من قال إنَّ مقالاً لا يزيد حجمه عن 500 كلمة، سيحدث أزمة أو على نحوٍ أدق، سيفاقم من حدة أزمة سياسية نشأت بين دمشق وأنقرة، وسيلحق ضرراً معنوياً، وربما سياسياً، بكاتب لا علاقة له بهذا المقال، لا من قريب ولا من بعيد؟
بلى، حدثت هذه الواقعة في الأسبوع الأول من شهر أيّار 2011.
ما هي قصة هذا المقال؟
منذ صدور جريدة الوطن السّورية في صيف العام 2006، بدأت أكتب فيها مقالاً يُنشر صباح الخميس من كل أسبوع. مكان المقال على الصفحة الأولى في أقصى الجهة اليمنى. بالرغم من عدم وجود عنوان (تحريري) ثابت يميزه، غير أنه يوحي وكأنه المقال المعبّر عن سياسة الجريدة، أي المقال الافتتاحي. وقد واظبت على كتابة هذا المقال دون انقطاع حتى خريف العام 2012، عندما توقفت عن مواصلة كتابته، بقرار شخصي، ولأسباب قد أتحدث عنها في مناسبة أخرى. والواقع أنَّ رئيس التحرير الأستاذ وضّاح عبد ربّه، ومدير التحرير الأستاذ جورج قيصر، كانا يعاملانني بأسلوب راقٍ ومميز كنت أشعر به دائماً، ولم تشب علاقتنا شائبة تذكر إلى هذا اليوم.
ابتدأت الأحداث في سورية في منتصف آذار 2011، وتدحرجت شرارتها خلال أسابيع قليلة، لتلتهب وتأخذ طابعاً عنيفاً كشف على نحوٍ سريع، خطورتها ومآلها ووجهتها، كما أطهر مباشرة المنسوب العالي لحجم التدخل الإقليمي والدولي فيها.
بالنسبة لي، كمراقب، تبيّن لي على نحوٍ لا يدعو للشك، أنَّ تركيا تقوم بدورٍ واضحٍ بدأ يتكشف سريعاً، فيظهر كداعمٍ رئيسي لفصائل بدأت ترتكب المجازر (جسر الشغور)، كما بدأ الخطاب السياسي التركي يغيّر من مصطلحاته وتعبيراته، ويتخلى عن اللغة البروتوكولية المعتادة والسائدة بين الدولتين. حدث ذلك دون أن يلقى أي رد فعل، ولو على نحوٍ مبطن من أي مسؤول سوري!!
يمكنني الافتراض، أنَّ الموقف التركي المستجد شكّل مفاجأة غير قابلة للتصديق السريع والمباشر من قبل الجهاز السياسي السوري، الذي واظب على صمته، في ظلِّ عدم استنفاذ فرص التفاهم مع الجانب التركي عبر القنوات الدبلماسية التي مثّلها أحمد داوود أوغلو من جهة، والعماد حسن تركماني من الجهة السورية.
رغم ثقتي بفهمي وإدراكي لمنهجية الدبلماسية السورية وعاداتها وتمهلها وتروّيها في اتخاذ مواقف حاسمة ونهائية من حدث مستجد ومفاجئ، وخصوصاً إن كان متعلقاً مع من يفترض أنهم (أصدقاء سورية)! – بل تم نعتهم بالأشقاء!! – للتدليل على مستوى الثقة بهم. رغم فهمي لهذا الأمر، قررت أن أخصص مقال الأسبوع الثالث من نيسان، للكتابة عن تركيا. كنت أعتقد أنَّ ما يمنع المسؤول السياسي السوري، أي مسؤول كان، من تناول الموقف التركي، سيمكّنه مقال لكاتب من خارج الدولة، بالمعنى الوظيفي، من تجاوز هذه (الممنوعات) والتحرر من تقاليد المواقف الرسمية ويتيح له إظهار موقف سوري غير رسمي، يعطي لتركيا صورة واضحة عن الكيفية التي ينظر عبرها الشعب في سورية إلى دورها وما تقوم به.
كالعادة التي أتبّعها، أرسلت المقال يوم الأربعاء بواسطة البريد الألكتروني، مع ارتياب شعرت به من أن هذا المقال، ربما لن يصدر ويُنشر، وبسبب هذا الشعور انتظرت حتى الواحدة صباحاً موعد وضع الجريدة على شبكة الأنترنيت لأتأكد بالفعل أن المقال لم ينشر، وامتلأت زاوية اليمين التي يحتلها بأخبار سياسية متنوعة.
علمت لاحقاً، خلال زيارتي لدمشق بعد شهرين، أنَّ إدارة الجريدة فضّلت الاستئناس برأي وزارة الخارجية، لتقديرها بأن هذا المقال ربما سيثير حفيظة الحكومة التركية، فأشارت الوزارة بضرورة التريّث، الذي تدحرج الأحداث وفجاجة التدخل التركي فيها، لم يجعل من وقته طويلاً، فعادت إدارة الجريدة وسحبت مقالي من ملف الانتظار، لتصدر الوطن في الخميس الثاني من أيار وعلى الزاوية اليمنى من صفحتها الأولى، توضّع مقال تحت عنوان: سورية وتركيا و(نموذجها)! بتوقيع نزار سلّوم.
من هنا، سيُفتَحُ فصل جديد من هذه القصة. فصل سيكون بطله الكاتب المعروف السيد عريب الرنتاوي، مدير مركز القدس للدراسات السياسية، الذي مقرّه في عمّان، حيث قام السيد الرنتاوي برواية هذا الفصل من هذه القصة، في مقال له، منشور في جريدة الدستور الأردنية بتاريخ 16 أيار 2011، أي بعد حوالي أقل من أسبوع على صدور المقال في الوطن.
النصّ الكامل لمقال الأستاذ عريب الرنتاوي، كما ورد على موقع مركز القدس للدراسات السياسية، الذي يديره الكاتب نفسه.
قصة مقال…أو غلطة مترجم
مقالات – الدستور- التاريخ: 2011-05-16.
المصدر: الدستور
كتب عريب الرنتاوي
لم تَحُل عطلةُ نهاية الأسبوع، دون قيام زملاء أتراك بإمطاري بوابل من الرسائل القصيرة والطويلة، عبر الهاتف والبريد الالكتروني، تحفل جميعها بمشاعر الصدمة والاستياء من مضمون مقال نشر على الصفحة الأولى لجريدة “راديكال” التركية…المقال حمل بشدة على التجربة الديمقراطية التركية، وسخر من “قوة النموذج التركي” ومهندسه رجب طيب أردوغان، مثلما حمل على السياسة الخارجية التركية ومهندسها الدكتور أحمد داود أوغلو.
الغريب أن المقال حمل توقيعي، وبـ”البونط العريض”، علماً بأن المقال المترجم إلى التركية والمنشور في “راديكال”، جاء متعاكسا مع كل ما كتبته عن التجربة والسياسة الخارجية التركيتين…الأمر الذي أصابني بالدهشة والاستياء الشديدين…فطفقت أبحث في دهاليز القصة وخفاياها وماورائيّها.
لجأت إلى “غوغول”، الصديق الصدوق، الذي أعانني على ترجمة المقال من “التركية” إلى العربية، فاستطعت أن “اتعرف” على فحواه…ذهبت إلى مصدر القصة، فإذا به صحيفة الوطن السورية التي يقال أنها مقربة من النظام السوري، وقد صدرت يوم الخميس الفائت بمقال تحت عنوان [سوريا وتركيا و”نموذجها”] بقلم الزميل السوري نزار سلّوم…وهو المقال الذي اكتشفت في سياق بحثي وتنقيبي، أن صحفاً عربية عدة قد تناقلته تحت عنوان: “أعنف هجوم سوري على تركيا”، وبوصفه دالّاً على الانهيار المتسارع لجسور العلاقة بين دمشق وأنقرة…أنظروا بالله عليكم، أعنف مقال نقدي ضد تركيا وأردوغان وأوغلو، يعاد نشره في أنقرة، وبلسان تركي مبين، وبتوقيع العبد الفقير، كاتب هذه السطور ؟!…علماً بأن المقال السوري في طبعته الأصلية، جاء خالياً تماماً من أي ذكر لي.
اتصلت بالصحيفة التركية، وبعد جهد جهيد، تم إيصالي بالسيدة المسؤولة عن “ديسك الشؤون الدولية”…التي أبدت تفهماً وتعاطفاً معي في هذا المحنة…أعتَذَرَت ووَعَدَت بتصحيح الموقف، طلبت بريدي الالكتروني لموافاتي بكل جديد…الزميل عمر خشرم من مكتب الجزيرة في أنقرة بذل مساعٍ يشكر عليها لتوضيح الصورة…الأصدقاء الأتراك، بعضهم على الأقل، كان نشطاً في نقل توضيحاتي للصحيفة، طالباً الاعتذار والتوضيح…الصحيفة صدرت في اليوم التالي، من دون اعتذار أو توضيح.
نسخت المقال، وأرسلت به إلى كل من طالهم بريدي الالكتروني ورسائلي القصيرة من أصدقائنا الأتراك…الزملاء في مكتب الجزيرة في العاصمة التركية، لم يقصروا جزاهم الله خيراً…الأصدقاء في مؤسسة البحوث السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الزملاء في مركز الدراسات الاستراتيجية التابع لوزارة الخارجية، الصديق الدكتور إبراهيم كولن مستشار الوزير، وآخرون، كان لكل منهم إسهامه في كشف الطابق وتتبع المسألة.
كيف يمكن لخطأ من هذا النوع أن يحدث؟…تساءلت بيني وبين نفسي، وسألت بعض الأصدقاء والمعارف…بعضهم رجّح نظرية المؤامرة كالمعتاد، ولكن من ذا الذي يريد أن يتآمر عليّ، وما الهدف…البعض قال أن في الأمر شبهة استخبارية هدفها البرهنة لتركيا أن أجواء الغضب من سياساتها حيال سوريا، قد طاولت العالم العربي، ولم تبق حبيسة الإطار السوري فحسب، لافتين إلى تقارير ومقالات تتطاير عبر الانترنت بتواقيع مختلفة ومُختَلَقَة…ودائما لتحقيق الهدف ذاته.
التفسير الأكثر ملاءمة، أو الخبر الجيد الوحيد، وسط هذه الأنباء السيئة، هو اكتشافي بأن جريدة “راديكال” كانت اعتادت أن تترجم مقالات لي منشورة في زاويتي اليومية في صحيفة الدستور، وأن الجريدة تحتفظ بأرشيف لهذه المقالات على موقعها الالكتروني، وأن المحرر المسؤول عن الترجمة، كان قد فرغ من ترجمة ونشر مقال لي قبل أيام عن سوريا وتركيا والتطورات الأخيرة…وأن الخطأ وقع هنا، إما بفعل “القص واللصق” أو لأن الاسم ظل عالقاً في ذهن المحرر…خطأ من هذا النوع، تسبب في الإساءة لموقفي وصورتي لدى العشرات من الزملاء والأصدقاء الأتراك ولمدة يوم كامل. وللبحث صلة، إلى أن تصدع الجريدة لحقي الأدبي والقانوني في الاعتذار والتوضيح، وإلا فإن الكلمة الفصل، ستكون للقضاء التركي، العادل والنزيه.
الفصل الأخير في هذه القصة، هو نصُ المقال الذي تسبب بهذه الأزمة وملحقاتها:
سورية وتركيا و(نموذجها)!
نزار سلّوم
يقدّم (النموذج التركي) نفسه، كما يقّدمه المروجون له باعتباره (وصفة سحرية) للعالم الإسلامي، العربي منه خصوصاً. الذي يبدو، بعلاماته وظواهره معانداً ورافضاً الأخذ بمبادئ الدولة الحديثة المحكومة بـ (العلمانية) في مختلف تجلّياتها الحقوقية والثقافية. وفي الوقت الذي كانت فيه هذه (الوصفة – النموذج) من أحد أسباب الفرقة الثقافية والسياسية بين تركيا ودول العالم العربي على مدى أكثر من ثمانية عقود ماضية، يصار إلى تقديمها اليوم كعنصر مقرِّب بين الطرفين، وإن بدا أن الحكومة التركية ليست حريصة تماماً على تقديم (علمانيتها) كما هي، بل ربما تعيد إنتاج مقاربات بعيدة عن فلسفتها، لتستخدمها في إطار تعاطيها الراهن مع مشكلات العالم الإسلامي (العربي) ودوله.
منذ أن بدأت الأحداث الراهنة في سورية منذ أكثر من شهر، بدا الأداء الرسمي التركي متسرّعاً وعلى قدر من الارتجال، فعدا عن (الوعظ الإصلاحي) المتشاوف الذي يمتهنه رجب طيب أردوغان، من أكثر من مِنصة ومنبر أوروبي، بدا مهندس (العثمانية الجديدة) أحمد داوود أوغلو قاصر الحيلة في استنباط حلولٍ لاستعصاءاتٍ مفترضة في التعاطي الصريح والواضح مع هذه الأحداث؟
مع تكشّف طبيعة(هويِّة) بعض فرقاء (المعارضة السورية)، ومنهم خصوصاً (الاخوان المسلمون)، ومع اتخاذ مسؤولهم أحمد الشقفة من إسطنبول كمكان يُطل منه، ومع الدعوة لعقد مؤتمرٍ للمعارضة السورية في إسطنبول نفسها، بدا أن (النموذج التركي) يمرُّ في أحد أكثر الامتحانات التي، سيتوقف على نتيجتها ربما، مصيره هو باعتباره حالة تعود إلى عملية (القطع الآتاتوركي) عام 1923 مع (العثمانية القديمة) التي كان (الإسلام السياسي) أحد أدواتها في تأكيد شرعية سلطة الخلافة وفرضها على العالم العربي، والتي اعتبرها آتاتورك السبب الرئيس الذي أحال تركيا إلى (رجلٍ مريض)، والذي أيضاً وأيضاً بدأ رحلة خروجه وتعافيه من هذا المرض مع فرض (العلمانية) وحمايتها دستورياً بقوة الجيش.
تاريخياً، جاء تأسيس حركة الاخوان المسلمين عام 1928، في أحد معانيه كتعويض عن غياب وسقوط (الخلافة العثمانية)، وعلى ذلك تعتبر رداً على علمانية آتاتورك، بكونها تقدم تفصيلاً دينياً كاملاً في مواجهة التفصيل العلماني عموماً والذي منه الآتاتوركي حتماً.
تاريخياً ومفهومياً، لا لقاء بين النموذج التركي والنموذج الاخواني. على أن هذه الحالة يتم نسفها الآن من خلال التعاطي مع الأحداث في سورية، وهي المرة الأولى، العلنية على الأقل، التي يظهر فيها (النموذج التركي) على علاقة، وربما في طريقه لتبني أكثر الحالات السياسية نقيضاً له ولتاريخه. وليس من المؤكد ما إذا كان ذلك يعود إلى استيقاظات عثمانية ما قبل آتاتوركية، أو إلى أحد الحقول التشاركية مع الاستراتيجية الأميركية التي تعمل راهناً على إعادة إنتاج سلطات إسلامية (غير جهادية) و(نظيفة السلوك) تجاه إسرائيل لتتولى منظومة الدول العربية لعقود عدة قادمة.
أصبح من المعروف أنَّ (النموذج التركي)، بنسخته الراهنة، يرتكز إلى أطروحة (العثمانية الجديدة) لمهندسها أحمد داوود أوغلو، والتي يفترض أن تكون تحديداً التعبير الرئيس عن التغيير الكبير في المدار الاستراتيجي الذي تعمل تركيا على أن تكون من مكوناته، والذي يجد أحد مجسّماته في منظومة الدول الخمس أو البحار الأربعة، وليس في إعادة إنتاج (العثمانية القديمة) المقضية مع كرسي الخلافة في العام 1923؟
وإذا كان الازدهار السياسي والاقتصادي الذي تنعم تركيا به الآن، يدين بمستواه إلى تاريخها العلماني وتصحيحات أوغلو الاستراتيجية، فإن تعاطيها مع المسألة السورية على النحو الذي تمارسه الآن، من شأنه أن يدفع (نموذجها) نحو توضّعات جديدة تشير بأوصافها إلى تراجعه عن ذاته، إذ يلتحف به (نموذج مضاد) من شأنه إذا ما تقدم أن يحيل النموذج العلماني التركي أثراً بعد عين. آنذاك سيصبح نفسه بحاجة إلى وصفة سحرية لا تعود موجودة في عالم إسلامي خالٍ من مناخات العلمانية ومحكوم بالتفصيلات (الاخوانية) المرهقة للمجتمع والمعطلة له.
سورية الآن، بأحداثها، هي الامتحان الأهم للنموذج التركي وقدرته على الإخلاص لذاته وتاريخه، أو الانقلاب على هذا التاريخ وخيانته!
انتهى
خلاصة نهائية: رغم اعتبار هذا المقال دلالة على حدة الأزمة بين أنقرة ودمشق، غير أن الدبلماسية السورية واظبت على نهجها وتروّيها، وكررت الجريدة السيناريو نفسه مع مقالٍ آخر لي جاء بعنوان: لاجئون أم رهائن؟ كتبته عندما رأيت خيام اللجوء تُنصب في الاسكندرون قبل أن يغادر سوري واحد بيته!
من جهة متممة لا أدري إن كان الأستاذ عريب الرنتاوي قد أخذ ما طالب به وصحح صورته وأعادها كما كانت عليه لدى الأوساط التركية؟ غير أن ما هو مؤكد لي أن النموذج التركي أصبح أثراً بعد عين كما قلت تماماً في العام 2011.
الرائي غريب ووحيد سواء كان في وطنه أم في المنفى.