بالمهاجرين من ثقافات أجنبية، وهي تصبح أكثر توتراً عندما يتعلق الأمر بالإسلام بسبب انتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا فيه.

ليست حالة العنصرية في المجتمعات الغربية، حصيلة لفعاليات مسلّحة يقوم بها حفنة من المغامرين والقتلة، بل هي نتاج فكري وتربية متشدّدة تسعى إلى بسط نفوذها بالقوة تارة، وبالأيديولوجيات المحرّضة الإقصائية تارة أخرى، ولعلنا لا ننسى كيف وظف النازيون عمل نيتشه لأهداف سياسية، في إشارة إلى كتابه الموسوم بـ”إرادة القوة”. بعض مقاطع الكتاب كانت تشير إلى أنه كان يدافع عن هيمنة الأقوياء على الضعفاء، الأسياد على العبيد ـ وحتى (هيمنة) “عرق سام”. وهنا يبرز دور العالم في التصدي للظاهرة العنصرية والحيلولة دون سعيها الى أن تصبح ظاهرة عامة مُسيطِرة على ثقافة المجتمعات.

ومع ذلك، وكما يعرف الأميركيّون والفرنسيّون – والغربيّون عموماً – اليوم، وكما تشير أرقام الجرائم العنصريّة الطابع لدى قضاء دولهم، فإن تجاهل العنصريّة المبنية على العِرق أو لون البشرة أو امتناع القانون عن الإقرار بها لا يعني بالضرورة انتهاء مفاعيلها في المجتمع الأميركي والغربي، أو انحسار تأثيرها السلبي على حياة كثيرين. بل ولا بدّ للتعامل معها بفاعليّة الإقرار بوجودها كواقع اجتماعي، وهي ما برحت حيّة تغذي جوانب مختلفة من الخطاب المعاصر في الثقافة والسياسة والقانون والسلوك المجتمعي، والطبّ وعلوم الجريمة وغيرها.

وكما نعرف الآن أن تقسيم البشر أعراقاً دعاية مؤدلجة وعلوماً ملفقة بدأ من نقطة محددة في التاريخ ارتبطت بتطوّر النّظام الرأسمالي بصيغته الليبراليّة بدايةً من بريطانيا القرن السابع عشر (وأوروبا على العموم) إلى مآلاته مشروعاً إمبرياليّاً إمبراطوريّاً معولماً، ولاحقاً تلك الحاجة الماسة للأيدي العاملة في المزارع والمصانع في مستعمراتها بالأميركيتين (بعد إبادة أكثر من 90% من سكانهما الأصليين – 50 إلى 70 مليون نسمة – وإبعاد البقيّة إلى معازل تستدعي موتها البطيء).

كانت طروحات المحافظين الجدد واليمين في كل من أميركا وأوروبا من أهم الأطروحات الفكرية التي ساهمت في تنامي ظاهرة العنصرية وإن بعنوان “الإسلاموفوبيا”، وتعزيزها لدى الإنسان الغربي، من خلال التنظير لنظام عالمي جديد أحادي القطب يلي الحرب الباردة، وهو ذلك العالم المليء بالاحتراب، وهذا يعني أن الصراع الحضاري حسب “صمويل هنتنغتون” في “صدام الحضارات” سيكون مبنياً على أسس دينية تتداخل فيه الثقافة والدين والسياسة والاقتصاد في مجال جيوسياسي.

منــذ فــترة ليســت بالقصــيرة، تنبــأت الكثــير مــن الكتابــات بمختلــف أنواعهــا، ومشــاربها، بصعــود مصطلح الرجل القوي، الــذي تجســد لاحقــاً في شــخصية الرجــل الأبيض القــوي الرئيـس الأميركي السابق “دونالـد ترامـب”، ومنـذ ذلـك الوقـت مــا زالــت البحــوث، والكتــب، والمؤتـمـرات المختلفــة في كل بقاع ما اصطلح على تسميته بالعالم الحــر، تناقــش الازمــات المتتاليــة التـي تـمر بهـا الديمقراطيـة الليبراليـة، حيـث تزايـدت التشـخيصات والبحـث عـن الأسـباب والجـذور، منهـا مـا هـو آنٍ، عابـر، ومنهـا مـا هـو عميـق يعـود لخلـل جوهـري في الديقراطيـة ذاتهـا، كطرق تمثيـل الناخبين، أو منهـا مـا يـراه البعـض بأنـه يعبر عن تحولاتٍ يمرُ بها الانســان المعــاصر في مســاراته المختلفــة.

والســؤال هنــا: هــل هــذه اللحظــات التــي صعد فيها خطاب ترامب العنصري هي التي أشّرت لتصاعـد المـد الشـعبوي وجعلتنـا ندخـل في العــصر الشــعبوي والذي جعــل بقــاء واســتمرار الديقراطيــة الليبراليــة محــل شــكٍ كبــير؟

الجواب هنا قد يكون ملتبساًعند استحضارنا لتوجهات “هتلر” لنقول إذا لم تكن فراسة “هتلر” صحيحة عندما استنجد بتعاليم نيتشه وهو يعبث بميراث زرادشت النبي الشقي، فهل ستكون فراسة “ترامب” مقدّرة وهو يفكفك وثيقة “أبراهام لينكولن” الذي منح المواطنين حقوقاً متساوية، بغض النظر عن الطبقة أو اللون أو الدين، وألغى نظام العبودية في الولايات المتحدة الأميركية؟

منذ بدء أحداث ما يسمى بـ “الربيع العربي”، زادت حدة الإسلاموفوبيا، من كراهية الأجانب ومعاداة ما اصطلح عل تسميته بـ “السامية” بالمجتمعات الغربية (مصطلح السامية نفسه هو مصطلح عنصري). وأضحى العرب والمسلمون والأفارقة يجدون صعوبة كبيرة في الحصول على وظائف لائقة ودُفِع بهم تحت “حزام الفقر” بضواحي المدن والمراكز الحضرية، انتهجت الحكومات مخططات جديدة لإدماج المهاجرين حيث شكلت فرصة لتكديسهم في “مكعبات الموت” وإبعادهم اجتماعياً، هوياتياً واقتصادياً، ما أدى إلى ازدياد نسب “الإسلاموفوبيا” بين الطبقات الفقيرة وانتشرت معاداة السامية بالنسبة للطبقات الوسطى والعليا. وقد اعتمدت وسائل الإعلام الغربية التضليل وفي نشر أهوال كاذبة بغرض تزييف الموضوعية، من خلال إضافة رموز جديدة وإعادة تفسيرها، إلى جانب تأويل الصور ومصادر المعلومات والكلمات، لأجل خلق مضمون موازي يصير هو الحقيقي بدلاً من الحقيقة ذاتها، أي ثني الحقائق تدريجياً بدلاً من كسرها، بما يعد تزييفاً للحقيقة وتغييراً للواقع، كما هو حاصل في العملية الخاصة للجيش الروسي في أوكرانيا.

ففي حرب بوتين الاستباقية الدفاعية في أوكرانيا، يحاول القيصر الروسي أن يواجه هجوم “الناتو” المتعدد العناصر من حروب في أحد أوجهها تبدو عرقية دينية ضد (السلاف والأرثوذكس)، واقتصادية وطاقوية، وإعادة تثبيت تمدد الغرب لخطوط هجومه ودفع روسيا للتفكك في المدى المتوسط والبعيد، ولعلنا لا ننسى هنا كيف أنتفض الغرب وتحالف مع العثمانيين ضد روسيا في حرب القرم ‏ (أكتوبر 1853 – فبراير 1856) حيث دفعت فرنسا بـ 600 ألف مقاتل مقابل 350 ألف من بريطانيا داعمين لجيش الدولة العثماني، وهي الحرب التي خسرت فيها روسيا.

القضية المباشرة التي أشعلت الحرب هي حقوق المسيحيين في الأرض المقدسة، الواقعة تحت حكم الدولة العثمانية. تبنى الفرنسيون حقوق الكاثوليك، بينما تبنى الروس حقوق الأرثوذكس. الأسباب بعيدة المدى للحرب تضمنت اضمحلال الدولة العثمانية، وعدم رغبة بريطانيا وفرنسا في السماح لروسيا بالحصول على أراضي أو نفوذ على حساب العثمانيين. خسرت روسيا وانتصر العثمانيون، ليحصلوا على فرصة لالتقاط أنفاسهم لعشرين سنة من الضغط الروسي.

كشفت الحرب في تلك الفترة عن أهمية البحر الأسود وكيفية منع روسيا من أن يكون لها موطئ قدم هناك، ولعل معركة أوديسا هي ما يسعى للسيطرة عليها الجيش الروسي لأهميتها الاستراتيجية على البحر الأسود.

راهنًا كشفت لعبة الشطرنج، أن العقل (أو الفكر) هو الملك الأكبر الذي يهيئ الطريق أمام بوتين للتربّع على عرش الرقعة بعد إزالة كل العوائق؛ في حين لاعب النرد ليس أمامه غير المقامرة بكل شيء. بين بوتين لاعب الشطرنج والرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” لاعب النرد لا يمكن المقارنة بينهما، بل من الظلم تقديم مقارنة تجمع بين الرجلين.

لا يمكن الحكم على السياسة الانفعالية التي يتصف بها رجل أوكرانيا “زيلينسكي” إلا بكونه مغامراً، وهي لطالما كانت، أي السياسة الانفعالية، صفات الرجل الضعيف خلال مواجهته خصماً قوياً كالقيصر “بوتين”، لذلك تتصف سياسته بأنها تشبه سياسة لاعب نرد يقامر ببلاده متوسّلاً (يهوديته) كما كشفها هو في تصريح له وهو يستنجد بيهود العالم، في حين يختار بوتين النقلات بـ”لغة الشطرنج” المناسبة لكي يكون الرد على “زيلينسكي” اللقيط النازي وسياسته الرعناء في مستوى الحدث الكبير الذي يتجه إليه بوتين صعوداً، وهنا ليس من الحكمة اعتماد مبدأ “العين بالعين والسن بالسن” القبلي كأساس لتحديد الأسلوب الذي ستتّبعه روسيا في ردها على التضليل الغربي (الأميركي والأوروبي والناتو).

منَ الصعبِ جداً التعاطي مع السياسة خارج حسابات المصالح، وخارج إطار معرفة ما تتطلَّبه هذه السياسة من إجراءات ومواقف، وعلى وفق بيان حاجتِها إلى المهنية والعقلانية والحكمة، والتي ستجعل من السياسة خطاباً له جمهوره، وله بيئته، وله فاعلوه الرئيسون.

الصراع والتهديد المسلح له مرجعيات اقتصادية أولاً وسياسية ثانياً وإيديولوجية ثالثاً، وأن ما يرسمه البعض لهوية هذا الصراع لا يعدو أن يكون تمثيلاً لفكرة الهيمنة، وللتعبير عن فلسفة القوة، وضبط إيقاع حركة المال والأسواق في العالم عبر الشركات والمؤسسات التي تنظر للدول بوصفها أسواقاً لتصريف بضائعها ليس إلّا، وهذا ما يجعل جغرافيا تلك الحروب قريبة من الممرات المائية، في البحر الأسود، وبحر البلطيق وآزوف وبحر الصين والبحر العربي والبحر المتوسط، إذ لم يفكر أحدٌ من زعماء الحرب بصحراء رومل مثلاً.

اختيار الغرب أوكرانيا كساحة حرب، جاء لوضع الاقتصاد الروسي، أمام اختناقات معقدة، لاسيما الغاز، والسلاح والكافيار وغيرها، فضلاً عن الرغبة الأميركية ـ الأوروبية في عزل سياسات الرئيس بوتين عن التأثير في الصراعات العالمية، وعن علاقته الاستراتيجية مع الصين، واختياره لسياسة نقض المشاريع التي تطرحها أميركا وأوروبا.

هذه الحرب المتفجرة التي وضعت على الطاولة دائماً، أو بين خفايا خطب الرؤساء ووزراء الدفاع ومستشاري الأمن القومي لم تحدث فقط، لأن مساحاتها غير محدودة، ولأن ضحاياها العالم كله، ولأن الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وحتى منصات الحرب السبرانية تكفي للتنفيس عن أوهام تلك الحرب النووية، وربما يذهب الكثير منهم الى لعبة توزيع الحصص الدولية، وبضمانات الأسواق والبنوك والممرات المائية، لكن الحرب الاشهارية ستظل صاخبة، وعبر استعارات مفتوحة، وهي تعيدنا الى سياسة الديمقراطية الغربية القريبة من الكوميديا السوداء.

لقد أكدت الحرب الروسية في أوكرانيا أن العنف ليس نقيضًا للسلم، وإنما هو “ظله” الحاضر باستمرار. في قلب السلم يشتغل العنف بكل دلالاته الرمزية والمادية. يكفي التفكير في القوانين، في اشتغال المؤسسات بتنوعها، في الحياة الاجتماعية… لكي ندرك وهم السلم العام، وهم عالمية القانون ووهم النظام الاجتماعي المسالم، وأنه وراء لعبة السلم، هناك لعبة الحرب، ووراء استراتيجيات التوافقات هناك استراتيجيات الهيمنة.

نظام مارديني

كاتب وصحفي سوري

تعليق واحد

  1. بحث يربط الاسباب بسلسلة تاريخية تحمل الحقائق ليخرج الكاتب بنتيجة منطقية وتحليل مهم تزيح عن الأعين المعماة بالفوبياميديا
    ستارا من الديماغوجية و تلقي الضوء
    صاحب الاضاءات اليومية الباحث ندام مارديني لك التحية وبوركت جهودك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق