في العام 1935، حوّل مصطفى كمال أتاتورك كنيسة آيا صوفيا، التي أمست مسجداً منذ أقل من خمسة قرون، إلى مُتحف ناسفاً الصفة الدينيّة عنها، مستبدلاً بها المعنى الثقافي – التراثي – التاريخي. جاء قرار أتاتورك في إطار عملية تصفية السلطنة العثمانيّة ورموزِها ومعانيها، مقابل تعمير الجمهوريّة التركيّة بصفتها الرئيسة التي أرادها لها: العلمانيّة.
من المؤكد أن أتاتورك تيقّن منذ البداية، أنَّ الجسر الذي بناه الإمبراطور داريوس الأول في القرن السادس قبل الميلاد، والذي، بواستطه، عبرت الجيوش من ضفة إلى أخرى، لا يمكن له أن يحمل وظيفة نقل وجه تركيا الحديثة المتجهة صوب أوروبة. تطلبت هذه العملية مزيداً من الاستكمالات الثقافية التي وصلت إلى تغيير الأبجدية، التي غاب معها اسم السلطنة وسلاطينها.
من بين المدن التركية كلّها، تتخذ إسطنبول مكانة خاصة واستثنائيّة، ولا تتوقف هذه الخصوصيّة عند حدود الدولة التركية الحديثة، بل تمتد تاريخياً لتبدأ من يوم تأسست باسم بيزنطة، لتتحول بعد ألف عام إلى القسطنطينيّة، ولتتحول بعد ألف عام أخرى إلى إسلامبول، ثم لتستوي إلى وضعها الراهن مع تأسيس الجمهورية في العام 1923. على أنَّ التواريخ والأسماء المتوالية على هذه المدينة، تشير إلى طبيعة الحقب التي كانت سائدة وحكمت المجال المتوسطي وجغرافيته السياسيّة لأكثر من ألفي عام.
وإذا كان العام 1453، يعتبر فاصلاً بالنسبة للعثمانيين الذين أسقطوا المدينة وبيزنطة معها، ووضعوا الإسلام على أبواب أوروبة، فإنَّ هذا التاريخ – يا للمفارقة الحادة – يشير إلى نهاية القرون الوسطى الأوروبية، وبداية عصر النهضة الذي أسس الحضارة الغربيّة الحديثة والمستمرة إلى هذا اليوم. ولعل الشيخوخة الإمبراطوريّة البيزنطيّة والرومانيّة عموماً، مقابل العصبيّة العثمانيّة الفتية ( وفق القياس الخلدوني)، أدى إلى اسدال الستار على الصراع المباشر على هذه المدينة، إلى الحرب العالمية الأولى، التي في نهاياتها، لاحت فرصة ذهبية للروس للإستيلاء عليها، غير أن التدخل البريطاني لصالح مصطفى كمال أجهض المحاولة الروسيّة وسلّم المدينة لأتاتورك.
المعنى الامبراطوري وحمولته الزائدة الرازحة فوق القسطنطينية، جعلها حين سقوطها 1453، خارج إطار حسابها كـ (مكان) مستلب من جهة أوروبية محددة، ذلك لأنَّ فيض المعنى (الكوزموبوليتي – العالمي)، أقصاها من أن تُرّصد حقوقيّاً وقوميّاً إلى هوية معينة، وقرّبها لتكون(مشاعاً) يمكن الاستيلاء عليه بوضع اليد، وهذا ما أكده الاسترخاء العثماني السعيد في هذه المدينة طوال هذه القرون.
الآن، تشكّل الإجراءات التي يتخذها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، التي تستهدف تغيير ملامح ومعاني وبالتالي هوية المدينة وأماكنها مثل: ساحة تقسيم، وآيا صوفيا، تشكّل هذه الإجراءات نوعاً من استنساخ الفتح العثماني بالمعنى الثقافي لمدينة حاول أتاتورك تكريسها بملامح علمانية قادرة على إكسابها معنى كونها الرابط المثالي ما بين قارتين وعالمين متباينين ثقافياً.
العلمانية عند أتاتورك، في معناها الحقيقي، كانت استراتيجيّة، من خلالها يمكن إنجاز وترسيخ ( تسوية تاريخيّة) لهذا الجسر الذي يفترض أن يكون رابطاً، لا أن يتحول إلى حاجز!
وإذا كانت إسطنبول، هي الشاهد على صعود نجم أردوغان الذي تولّى عمدتها ذات يوم، فإنها الآن، وبالنسبة إليه، مستلبة و (محتلة) من قبل حزب أتاتورك الذي أوصل أكرم إمام أوغلو إلى كرسي العمدة بعد معركة انتخابية هزم أردوغان فيها لمرتين متتاليتين.
لا شكَّ، أنَّ الصراع على إسطنبول، يوجز الصراع على تركيا وهويتها. بالنسبة لأردوغان لا توجد خطوط حمراء أبداً، يهاجم خصومه بما يملك من أسلحة، خصوصاً الشعبويّة- الأيديولوجيّة الواصلة في مرجعياتها إلى سلجوق! ومع (استفاقة فرويديّة) دائمة عنده، يمكن ملاحظة المحاولة تلو الأخرى التي يقوم بها لقتل أبو تركيا- أتاتورك.
من الوجهة الأوروبيّة، منذ بدأت الحرب على سورية، عمد أردوغان إلى (استيراد واستجلاب) اللاجئين، وتجميعهم وتنظيمهم وإدراج وظيفة وجودهم في إطار استراتيجيته في مواجهة الجانب الآخر من البوسفور: أوروبة. هو الآن أكبر مستثمر لتجارة اللجوء في العالم، وهو لذلك يضع ( جيش اللاجئين) على أبواب أوروبة المرعوبة من (الأسلمة) الديمغرافية الزاحفة نحوها!
إجراءات أردوغان، وانقلاب آيا صوفيا من متحف إلى مسجد، أسقطت اسطنبول وأعادت الأستانة، ومعها سقط الجسر الرابط، وعاد الحاجز.
سقطت التسوية التاريخيّة، وانتعشت جذور الصراع على (مشاعٍ) يُحكم، ولا يُملك.
مقال قييم
اخي نزار تحياتي
مقال راءع يختصر حقبة طويلة من الصراع المستمر.
مقال جميل. شكرا
مقال رائع كالعادة الف شكر لحضرتك على المعلومات القيمه